ج3 وج4. الكتاب : الاعتصام المؤلف : الشاطبي
فصل ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها ومعمولا بها ومتخذة فيها كالدين المنتسب والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا وهو على أنواع :
فجاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :
الأول منها : نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها
والثاني : نكاح الاستبضاع كالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع
والثالث : أن يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع منهم رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت بإسمه فيلحق به ولدها فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل
والرابع : أن يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تنمع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم وهذا الحديث في البخاري مذكور
وكان لهم أيضا سنن أخر في النكاح خارجة عن المشروع كوارثة النساء كرها وكنكاح ما نكح الأب وأشباه ذلك جاهلية جارية مجرى المشروعات عندهم فمحا الإسلام ذلك كله والحمد لله
ثم أتى بعض من نسب إلى الفرق ممن حرف التأويل في كتاب الله فأجاز نكاح أكثر من أربع نسوة إما اقتداء ـ في زعمه ـ بالنبي صلى الله عليه و سلم حيث أحل له أكثر من ذلك أن يجمع بينهن ولم يلتفت إلى إجماع المسلمين أن ذلك خاص به عليه السلام وإما تحريفا لقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع }
فأجاز الجمع بين تسع نسوة ذلك ولم يفهم المراد من الراوي ولا من قوله : { مثنى وثلاث ورباع } فأتى ببدعة أجراها في هذه الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها
ويحكى عن الشيعة أنها تزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم أسقط عن أهل بيته ومن دان بحبهم جميع الأعمال وأنهم غير مكلفين إلا بما تطوعوا وأن المحظورات مباحة لهم كالخنزير والزنا والخمر وسائر الفواحش وعندهم نساء يسمين النوابات يتصدقن بفوجهن على المحتاجين رغبة في الأجر وينكحون ما شاؤوا من الأخوات والبنات والأمهات لا حرج عليهم في ذلك ولا في تكثير النساء وهؤلاء العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية
ومما يحكى عنهم في ذلك أنه يكون للمرأة ثلاثة أزواج وأكثر في بيت واحد يستدلونها وتنسب الولد لكل واحد منهم ويهنأ به كل واحد منهم كما التزمت الإباحية خرق هذا الحجاب بإطلاق وزعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة فالنساء بإطلاق حلال لهم كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضا مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } فصاروا أضر على الدين من متبوعهم إبليس لعنهم الله كقوله :
( وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى ... بي الفسق حتى صار إبليس من جندي ! )
( فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ! )
فصل ومثال ما يقع في العقل أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع ومثال ما يقع في العقل أن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله ولذلك قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وقال : { إن الحكم إلا لله } وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث
فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع وأنه محسن ومقبح فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه
ومن ذلك أن الخمر لما حرمت ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو ويشربها قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية تأولها قوم ـ فيما ذكر ـ على أن الخمر حلال وأنها داخلة تحت قوله : فيما طعموا
فذكر إسماعيل بن إسحاق عن علي رضي الله عنه قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان فقالوا : هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية : { ليس على الذين آمنوا } الآية قال فكتب فيهم إلى عمر
قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم وعلي رضي الله عنه ساكت قال : فما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به
فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب وشهد فيهم علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة بأنهم شرعوا في دين الله وهذه هي البدعة بعينها فهذا وجه
وأيضا فإن بعض الفلاسفة الإسلاميين تأول فيها غير هذا وأنه إنما يشربها للنفع لا للهو وعاهد الله على ذلك فكأنها عندهم من الأدوية أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء
ورأيت في بعض كلام الناس ممن عرف عنه أنه كان يستعين في سهره للعلم والتصنيف والنظر بالخمر فإذا رأى من نفسه كسلا أو فترة شرب منها قدر ما ينشطه وينفي عنه الكسل بل ذكروا فيها أن لها حرارة خاصة تفعل أفعالا كثيرة تطيب النفس وتصير الإنسان محبا للحكمة وتجعله حسن الحركة والذهن والمعرفة فإذا استعملها على الاعتدال عرف الأشياء وفهمها وتذكرها بعد النسيان
فلهذا ـ والله أعلم ـ كان ابن سينا لا يترك استعمالها ـ على ما ذكر عنه ـ وهو كله ضلال مبين عياذا بالله من ذلك
ولا يقال : إن هذا داخل تحت مسألة التداوي بها وفيها خلاف شهير لأنا نقول : إنما ثبت عن ابن سينا أنه كان يستعملها استعمال الأمور المنشطة من الكسل والحفظ للصحة والقوة على القيام بوظائف الأعمال أو ما يناسب ذلك لا في الأمراض المؤثرة في الأجسام وإنما الخلاف في استعمالها في الأمراض لا في غير ذلك فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة الله مبتدعون فيها وقد تقدم رأي أهل الإباحة في الخمر وغيرها ولا توفيق إلا بالله
فصل ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا : إنما البيع مثل الربا
ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا : { إنما البيع مثل الربا } فإنهم لما استحلوا العمل به واحتجوا بقياس فاسد فقالوا : إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهرين فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } أي : ليس البيع مثل الربا فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد فكان من جملة المحدثات كسائر ما أحدثوا في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر
وكانت الجاهلية قد شرعت أيضا أشياء في الأموال كالحظوظ التي كانوا يخرجونها للأمير من الغنيمة حتى قال شاعرهم :
( لك المرباع فيها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول )
فالمرباع : ربع المغنم يأخذه الرئيس والصفايا : جمع صفي وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه فكان يختص به الرئيس دون غيره والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة
وكانت تتخذ الأرضين تحميها عن الناس أن لا يدخلوها ولا يرعوها فلما نزل القرآن بقسمة الغنيمة في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية راتفع حكم هذه البدعة إلا بعض من جرى في الإسلام على حكم الجاهلية فعمل بأحكام الشيطان ولم يستقم على العمل بأحكام الله تعالى
وكذلك جاء في الحديث :
[ لا حمى إلا حمى الله ورسوله ] ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله على سبيل حكم الجاهلية { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلا في الشريعة مطردا لا ينخرم وعاما لا يتخصص ومطلقا لا يتقيد وهو أن الصغير من المكلفين والكبير والشريف والدنيء والرفيع والوضيع في احكام الشريعة سواء فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل خرج من السنة إلى البدعة ومن الاستقامة إلى الإعوجاج
وتحت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الموقع لعلها تذكر فيما بعد إن شاء الله وقد أشير إلى جملة منها
فصل إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله صلى الله عليه و سلم :
[ كل بدعة ضلالة ]
لكن يبقى ها هنا إشكال وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وقوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } { ومن يهد الله فما له من مضل } وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال فإنه بقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى
ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع المكروهة من الأفعال كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة
والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك
ونظيره في الحديث :
[ نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ] فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص مع أن الطاعة ضدها المعصية وفاعل المندوب مطيع لأنه فاعل أمر به فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصيا لأنه فاعال ما نهي عنه لكن ذلك غير صحيح إذ لا يطلق عليه عاص فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالا وإلا فلا فرق بين إعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية
إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه لكن هذا باطل فما لزم عنه كذلك
والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت ـ كما تقدم بسطه ـ وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجري على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهي المباح وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح
فالمأر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها التخيير
وإذا تأملنا المكروه ـ حسبما قرره الأصوليون ـ وجدناه ذا طرفين :
طرف من حيث هو منهي عنه فيستوي مع المحرم في مطلق النهي فربما يتوهم أن مخالفة نهي الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة
غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية
وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع وقد قال الله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } فليس إلا حق وهو الهدى وضلال وهو الباطل فالبدع المكروهة ضلال
وأما ثانيا : فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص
أماالشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم رد على من قال :
[ أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ] وقال الآخر : [ أما أنا فلا أنكح النساء ] إلى آخر ما قالوا فرد عليهم ذلك صلى الله عليه و سلم وقال : [ من رغب عن سنتي فليس مني ]
وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر وكذلك ما في الحديث [ أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مره فليجلس وليستظل وليتم صومه ] قال مالك : أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية
ويعضد هذا الذي قاله مالك ما في البخاري عن قيس بن أبي حازم قال دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال :
ما لها فقال حجت مصمتة قال لها : تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت الحديث إلخ
وقال مالك أيضا في قوله عليه الصلاة و السلام :
[ من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه ] إن ذلك أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام وإلى مصر وأشباه ذلك مما ليس فيه طاعة أو أن لا أكلم فلانا فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشي إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره
فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي حتى فسر فيها الحديث المشهور مع أنها في أنفسها أشياء مباحات لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله وكلية قوله : [ كل بدعة ضلالة ] شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد وهي خاصية المحرم
وقد مر ما روى الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ! من أين أحرم ؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد : فقال : لا تفعل قال : غني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة قال : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إني سمعت الله تعالى يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد الله ورسول الله صلى الله عليه و سلم وموضع قبره لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادىء الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة واستدل بالآية فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ في معنى الآية فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة ؟
وقال ابن حبيب : أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول : التثويب ضلال ؟ قال مالك : ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خان الدين لأن الله تعالى يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا
وإنما التثويت الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح وهو قول إسحاق بن راهوية أنه التثويب المحدث
قال الترمذي لما نقل هذا عن سحنون : وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه و سلم وإذا اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادىء الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة
وقصة صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى فحكة ابن وهب قال : حدثنا مالك بن أنس قال : جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه ويقول : من يتفقه يفقهه الله من يتعلم يعلمه الله فأخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضربه بالجريد الرطب ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه فقال : يا أمير المؤمنين ! إن كنت تريد قتلي فأجهز علي وإلا فقد شفيتني شفاك الله فخلاه عمر
قال ابن وهب : قال مالك وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغا حين بلغه ما يسأل عنه من القرآن وغير ذلك اهـ
وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبني عليها عمل وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن السابحات سبحا والمرسلات عرفا وأشباه ذلك والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه إذ لا يستباح دم امرىء مسلم ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه ضربه إياه خوف الابتداع في الدين أن يشتغل منه بما لا ينبني عليه عمل وأن يكون ذلك ذريعة لئلا يبحث عن المتشابهات القرآنية ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { وفاكهة وأبا } قال : هذه الفاكهة فما الأب ! ثم قال : ما أمرنا بهذا
وفي رواية : نهينا عن التكلف
وجاء في قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث أنه ضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال له صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أب موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه أحد من المسلمين فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت سيئتة فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته والشواهد في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين { وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم }
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك
وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله لا لأنه بدعة مكروهة على تفصيل يذكر في موضعه
وأما ثالثا : فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة وبيان ذلك من أوجه :
أحدها : أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه ويود لو لم يفعل وايضا فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال فإنه يعد ما دخل فيه حسنا بل يراه أولى بما حد له الشارع فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه ؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلا ونحلته أولى بالاتباع هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله
وقد مر في أول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق وكذلك مر في آخر الباب أيضا أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق ما أشير إليه ها هنا وبالله التوفيق
والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس
فصل إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة
إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة ـ حسبما تبين في علم الأصول الدينية ـ فكذلك يقال في البدع المحرمة : إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال وكل ما نص عليه راجع إليها وما لم ينص عليه جرت في الإعتبار والنظر مجراها وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه
فكذلك نقول في كبائر البدع : ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة وما لا فهي صغيرة وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار ـ حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلا وإما فرعا لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوافيه أو ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات وإن قلنا بدخولها في العادات بل تمنع في الجميع وإذا كانت بكليتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال بأول الضروريات وهو الدين وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة وقال في الفرق :
[ كلها في النار إلا واحدة ] وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل
وهذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان وكذلك سائرها مع الإخلال فكل منها كبيرة فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة
ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه :
أحدها : أنا نقول : الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها وقطع عضو واحد كبيرة دونها وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى اللطمة ثم إلى أقل خدش يتصور فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة كما قال العلماء في السرقة : إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر وهذا في ضرورة الدين أيضا
فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال :
أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإيمان عروة عروة وليصلين نساء وهن حيض ـ ثم قال ـ حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } لا تصلن إلا ثلاثا وتقول أخرى : إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة ما فينا كافر حق على الله أن يحشرهما مع الدجال فهذا الأثر ـ وإن لم تلتزم عهده صحته ـ مثال من أمثلة المسألة
فقد نبه على أن في آخر الزمان من يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس وبين أن من النساء من يصلين وهن حيض كأنه يعني بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة فهذه مرتبة دون الأولى
وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات ثم وقع في العتبية قال ابن القاسم : وسمعت مالكا يقول : أول من أحدث الاعتماد في الصلاة ـ حتى لا يحرك رجليه ـ رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) قال : قد عيب ذلك عليه وهذا مكروه من الفعل قالوا : ومساء أي يساء الثناء عليه
قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة قاله في المدونة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين وهو من محدثات الأمور : انتهى
فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر ـ فيقال في مثله : إنه من كبار البدع كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة
والثاني : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن وبدعة الخوارج في قولهم : لا حكم إلا لله وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع بل ستجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك : التثوب ضلال وبدعة الأذان والإقامة في العيدين وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلا لها
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصا به لا عاما فيه وفي غيره ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد فلا قطع على أن جميعها من واحد وقد ظهر وجه انقسامها
والثالث : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ولا شك أن البدع من جملة المعاصي ـ على مقتضى الأدلة المتقدمة ـ ونوع من أنواعها فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضا ولا يخصص وجوها بتعميم الدخول في الكبائر لأن ذلك تخصيص من غير مخصص ولو كان ذلك معتبرا لاستثني من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام فظهر أنه شامل لجميع أنواعها
فإن قيل : إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقا وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف والخفة هل تنتهي إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم ؟ هذا فيه نظر وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع
وأما في البدع فثبت لها أمران :
أحدهما : أنها مضادة للشارع ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له
والثاني : أن كل بدعة ـ وإن قلت ـ تشريع زائد أو ناقص أو تغير للأصل الصحيح وكل ذلك قد يكون على الانفراد وقد يكون ملحقا بما هو مشروع فيكون قادحا في المشروع ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا لكفر إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قل أو كثر ـ كفر فلا فرق بين ما قل منه وما كثر فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير
ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني
وأما الثالث : فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام : [ كل بدعة ضلالة ] وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار إما بإعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض فالأشد عقابا أكبر مما دونه وإما بإعتبار فوت المطلوب في المفسدة فكما انقسمت الطاعة بإتباع السنة إلى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل والصغر والكبر من باب النسب والإضافات فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقاسم المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال : المرضي عندنا أن كل ذنب كبير وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ولذلك يقال : معصية الله أكبر من معصية العباد قولا مطلقا إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها ثم ذكر معنى ما تقدم ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب الموافقات ولكن الظاهر يأبى ذلك ـ حسبما ذكره غيره من العلماء ـ والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غص من جانبها بل صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفتة لحكمها
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ولذلك قال مالك بن أنس : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } إلى آخر الحكاية وقد تقدمت
ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال : أي فتنة فيها ؟ إنما هي أميال أزيدها فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى آخر الحكاية وقد تقدمت أيضا فإذا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة
فالجواب : ان ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة
وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالما بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك وغير العالم بكونها بدعة على ضربين وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له فلا بد له من تأويل كقوله : هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول : إنها بدعة ولكني رأيت فلانا الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه أو فرارا من خوف على حظه أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه وما أشبه ذلك
وأما غير العالم وهو الواضع لها لأنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة بل هي عنده مما يلحق المشروعات كقول من جعل يوم الإثنين يصام لأنه يوم مولد النبي صلى الله عليه و سلم وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لأنه عليه السلام ولد فيه وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية أو رغب في الدعاء بهئية الاجتماع في أدبار الصلوات دائما بناء على ما جاء في ذلك حالة الواحدة أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه و سلم فلما قيل له : إنك تكذب عليه وقد قال :
[ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] قال : لم أكذب عليه وإنما كذبت له أو نقص منها تأويلا عليها لقوله تعالى في ذم الكفار : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } فأسقط اعتبار الأحاديث المنقوله بالآحاد لذلك ولما أشبه لأن خبر الواحد ظني فهذه كلها من قبل التأويل
وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول : فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويثني عليه كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ومنهم من مات بسببه وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف
وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد و البسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنة بحثا بل يدخلون تحت أذيال التأويل إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلا
وإذا كان كذلك فقول مالك : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم خان الرسالة وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة : أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إلى آخر الحكاية إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا لأنه يقول : قصدت إليه قصدا لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ولازم المذهب : هل هو نذهب أم لا ؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا : أن لازم المذهب ليس بمذهب فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار فإذا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر فكذلك البدع
ثم إن البدع على ضربين : كلية وجزئية فأما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات حسبما يتبين بعد إن شاء الله
وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار وإن دخلت تحت الوصف بالضلال كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبه وإن كان داخلا تحت وصف السرقة بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في
فصل وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط :
أحدها : أن لا يدوام عليها فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه لأن ذلك ناشىء عن الإصرار عليها والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ولذلك قالوا : [ لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار ] فكذلك البدعة من غير فرق إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها وقد لا يصر عليها وقد لا يصر عليها وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطه الشاهد بها أو عدمه بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة وتنطلق عليه ألسنة الملامة ويرمى بالتسفيه والتجهيل وينبز بالتبديع والتضليل ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة والمقتدى بهم من الأئمة والدليل على ذلك الاعتبار والنقل فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى
وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيا وليست كذلك المعاصي فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق حيث جاء في بعض الروايات :
تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها حسبما تقدم
والشرط الثاني : أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه فإنه الذي أثارها وسبب كثرة وقوعها والعمل بها فإن الحديث الصحيح قد أثبت :
[ أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ] والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته فربما تساوي الصغيرة ـ من هذا الوجه ـ الكبيرة أو تربى عليها
وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج فإن المعصية فيما بين العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما يتعذر عليه مع الدعاء إليها وقد مر في باب ذم البدع وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله
والشرط الثالث : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو بمن يحسن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام فإنها لا تعدو أمرين : إما أن يقتدى بصاحبها فيها فإن العوام أبتاع كل ناعق لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس والتي للنفوس في تحسينها هوى وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر
وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي فإن العالم مثلا إذا أظهر المعصية ـ وإن صغرت ـ سهل على الناس ارتكابها فإن الجاهل يقول : لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب لم يرتكبه وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى فيها لا محالة فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه بل البدعة أشد في هذا المعنى إذ الذنب قد لا يتبع عليه بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالما بأنها بدعة مذمومة فحينئذ يصير في درجة الذنب فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك فإن كان داعيا إليها فهو أشد وإن كان الإظهار باعثا على الاتباع فبالدعاء يصير أدعى إليه
وقد روي عن الحسن أن رجلا من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فيجعل يبكي ويعج إلى ربه فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب فكيف بمن ضل فصار من أهل النار ؟
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر فكأن المظهر لها يقول : هذه سنة فاتبعوها
قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه : فحبس فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في لاصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا في غيره
وفي رواية عن ابن مهدي قال : فقال : يا عبد الرحمن ! تصلي مستلبا ؟ فقلت : يا أبا عبد الله إنه كان يوما حارا ـ كما رأيت فثقل ردائي علي فقال : آلله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه ؟ قلت : آلله قال : خلياه
وحكى ابن وضاح قال : ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك فأرسل إليه مالك فجاءه فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون فقال له مالك : لا تفعل لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال له : ما الذي تفعل ؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن ؟ فقال : إنما نهيتني عن التثويب فقال له : لا تفعل فكف زمانا ثم جعل يضرب الأبواب فأرسل إليه مالك فقال : ما هذا الذي تفعل : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فقال له مالك : لا تفعل لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه
قال ابن وضاح : وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنما أحدث هذا بالعراق قيل ل ابن وضاح : فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار ؟ فقال : ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمرا محدثا وقد قال في التثويب : إنه ضلال وهو بين لأن :
[ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ] ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثا أحدثه
وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم أصبح ولله الحمد إشعارا بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ولحضور الجماعة وللغد ولكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان ونقل أيضا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها فصار ذلك كله سنة في المساجد إلا الآن فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا نظير قولهم عندنا : الصلاة ـ رحمكم الله
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل مسجدا أراد أن يصلي فيه فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال : اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه قال ابن رشد : وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله : حي على الصلاة : ثم ـ قال ـ وقيل : إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه : حي على خير العمل لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة ووقع في المجموعة : أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه كفعل ابن عمر رضي الله عنهما
وفي المسألة كلام المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك : إنه ضلال والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة أو في المواطن التي تقام فيها السنن والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة لأنها إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها فكان وزر ذلك عائدا على الفاعل أولا فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته
والشرط الرابع : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها ـ وإن فرضناها صغيرة ـ فإن ذلك استهانة بها والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير وذلك أن الذنب له نظران : نظر من جهة رتبته في الشرط ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير لأنا نضعه حيث وضعه الشرع وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك جدا إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين ـ المواجهة بالكبيرة والمواجهة بالصغيرة
والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلا لأن تصورها موقوف عليهما فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا يتنافيان لأنهما اعتباران من جهتين : فالعاصي وإن كان يعمل المعصية لم يقصد بتعمده الاستهانة بالجانب العلي الرباني وإنما قصد اتباع شهوته مثلا فيما جعله الشارع صغيرا أو كبيرا فيقع الإثم على حسبه كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع وإنما قصد الجري على مقتضاه لكن بتأويل زاده ورجحه على غيره بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع فإنه إنما تهاون بمخالفة الملك الحق لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة والتهاون بها عظيم ولذلك يقال : لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظيمة من واجهته بها
وفي الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم الحج الأكبر قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا لا يجني جان إلا على نفسه ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا ولا تكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به ] فقوله عليه الصلاة و السلام : [ فسيرضى به ] دليل على عظم الخطب فيما يستحقر
وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام فإنه ذكر في الإحياء أن مما تعظم به الصغيرة أن يستصغرها ( قال ) : فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله وكلما استصغره كبر عند الله بين ذلك وبسطه
فإذا تحصلت هذه الشروط فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة أو خيف أن تصير كبيرة كما أن المعاصي كذلك والله أعلم
الباب السابع : في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية ؟
قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه : هل يدخل في الأمور العادية أم لا ؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها وهي عامة الباب إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية وإما أعمال جوارح من قول أو فعل وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع كالمكوس والمحدثة من المظالم وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان ولبس الطيالس وتوسيع الأكمام وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام وذهب إليه بعض السلف
فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد ـ قال محمد بن القاسم الطوسي ـ فقال : اشتر لي كبشين عظيمين ودفع إلي دراهم فاشتريت له وأعطاني عشرة أخرى وقال لي : اشتر بها دقيقا ولا تنخله واخبزه قال : فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به فقال : نخلت هذا ؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال : اشتر به دقيقا ولا تنخله واخبزه وحملته إليه فقال لي : يا أبا عبد الله العقيقة سنة ونخل الدقيق بدعة ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهوية حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه الصلاة و السلام :
[ عليكم بالسواد الأعظم ] فقال : محمد واصحابه حسبما يأتي ـ إن شاء الله ـ في موضعه من هذا الكتاب
وأيضا فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لأنه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر
ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته فتدخل فيما تقدم تمثيله لأنها من جنس واحد
ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
من كره من أميره شيئا فليصبر ] وفي رواية [ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية ]
وفي الصحيح أيضا :
[ إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتقارب الزمان ويقبض العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج قال : يا رسول الله أيما هو ؟ قال : القتل القتل ] وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج والهرج القتل ]
و [ عن حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا : أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ] وحدثنا عن رفعها ثم قال : [ ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه ينتثر وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل : ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده ! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ] الحديث
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول وحتى يقبض العلم ثم قال : وحتى يتطاول الناس في البنيان ] إلى آخر الحديث
وعن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ يخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ]
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا ] وفي ذلك الحسن قال : يصبح محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلا له كأنه تأوله على الحديث الآخر
[ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] والله أعلم
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا ويشرب الخمر وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد ]
ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا صار المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا أو مسخا وقذفا ]
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا
وفيه : [ ساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم ] وفيه : [ ظهرت القيان والمعازف ] وفي آخره : [ فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع ]
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو ـ في الحقيقة ـ تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها فلما عوضوا منها غيرها وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع ما قاله الأولون
أما ما تقدم عن القرافي وشيخه فقد مر الجواب عنه فإنها معاص في الجملة ومخالفات للمشروع كلمكوس والمظالم وتقديم الجهال على العلماء وغير ذلك
والمباح منها كالمناخل إن فرض مباحا ـ كما قالوا ـ فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع فيه
وإن فرض مكروها ـ كما أشار إليه محمد بن أسلم ـ فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات إذ في الأمر : أول ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المناخل ـ أو كما قال ـ فأخذه بظاهر اللفظ من أخذ به كمحمد بن أسلم
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } الآية لا من جهة أنه بدعة
وقولهم : كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات مسلم وليس كلامنا في الجواز العقلي وإنما الكلام في الوقوع وفيه النزاع
وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعنى وأيضا إن عدوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعا وهذا شنيع فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والإسم فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم هذا من المستنكر جدا
نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكلام والسنة
وأيضا فقد يكون التزام الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والأحوال والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثم معارض
وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى متقدم الزمان فإن الخير كان أظهر والشر كان أخفى وأقل بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس والشر فيه أظهر والخير أخفى
وأما كون تلك الأشياء بدعا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة فراجع النظر فيها تجده كذلك
والصواب في المسألة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين وتحقق المقصود في الطريقتين وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب فلنفرده في فصل على حدته والله الموفق للصواب
فصل أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين : أحدهما : أن يكون من قبيل التعبدات والثاني : أن يكون من قبيل العادات
فأما الأول : فلا نظر فيه ها هنا
وأما الثاني : وهو العادي فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها فمنهم من يرشدألأ كلامه إلى أن العاديات كالعباديات فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات وهو كلام محمد بن اسلم حيث كره في سنة العقيقة مخالة من قبله في أمر عادي وهو استعمال المناخل مع العلم بأنه معقول المعنى نظرا منه ـ والله أعلم ـ إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد ويظهر أيضا من كلام من قال : أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المناخل
ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال : لولا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت والسكنى أمر عادي بلا إشكال
وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات فدخول الابتداع فيه ظاهر والأكثرون على خلاف هذا وعليه نبني الكلام فنقول :
ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي لأن أحكامها معقولة المعنى ولا بد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها كانت اقتضاء أو تخييرا فإن التخيير في التعبدات إلزام كما أن الاقتضاء إلزام ـ حسبما تقرر برهانه في كتاب الموافقات ـ وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعباديات وإلا فلا
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي من جواز وضع المكوس في معاملات الناس فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتا ما أو في حالة ما لنيل حطام الدنيا على هئية غصب الغاصب وسرقة السارق وقطع القاطع للطريق وما أشبه ذلك أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائما أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك
فأما الثاني فظاهر أنه بدعة إذ هو تشريع زائدة وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعبدين بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك لأنه شرع مستدرك وسن في التكليف مهيع فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران : نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ونظر من جهة كونها اختراعا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف فاجتمع فيها نهيان : نهي عن المعصية ونهي عن البدعة وليس ذلك موجودا في البدع في القسم الأول وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية بل نفس التشريع هو نفس الممنوع
وكذلك تقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق التوريث هو من قبيل ما تقدم فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الأب ـ وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب ـ بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بدعة بلا إشكال زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله وهو الذي بينه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ] وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم
وأما إقامة الأئمة والقضاء وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا وذلك صحيح فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدا وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعا خارجا عن قبيل المصالح المرسلة بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به أو يكون ذلك مما يعد خاصا بالأئمة دون غيرهم كما يزعم بعضهم : أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان أو يقول : إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم
ويشبهه على قرب زخرفة المساجد إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقا في سبيل الله وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره أو قصد ذلك في فعله أولا بأنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن الله به وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه الزخارف بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرفع ـ هذا إن صح ما قال وإلا فلا يعول على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين وأحرى ألا ينبني عليه حكم
وأما مسألة المناخل فقد مر ما فيها والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع فلا نطول به وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها وقد تقدم أيضا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه
وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات على ما أريد تحقيقه فنقول : إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة يمكن ردها إلى أصول هي كلها أو غالبها بدع وهي قلة العلم وظهور الجهل والشح وقبض الأمانة وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر وكون المغنم دولا والزكاة مغرما وارتفاع الأصوات في المساجد وتقديم الأحداث ولعن آخر الأمة أولها وخروج الدجالين ومفارقة الجماعة
أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفرغ للدنيا وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم ـ حسبما جاء في الحديث الصحيح :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ] إلى آخره ـ وذلك أن الناس لا بد لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم وإلا وقع الهرج وفسد النظام فيضطرون إلى الخروج إلى من انتصب لهم منصب الهداية وهو الذي يسمونه عالما فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين لأن الفرض أنه جاهل فيضلهم عن الصراط المستقيم : كما إنه ضال عنه وهذا عين الابتداع لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فتؤتى الناس من قبله وسيأتي لهذا المعنى بسط أوسع من هذا إن شاء الله
وأما الشح فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام وذلك أن الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس ويليه أنواع القرض الجائز ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر وبالإسقاط كما قال : { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح ثم نقص الإحسان بالوجوه الأول فتسامح الناس بالقرض ثم نقض ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع كالربا والسلف الذي يجر النفع فيجعل بيعا في الظاهر ويجري في الناس شرعا شائعا ويدين له العامة وينصبون هذه المعاملات متاجر وأصلها الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة فإذا كان كذلك فالحري أن يصير ذلك ابتداعا في الدين وأن يجعل من أشراط الساعة
فإن قيل : هذا انتجاع من مكان بعيد وتكلف لا دليل عليه فالجواب : أنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قبل به فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ]
ورواه أبو داود أيضا وقال فيه :
[ إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ]
فتأملوا كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالأموال وهو معقول في نفسه فإن الرجل لا يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه في حاجته إلا أن يكون سفيها لا عقل له
ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود أيضا عن علي رضي الله عنه قال :
سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } وينشد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ألا أن بيع المضطر حرام : الكسلك أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه
وهذه الأحاديث الثلاثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ مما يعضد بعضه بعضا وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع قال بعضهم : عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما أحب فيبيعها ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك ففسر بيع المضطر ببيع العينة وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل ـ حسبما هو مبسوط في الفقهيات ـ فقد صار الشح إذا سببا في دخول هذه المفاسد في البيوع
فإن قيل : كلامنا في البدعة في فساد المعصية لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه
فالجواب : أن مدخل البدعة ها هنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس فقد عده العلماء من البدع المحدثات حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في الحيل : من وضع هذا فهو كافر ومن سمع به فرضي به فهو كافر ومن حمله من كورة فهو كافر ومن كان عنده فرضي به فهو كافر وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد
وقال إسحاق بن راهوية عن سفيان بن عبد الملك : أن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالإرتداد وذلك في أيام أبي غشان : فذكر شيئا ثم قال ابن المبارك وهو مغضب : أحدثوا في الإسلام ومن كان أمر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر ثم قال ابن مبارك : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ولو كان يحسنها لم يجد من يمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء
وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالا وللواجب حتى يكون غير واجب وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين كما أجازوا نكاح المحلل وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثا لمن طلقها وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح وأنها تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصي جمة
وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة وهي من سماة أهل النفاق ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعا وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم كما حكيت عن كثير من الأمراء فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدا فأخفوه لتظهر صحته فإن بيعه الثوب بمائة وخمسين إلى أجل لكنهما أظهرا وساطة الثوب وأنه هو المبيع والمشتري وليس كذلك بدليل الواقع
وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلا بلسان حاله ومقاله : انا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه مني ثم يهبه فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى والجميع في الحالين بل في الحولين في تصريف المال سواء أليس هذا خلاف الأمانة ؟ والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه فالعمل بخلاف خيانة
ومن ذلك أن بعض الناس كان [ يحفر الزينة ويرد من الكذب ] ومعنى الزينة التدليس بالعيوب وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم وايضا فإن كثيرا من الأمراء يحتاجون أموال الناس اعتقادا منهم أنها لهم دون المسلمين ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من الكفار فيجعلونها في بيت المال ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلا على الشريعة بالعقول فوجه البدعة ها هنا ظاهر
وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولا وقوله :
[ سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونها ثم قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ]
وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر فخرج أبو داود و أحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ لبشرين ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ] ـ زاد ابن ماجه ـ [ يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ] وخرجه البخاري عن أبي عامر وأبي مالك الأشعري قال فيه :
[ ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون : ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ] وفي سنن أبي داود : [ ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير ] ـ وقال في آخره ـ [ يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ]
والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره وقوله في الحديث : [ ولينزلن أقوام ] يعني ـ والله أعلم ـ من هؤلاء المستحلين والمعنى إن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم وهو الجبل فيواعدهم إلى الغد فيبيتهم الله ـ وهو أخذ العذاب ليلا ـ ويمسخ منهم آخرين كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل : يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير وكأن الخسف ها هنا التبييت المذكور في الآخر
وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره وإنما الخمر عصير العنب النيء وهذا رأي طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر
قال بعضهم : وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الإسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته قال : وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا : ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت وليس هذا باستباحة السبت
بل الذي يستحل الخمر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه بأن معناه الخمر ومقصوده مقصود الخمر أفسد تأويلا من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا فلئن كان من القياس ما هو حق فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل وهو من القياس الجلي إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم
فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالا لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحو وابيح منه الحداء وغيره وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء
وقد خرج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع ] قال بعضهم : يعني العينة وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والخز ] يريد استحلال الفروج الحرام والحر بكسر الحاء المهملة والراء المخففة الفرج قالوا : ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل فإن هذا لم يزل معمولا في الناس ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالا والواقع كذلك فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين في تلك الأزمان صار في أولي الأمر من يفتي بنكاح المحلل ونحوه ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلا
ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشهور أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له ]
وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله ] فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا قال : [ يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالريبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع ] فإن الثلاثة المذكورة أولا قد سنت وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما بإسم الهدية فهو ظاهر واستحلال القتل بإسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسية وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضا وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة
وقد وصف النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال : [ إن من ضئضىء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة و السلام في حديث أبي هريرة رضي الله عته :
[ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ] الحديث يدل عليه تفسير الحسن قال ك يصبح محرما لدم أحيه وعرضه ويمسي مستحلا إلى آخره
وقد وضع القتل شرعا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله المتسمي بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث فجعل القتل عقابا في ثمانية عشر صنفا ذكروا منها : الكذب والمداهنة وأخذهم أيضا بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم ومن لم يحضر أدب فإن تمادى قتل وكل من لم يتأدب بما أدب به ضرب بالسوط المرة والمرتين فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به وكل من خالف أمره أمر اصحابه فعروه فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرا على الإمامة أو الخطابة وكذلك لبس الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حلالا ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب فقدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك الصلاة خلفه
وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية قال العلماء : وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله
وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم :
[ بدىء الإسلام غريبا وسيعود كما بديء فطوبى للغرباء ] وقال في الكتاب المذكور : جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد وأن به قامت السموات والأرض وبه تقوم ولا ضد له ولا مثل ولا ند انتهى وكذب فالمهدي عيس عليه السلام
وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح وبعد المغرب فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا : أصبح ولله الحمد إشعارا ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ولحضور الجماعة وللغدو لكل ما يؤمرون به
وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا وجميع ذلك إلى أنه قائل برأيه في العبادات والعادات مع زعمه أنه قائل بالرأي وهو التناقض بعينه فقد ظهر إذن جريان تلك الأشياء على الابتداع
وأما كون الزكاة مغرما فالمغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت وكون هذا بدعة ظاهر
وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشىء عن بدعة الجدال في الدين فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه أن يكون في المساجد ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد فما ظنك به في المساجد ؟ فالجدال فيه زيادة الهوى فإنه غير مشروع في الأصل فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما وكمتشابهات القرآن ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قلت : [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فأحذروهم ] وفي الحديث :
[ ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ] وجاء عنه عليه السلام أنه قال : [ لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ] وعنه عليه السلام أنه قال : [ إن القرآن يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه ] وقال عليه السلام : [ اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه ] وخرج ابن وهب عن معاوية بن قرة قال : إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال
وقال النخعي في قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } قال : الجدال والخصومات في الدين
وقال معن بن عيسى : انصرف مالك يوما إلى المسجد وهو متكىء على يدي فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء فقال : يا أبا عبد الله ! اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك برأيي فقال له : احذر أن اشهد عليك قال : والله ما اريد إلا الحق اسمع مني فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم قال : فإن غلبتني ؟ قال : اتبعني قال : فإن غلبتك ؟ قال : اتبعتك قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه ؟ قال : اتبعنا فقال له مالك : يا عبد الله ! بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تنتقل
وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل
وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء
والكلام في ذم الجدال كثير فإذا كان مذموما فمن جعله محمودا وعده من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة وذلك مظنة رفع الأصوات
فإن قيل : عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك فرفع الأصوات قد يكون في العلم ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد وإن كان في العلم أو في غير العلم
قال ابن القاسم في المبسوط : رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد
وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين : إحداهما : أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لأنه أمر بتعظيمه وتوقيره والثانية : انه مبني للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبه بين ناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة فإذا كان كذلك فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم أعني في أكثر الأمر دون الفلتات لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشىء عن الهوى في الشيء المتكلم فيه واقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت الكلام فيما لم ياذن فيه وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم
وأيضا لم يكثر الكلام جدا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام وإلى غرضه تصويب سهام النقد والذم فهو إذا هو وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية المصري أنه رأى قوما يتعارون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال : هؤلاء قوم قد ملوا العبادة وأقبلوا على الكلام اللهم أمت عميرة فمات من عامة ذلك في الحج فرأى رجل في النوم قائلا يقول : مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة فجاء موت عميرة هذا
والثاني : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولا به لا نفي ولا يكف عنه فجرى مجرى البدع المحدثات
وأما تقديم الأحداث على غيرهم فمن قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم كان ذلك التقديم في ريب العلم أو غيره لأن الحدث أبدا أو في غالب الأمر غر لم يتحنك ولم يرتض في صناعة رياضة تبلغه مبالغ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ولذلك قالوا في المثل :
( وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس )
هذا إن حملنا على حداثة السن وهو نص في ابن مسعود رضي الله عنه فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة ويحتمله قوله : [ وكان زعيم القوم أرذلهم ] وقوله : [ وساد القبيلة فاسقهم ] وقوله : [ إذا أسند الأمر إلى غير أهله ] فالمعنى فيها واحد فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه
ولذلك يحكى عن الشيخ أبي مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم فقال : الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد وإن كان ابن ثمانين سنة
فإذا تقديم الأحداث على غيرهم من باب تقديم الجهال على غيرهم ولذلك قال فيهم : [ سفهاء الأحلام ] وقال : [ يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ] إلى آخره وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج :
[ إن من ضئضيء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] إلى آخر الحديث يعني أنهم لم يتفقهوا فيه فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم
وأما لعن آخر هذه الأمة أولها فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم حين لم يصرفوا الخلافة إلى علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكفرت عليا رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها
قا ل مصعب الزبيري و ابن نافع : دخل هارون ( يعني الرشيد ) المسجد فركع ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فسلم عليه ثم أتى مجلس مالك فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم قال ل مالك : هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفيء حق ؟ قال : لا ! ولا كرامة ولا مسرة قال : من أين قلت ذلك ؟ قال : قال الله عز و جل : { ليغيظ بهم الكفار } فمن عابهم فهو كافر ولا حق لكافر في الفيء
واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } إلى آخر الآيات الثلاث قال : فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين هاجروا معه وأنصاره { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى كثير
وأما بعث الدجالين فقد كان ذلك جملة منهم من تقدم في زمان بني العباس وغيرهم ومنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقية فقد حكى عنه أنه جعل المؤذن يقول : أشهد أن معدا رسول الله عوضا من كلمة الحق أشهد أن محمدا رسول الله فهم المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره ؟ فلما انتهى كلامهم إليه قال : أردد عليهم أذانهم لعنهم الله
ومن يدعي لنفسه العصمة فهو شبه من يدعي النبوة ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة وهو المغربي المتسمي بالمهدي
وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات والإخبار بالمغيبات ومخيلة لخوارق العادات تبعه على ذلك من العوام جملة ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس ـ وهو مالقة ـ آخذا ينظر في قوله تعالى : { وخاتم النبيين } وهل يمكن تأويله ؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات ليسوغ إمكان بعث نبي بعد محمد صلى الله عليه و سلم وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله
ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال : حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب قال : لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس فقال أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما : اقرأ قرآنك لي شيء تنفصل على قرآننا اليوم ؟ أو في معنى هذا فتركها مثلا بلوذعيته
وأما مفارقة الجماعة فبدعتها ظاهرة ولذلك يجازي مفارقتها بالميتة الجاهلية
وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم
فهذه ايضا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ككثرة النساء وقلة الرجال وتطاول الناس في البنيان وتقارب الزمان
فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع لكن من جهة التعبد لا من جهة كونها عادية وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة والمعصية التي هي ليست ببدعة
وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة وحصل بذلك اتفاق القولين وصار المذهبان مذهبا واحدا وبالله التوفيق
فصل فإن قيل : أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع فإن قيل : أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في العاديات من حيث هو توقيت معلوم معقول فإيجابه أو إجازته بالرأي ـ كما تقدم من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجية عن الجادة ـ فظاهر
ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلي والقول بترك العمل بخبر الواحد وما أشبه ذلك
فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به وهو أن المعاصي والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام فما كان منها هذا شأنه : هل يعد مثله بدعة أم لا ؟
فالجواب : أن مثل هذه المسألة لها نظران :
أحدهما : نظر من حيث وقوعها واعتقادا في الأصل فلا شك أنها مخالفة لا بدعة إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا واشتهرت أم لا وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما والمبتدع قد يقام عن بدعة والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت عياذا بالله
والثاني : نظر من جهة ما يقترن بها من خارج فالقرائن قد تقترن فتكون سببا في مفسدة حالية وفي مفسدة مالية كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة
أما الحالية فبأمرين :
الأول : أن يعمل بها الخواص من الناس عموما وخاصة العلماء خصوصا وتظهر من جهتهم وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجازتها لأن العالم المنتصب مفتيا للناس بعمله كما هو مفت بقوله فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بمخالفته حصل في اعتقادهم جوازه ويقولون : لو كان ممنوعا أو مكروها لامتنع منه العالم
هذا وإن نص على منعه أو كراهته فإن عمله معارض لقوله فإما أن يقول العامي : إن العالم خالف بذلك ويجوز عليه مثل ذلك وهم عقلاء الناس وهم الأقلون
وإما أن يقول : إنه وجد فيه رخصة فإنه لو كان كما قال لم يأت به فيرجح بين قوله وفعله والفعل أغلب من القول في جهة التأسي ـ كما تبين في كتاب الموافقات ـ فيعمل العامي بعمل العالم تحسينا للظن به فيعتقده جائزا وهؤلاء هم الأكثرون
فقد صار عمل العالم عند العامي حجة كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم في الفتيا فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل وهذا عين البدعة
بل لقد وقع مثل في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات وقراءة الحزب حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة وأن منها ما هو حسن وكان منهم من ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة واحتج بالحزب والدعاء بعد الصلاة كما تقدم
ومنهم من اعتقد أنه ما عمل به إلا لمستند فوضعه في كتاب وجعله فقها كبعض أماريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد
وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان والعمل به على الغفلة ومن هنا تسشنع زلة العالم فقد قالوا : ثلاث تهدم الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة ضالون
وكل ذلك عائد وباله على العالم وزلله المذكور عند العلماء يحتمل وجهين :
أحدهما : زلله في النظر حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه وذلك الفتيا بالقول
والثاني : من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر فلا ينكرها الخواص ولا يرفعون لها رؤوسهم وهم قادرون على الإنكار فلم يفعلوا فالعامي من شأنه إذا رأى أمرا يجهل حكمه يعمل العامل به فلا ينكرها عليه اعتقد أنه جائز وأنه حسن أو أنه مشروع بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه عيب أو أنه غير مشروع أو أنه ليس من فعل المسلمين هذا أمر يلزم من ليس بعالم بالشريعة لأن مستنده الخواص واعلماء في الجائز مع غير الجائز
فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكر ووجوده القدرة عليه فلم يفعل دل عند العوام على أنه فعل جائز لا حرج فيه فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من كان من العوام فصارت المخالفة بدعة كما في القسم الأول
وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة و السلام والعلماء ورثة الأنبياء فكما أن النبي صلى الله عليه و سلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره كذلك وارثة يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت بعد سننا ومشروعات كزيادتهم مع الآذان : اصبح ولله الحمد و الوضوء للصلاة و تأهبوا ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع وربما احتجوا على ذلك بما يفعله بعض الناس وبما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه وقد قيدنا في ذلك جزءا مفردا فمن أراد الشفاء في المسألة فعليه به وبالله التوفيق
وخرج أبو داود عن [ أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال ] :
[ إهتم النبي صلى الله عليه و سلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك ـ قال ـ فذكر له القنع يعني الشبور وفي رواية شبور اليهود فلم يعجبه وقال : هو من أمر اليهود قال : فذكر له الناقوس فقال : هو من أمر النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأري الأذان في منامه ] إلى آخر الحديث
وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال :
ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة والقنع والشبور ـ هو البوق ـ وهو القرن الذي وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما
فأنت ترى كيف كره النبي صلى الله عليه و سلم شأن الكفار فلم يعمل على موافقته فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد إعلاما بالأوقات أو غير إعلام بها أما الراية فقد وضعت إعلاما بالأوقات وذلك شائع في بلاد المغرب حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع
وأما البوق فهو العلم في رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار ثم هو علم أيضا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداء وانتهاء والحديث قد جعل علما لانتهاء نداء ابن أم مكتوم قال ابن شهاب : وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت
وفي مسلم و أبي داود :
[ لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم ] الحديث فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما يحتاج إليه من سحوره وغيره فالبوق ما شأنه ؟ وقد كرهه عليه الصلاة و السلام ومثله النار التي ترفع دائما في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضا إعلاما بدخوله فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور ثم ترفع في المنار إعلاما بالوقت والنار شعار المجوس في الأصل
قال ابن العربي : أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد ومحمد بن خالد ـ ملكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبا ويحيى وزيرا ثم ابنه جعفر بن يحيى ـ قال ـ وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة فأحيوا المجوسية واتخذوا البخور في المساجد ـ وإنما تطيب بالخلوق ـ فزادوا التجمير ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلونها عند الأندلس ببخورها ثابتة انتهى
وحاصلة أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السلف الصالح ولا كانت مما تزين بها المساجد البتة ثم أحدث التزيين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به رمضان واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد حتى لقد سأل بعض عنه : أهو سنة أم لا ؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد وذلك بسبب ترك الخواص الإنكار عليهم
وكذلك أيضا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الالآت التي توقد عليها النيران وتزخرف بها المساجد زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك كما تزخرف الكنائس والبيع
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ذكر النووي أنها من البدع القبيحة وأنها ضلالة فاحشة جمع فيها أنواع من القبائح منها إضاعة المال في غير وجهه ومنها إظهار شعائر المجوس ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع ا هـ
وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور وذكر أيضا قبائح سواها فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر أو وضع الرداء ؟ وهو أقرب مراما وأيسر خطبا من أن تنشأ بدع محدثات يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها
وأما المفسدة المالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملين بحكم المخالفة وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات
وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعملهم بالربا فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنا بوزن ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلا والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها ويعتقدون أن ذلك جائز لهم ولم يزل العلماء من السلف الصالح ومن بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء حتى كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو أشد من ترك السنن وأولى أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع وقد مر بيان هذا في باب البيان من كتاب الموافقات فقد ذكروا أن عثمان رضي الله عنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : أليس قد قصرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فيقول : بلى ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون : هكذا فرضت
قال الطرطوشي : تأملوا رحمكم الله ! فإن في القصر قولين لأهل الإسلام :
منهم من يقول : فريضة ومن أتم فإنما يتم ويعيد أبدا
ومنهم من يقول : سنة يعيد من أتم في الوقت ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون ( يعني أنهم لا يلتزمون الأضحية )
قال حذيفة بن أسد : شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة
وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبشين أو بديك
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يشتري لحما بدرهم يوم الأضحى ويقول لعكرمة : من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس
وقال ابن مسعود : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن أنها واجبة
وقال طاوس : ما رأيت بيتا أكثر لحما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس يذبح وينحر كل يوم ثم لا يذبح يوم العيد وإنما يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها واجبة وكان إماما يقتدى به
قال الطرطوشي : والقول في هذا كالذي قبله وإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية أحدهما سنة والثاني واجبة ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرا من أن يضع الناس الأمر على غير وجهة فيعتقدونها فريضة
قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان : إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ـ قال ـ ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم ورأوهم يقولون ذلك
فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه لكنه لم ير العمل عليه وإن كان مستحبا في الأصل لئلا يكون ذريعة لما قال كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في الأضحية وعثمان في الإتمام في السفر
وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان الأصل فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب لأنه كان مفروشا فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن المسجد وقال : لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة وهذا في مباح فكيف به في المكروه أو الممنوع ؟
ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر : ليست بحرام ولا عيب فيها وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرا لأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة وبسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها والتخلية بينهم وبين اقتنائها وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك
ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا وليس بمشروع وهذا الحال متوقع أو واقع فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن الستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما هي إلى تمام الستة الأيام وكذلك وقع عندنا مثله وقد مر في الباب الأول
وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم أو من يعمل ببعضها بمرآى من الناس أو في مواقعهم فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات في المعاصي أو غيرها
وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه
أحدها : وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع
والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة
والثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر عليه فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة
والرابع : من باب الذرائع وهي أن يكون العمل في أصله معروفا إلا أنه يبتدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ بل هي في القرب والبعد على تفاوت فالأول هو الحقيق باسم البدعة فإنها تؤخذ علة بالنص عليها ويليه القسم الثاني فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول بل قد يكون أبلغ منه في مواضع ـ كما تبين في الأصول ـ غير أنه لا ينزل ها هنا من كل وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله ولذلك قالوا : لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله بصدقك وقال الخليل بن أحمد أو غيره :
( اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري )
ويليه القسم الثالث فإن ترك الإنكار ـ مع أن رتبة المنكر رتبة من بعد ذلك منه إقرارا ـ يقتضي أن الفعل غير منكر ولكن يتنزل منزلة ما قبله لأن الصوارف للقدرة
كثيرة قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة مع علمه بكونه مخالفة
ويليه القسم الرابع لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلا فلذلك كانت من باب الذرائع فهي إذا لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة
وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات والبدعة من خارج إلا أنها لازمة لزوما عاديا ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث والله أعلم
الباب الثامن : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ونسبوها إلى الصحابة والتابعين وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات وقم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضام على قارىء واحد
وأيضا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص
وإذا ثبت هذا فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا فاعتبار البدع المستحسنة حق لأنهما يجريان من واد واحد وإن لم يكن اعتبار البدع حقا لم يصح اعتبار المصالح المرسلة
وأيضا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل وذهب مالك إلى اعتبار ذلك وبنى الأحكام عليه على الإطلاق وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح لكن يشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني
وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله لكن بشرط قال : ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد واختلف قوله في الرتبة المتوسطة وهي رتبة الحاجي فرده في المستصفى وهو آخر قوليه وقبله في شفاء العليل كما قل ما قبله وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله فالأقوال خمسة فإذا الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاجتماع لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها لإجتماعهم عليها
وكذلك القول في الاستحسان فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل والنافي له لا يعد الاستحسان سببا فلا يعتبر في الأحكام البتة فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر بحول الله والله الموفق فنقول :
المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله فلا إشكال في صحته ولا خلاف في أعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها
والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التسحين العقلي بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين
ومثال ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان فقال : عليك صيام شهرين متتابعين فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على اعتاق الرقبة كيف يعدل له إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين ؟ فقال لهم : لو قلت له عليك إعتاق رقبة لا ستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين
فهذا المعنى مناسب لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير وقائل بالترتيب فيقدم العتق على الصيام فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا لكنه على صريح الفقه
قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة فسأل مالكا فقال : صيام ثلاثة أيام واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان فأفتوا بالإطعام و إسحاق بن إبرهيم ساكت فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه ؟ فقال له : لا أقول بقولهم وأقول بالصيام فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام ؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر بالإطعام لمن له مال وأمير المؤمنين لا مال له إنما هو مال بيت المسلمين فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه ا هـ وهذا صحيح
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام ؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله وكان كلامه على ظاهره كان مخالفا للإجماع
والثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين :
أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله
والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله
ولنقتصر على عشرة أمثلة :
ولنقتصر على عشر أمثلة للمصالح المرسلة أحدها : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اتفقوا على جمع المصحف
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اتفقوا على جمع المصحف وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضا بل قد قال بعضهم : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ارسل إلي أبو بكر رضي الله عنه [ بعد ] مقتل ( أهل ) اليمامة وإذا عنده عمر رضي الله عنه قال أبو بكر : ( إن عمر أتاني فقال ) : إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال : فقلت له : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال لي : هو ـ والله ـ خير
فلم يزل عمر يراجعني في لذك حتى شرح الله صدري له ورأيت فيه الذي رأى عمر
قال زيد فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتتبع القرآن فاجمعه قال زيد : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك فقلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدريهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاق والعسب واللخاف ومن صدور الرجال فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة
ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة : أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك فأرسلت حفصة بها إلى عثمان فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وغلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم
قال : ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق
فهذا أيضا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل منها في الغالب اختلاف لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات ـ حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن ـ فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان وقال : يا أهل العراق ! ويا أهل الكوفة : اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله يقول : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وألقوا إليه بالمصاحف فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه وإنما خالف أمرا آخر ومع ذلك فقد قال ابن هشام : بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه و سلم بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمر بحفظها معلوم وإلى منع الذريعة للإختلاف في أصلها الذي هو القرآن وقد علم النهي عن الإختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن وضاح أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه فأخذت نفسي بالعناء فيه عسى أن ينتفع به واضعه وقارئه وناشره وكاتبه والمنتفع به وجميع المسلمين إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته
المثال الثاني : اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على حد شارب الخمر
اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على حد شارب الخمر ثمانين وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل قال العلماء : لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم حد مقدر وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرره على طريق النظر بأربعين ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فقال علي رضي الله عنه : من سكر هذى ومن هذى افترى فأرى عليه حد المفتري
ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات والمظنة مقام الحكمة فقد جعل الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال وجعل الحافر للبئر في محل العدوان وإن لم يكن ثم مرد كالمردي نفسه وحرم الخلوة بالأجنبية حذرا من الذريعة إلى الفساد إلى غير ذلك من الفساد فرأوا الشرب ذريعة إلى الإفتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان فإنه أول سابق إلى السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها ( يعني على الخصوص به ) وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم
المثال الثالث : إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع قال علي رضي الله عنه : لا يصلح الناس إلا ذاك ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين : إما ترك الاستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ضلك بدعواهم الهلاك والضياع فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين
هذا معنى قوله : لا يصلح الناس إلا ذاك
ولا يقال : إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء إذ لعله ما أفسده ولا فرط فالتضمين مع ذلك كان نوعا من الفساد لأنا نقول : إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد والغالب الفوت فوت الأموال وأنها لا تستند إلى التلف السماوي بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة أو التفريط
وفي الحديث :
[ لا ضرر ولا ضرار ] تشهد له الأصول من حيث الجملة فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد وقال :
[ دع الناس يرزف الله بعضهم من بعض ] وقال : [ لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق ] وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة فتضمين الصناع من ذلك القبيل
المثال الرابع : أن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم إن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم وذهب مالك إلى جواز السجن في التهم وإن كان السجن نوعا من العذاب ونص أصحابه على جواز الضرب وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب إذ قد يتعذر إقامة البينة فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار
فإن قيل : هذا فتح باب التعذيب البريء قيل : ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعا من الظن فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء وإن أمكن مصادفته فتغتفر كما اغتفرت في تضمين الصناع
فإن قيل : لا فائدة في الضرب وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال فالجواب :
إحداهما : أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه وهي فائدة ظاهرة
والثانية : أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام فتقل أنواع هذا الفساد
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو الإقرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال قالوا : وهو ضعيف فقد قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين } ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به فالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخؤذ به وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به
قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي : أنه لا يقول بذلك وعلى الجملة فالمسألة في محل الإجتهاد ـ قال ـ ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع فإذا وقع النظر في تعارض المصالح كان ذلك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة
المثال الخامس : إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال إلى أن يظهر مال بيت المال ثم إليه النظر في توظيف وذلك على الغلات والثمار وغير ذلك كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب وذلك يقع قليلا من كثير بحيث لا يحجف بأحد ولا يحصل المقصود
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا فإن القضية فيه أحرى ووجه المصلحة هنا ظاهر فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلب شوكة الإمام وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار
وإنما النظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها فضلا عن اليسير منها فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم يأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد
والملائمة الأخرى أن الأب في طفله أن الوصي في يتيمه أو الكافل فيمن يكفله مأمور برعاية الأصلح له وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤن المحتاج إليها وكل ما يراه سببا لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره
ولو وطىء الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة زيادة إلى إنفاق المال وليس ذلك إلا لحماية الدين ومصلحة المسلمين
فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الكفار الذين يخاف من جهتهم فلا يؤمن من انفتاح باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت وتوقع الفساد عتيد فلا بد من الحراس
فإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم فلا يؤمن من انفتاج باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت وتوقع الفساد عتيد فلا بد من الحراس
فهذه ملائمة صحيحة إلا أنها في محل ضرورة فتقدر بقدرها فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجي وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحديث لا يغني كبير شيء فلا بد من جريان حكم التوظيف
وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه وتلاه في صحيحها ابن العربي في أحكام القرآن له وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع
المثال السادس : أن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك حسبما ذكره الغزالي على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع مع هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما ـ قال ـ فإن قيل : فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد ين الوليد في ماله حتى أخذ رسوله فرد نعله وشطر عمامته قلنا : المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية وإحاطته بتوسعته فلعله ضمن المال فرآى شطر ماله من فوائد الولاية فيكون استرجاعا للحق لا عقوبة في المال لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع هذا ما قال ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال كما قال الغزالي
وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان :
أحدهما : كما صوره الغزالي فلا مرية في أنه غير صحيح على أن ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك فقال : في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال أنها على الطالب فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه ومال إليه ابن رشد ورده عليه ابن النجار القرطبي وقال : إن ذلك من باب العقوبة في المال وذلك لا يجوز على حال
والثاني : أن تكون جناية في نفس ذلك المال أو في عوضه فالعقوبة فيه عنده ثابتة فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه : إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر
وذهب ابن القاسم و مطرف و ابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء ووجه ذلك التأديب للغاش وهذا التأديب لا نص يشهد له لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيا وذلك :
أنه عليه الصلاة و السلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم
وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك
ومن مسائل مالك في المسألة : إذا اشترى مسلم من نصراني خمرا فإنه يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه وهو كله من العقوبة في المال إلا أن وجهة ما تقدم
المثال السابع : أنه إذا طبق الحرام الأرض أنه لو طبق الحرام الأرض أو ناحية من الأرض يعسر الانتقال منها وانسدت طرق المكاسب الطيبة ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال ولم يزال الناس في مقاسات ذلك إلى أن يهلكوا وفي ذلك خراب الدين ولكنه لا ينتهي إلى الترفه والتنعم كما لا يقتصر على مقدار الضرورة
وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث المحرمات
وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة وإنما اختلفوا إذا لم تتوال هل يجوز له الشبع أم لا ؟ وايضا فقد أجاوزا أخذ مال الغير عند الضرورة أيضا فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك
وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطا شافيا جدا وذكرها في كتبه الأصولية كـ المنخول و شفاء العليل
المثال الثامن : أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد والمستند فيه المصلحة المرسلة إذ لا نص على عين المسألة ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مذهب مالك و الشافعي ووجه المصلحة أن القتيل معصوم وقد قتل عمدا فإهداره داع أنه إلى خرم أصل القصاص واتخاذ الإستعانة والإشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقا والمشترك ليس بقاتل تحقيقا
فإن قيل : هذا أمر بديع في الشرع وهو قتل غير القاتل : قلنا : ليس كذلك بل لم يقتل إلا القاتل وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك و الشافعي فهو مضاف إليهم تحقيقا إضافته إلى الشخص الواحد وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعا مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة وقطع الأيدي في النصاب الواجب
المثال التاسع : أن العلماء نقلوا الإتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقدإلا لمن نال رتبة الإجتهاد
إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الإجتهاد والفتوى في علوم الشرع كما أنهم اتفقوا أيضا ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاة بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الإجتهاد وهذا صحيح على الجملة ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد لأنا بين أمرين إما أن يترك الناس فوضى وهو عين الفساد والهرج وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ولا يبقى إلا فوت الإجتهاد والتقليد كاف بحسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملائمته إلى شاهد
هذا وإن كان ظاهره مخالفا لما نقلوا من الإجماع في الحقيقة إنما انعقد على فرض أن لا يخلو الزمان من مجتهد فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه فصح الإعتماد فيه على المصلحة
المثال العاشر : أن الغزالي قال ببيعة المفضول مع وجود الأفضل إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل : إن رددنا في مبدأ التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها فيتعين تقديم المجتهد لأن اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره فالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها
أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد المنفك عن رتبة الإجتهاد وقامت له الشوكة وأذعنت له الرقاب بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع الشرائط وجب الإستمرار
وإن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضه لإثارة فتن واضطراب أمور لم يجز لهم خلعه والإستبدال به بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت الإمامة تحصيلا لمزيد المصلحة في الإستقلال بالنظر والإستغناء عن التقليد وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئه الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش النظام وتفويت أصل المصلحة في الحال ؟ تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد
قال : وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه والإستبدال به أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة
هذا ما قال وهو متجه بحسب النظر المصلحي وهو ملائم لتصرفات الشرع وإن لم يعضده نص على التعيين
وما قرره هو أصل مذهب مالك : قيل ليحيى بن يحيى : البيعة مكروهة ؟ قال : لا قيل له : فإن كانوا أئمة جور ؟ فقال : قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان وبالسيف أخذ الملك أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه
قال يحيى : والبيعة خير من الفرقة
قال : ولقد أتى مالكا العمري فقال له : يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين وأنت ترى سيرة أبي جعفر فما ترى ؟ فقال له مالك : أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا ؟ فقال العمري : لا أدري قال مالك لكني أنا أدري إنما كانت البيعة ليزيد بعده فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن يكون ليزيد بد من القيام فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح فالمصلحة في الترك
وروى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ] وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه
قال ابن العربي : وقد قال ابن الخياط : إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها وأين يزيد من من ابن عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فخلع يزيد لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه تعرض للفتنة فكيف ولا يعلم ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء الله
فصل فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة وتبين لك اعتبار أمور :
أحدها : الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله
والثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل كالوضوء والصلاة في زمان مخصوص دون غيره والحج ونحو ذلك
فيتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المخص المنافي للمناسبات التفصيلية
ألا ترى أن الطهارات ـ على اختلاف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادي الرأي ؟ فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ودون جميع الجسد فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون المخرج فقط ودون أعضاء الوضوء
ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والأدران إذا فرض أنه لم يحدث
ثم التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها لاستواء الأوقات في ذلك
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر أو أربع كالظهر فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة وإذا قرأ آية سجدة سجد واحدة دون اثنتين
ثم أمر بصلاة النوافل ونهى عن الصلاة في أوقات مخصوصة وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى
ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء دون صلاة الليل ورواتب النوافل
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا فإنه غير مكلف ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا كإمساك النهار دون الليل والإمساك عن المأكولات والمشروبات دون الملبوسات والمركوبات والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراج ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا ( ؟ ) إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه وسواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد أم لم نقله : اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه والمسكوت عنه فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل فهو العروة الوثقى للمتفقه في لاشريعة والوزر الأحمى
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه : كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا بطريق من كان قبلكم ونحوه لابن مسعود أيضا وقد تقدم من ذلك كثير
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه فلم يلتفت في إزالة الأخباث ورفع الأحداث إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفع الأحداث النية ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق وامتنع من إقامة التكبير والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ومنع من إخراج القيم في الزكاة واختصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات وندوره بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة وفتح باب التشريع وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحمه الله بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل لبعض أنه مقلد لمن قبله بل هو صاحب البصيرة في دين الله ـ حسبما بين أصحابه في كتاب سيره ـ
بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال : إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع وهذه غاية في الشهادة بالاتباع
وقال أبو داود : أخشى عليه البدعة ( يعني المبغض ل مالك )
وقال ابن المهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام : ما سمعت ابا داود لعن أحدا قط إلا رجلين : أحدهما : رجل ذكر له أنه لعن مالكا والآخر : بشر المريسي
وعلى الجملة فغير مالك أيضا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فالأصل متفق عليه عند الأمة ما عدا الظاهرية فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات بل الكل غير معقول المعنى فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلا عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة
والثالث : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد
أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة
وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم وهو إما لاحق بالضروري وإما من الحاجي وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة فإن جاء من ذلك شيء : فإما من باب آخر منها كقيام رمضان في المساجد جماعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح ـ كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة ـ وهو من قبيل ما يلائم
وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل و ما لا يتم الواجب إلا به إن نص على اشتراطه فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي فلا يلزم أن يكون شرعيا كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطردا لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل
وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضا
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق
وأيضا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع بل إنما تتصور على أحد وجهين : إما منقاضة لمقصوده ـ كما تقدم في مسألة المفتي بصيام شهرين متتابعين ـ وإما مسكوتا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به
وقد تقدم نقل الإجماع على اطراح القسمين وعدم اعتبارهما ولا يقال : إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه إن قيل بذلك فهي تفارقها إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به بخلاف العادات والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى وقد أشير إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات وإلى هذا
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات لأن البدع من باب الوسائل لأنها متعبد بها بالفرض ولأنها زيادة في التكليف وهو مضادة للتخفيف
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء وحسبك به متعلقا والله الموفق
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده والزيادة عليه بدعة كما أن النقصان منه بدعة وقد مر لهما أمثلة كثيرة وسيأتي أخيرا في إثناء الكتاب بحول الله
فصل : وأما الإستحسان فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به وأما الاستحسان فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو إما العقل أو الشرع
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحسانا ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال فلم يبق إلا العقل هو المستحسن فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن
ويشهد لذلك قول من قال في الاستحسان : إنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه قالوا : وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد وتميل إليه الطباع فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما بين أن ثم من التعبدات ما لا يكون عليه دليل وهو الذي سمى بالبدعة فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح إذ ليس كل استحسان حقا
وأيضا فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان وهو أن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره وهذا التأويل فالاستحسان لبعده في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه ـ وهو الأغلب ـ فهذا مما يحتجون به
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون وقد أتو بثلاثة أدلة :
أحدها : قول الله سبحانه : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } وقوله تعالى : { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } هو ما تستحسنه عقولهم
والثاني : قوله عليه الصلاة و السلام :
[ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ] وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم وإلا لو كان حسنة بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم فلم يكن للحديث فائدة فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم
والثالث : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل ولا سبب لذلك إلا ان المشاحة في مثله قبيحة في العادة فاستحسن الناس تركه مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة أو مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جهل فإنه ممنوع وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلا
فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضا لمن أراد أن يبتدع فله أن يقول : إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء استحسن وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم وبالله التوفيق فنقول :
إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك و أبو حنيفة بخلاف الشافعي فإنه منكر له جدا حتى قال : من استحسن فقد شرع والذي يستقرىء من مذهبها أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين هكذا قال ابن العربي ـ قال ـ فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا و أبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ـ قال ـ ويريان معا تخصيص القياس ونقص العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تخصيصا
هذا ما قال ابن العربي ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى
وقال بعض الحنفية : إنه القياس الذي يجب العمل به لأن العلة كانت علة بأثرها : سموا الضعيف الأثر قياسا والقوي الأثر استحسانا أي قياسا مستحسنا وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية
بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك قال أصبغ في الاستحسان : قد يكون أغلب من القياس وجاء عن مالك : إن المفرق في القياس يكاد يفارقه السنة
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة
وقال ابن العربي في موضع آخر : الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته وقسمه أقساما عد منها أربعة اقسام وهي ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة وتركه لليسير وتركه لرفع المشقة وإيثار التوسعة
وحده غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك : استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ـ قال ـ فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس
وعرفه ابن رشد فقال : الإستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون طرحا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع
وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض
وإذا كان هذا معناه عن مالك و أبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة لأن الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضا كما في الأدلة السنية مع القرآنية ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلا فلا حجة في تسميته استحسانا لمبتدع على حال
ولا بد من الإتيان بأمثلة تبي المقصود بحول الله ويقتصر على عشرة أمثلة :
أحدها : أن يعدل بالمسألة عن نظائرنا بدليل الكتاب كقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة فلو قال قائل : مالي صدقة فظاهر لفظه يعم كل مال ولكنا نحمله على مال الزكاة لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب قال العلماء : وكأن هذا يرجع إلى تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلا لما قاله في الاستحسان
والثاني : أن يقول الحنفي : سؤر سباع الطير نجس قياسا على سباع البهائم وهذا ظاهر الأثر ولكنه ظاهر استحسانا لأن السبع ليس بنجس العين ولكن لضرورة تحريم لحمه فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه فوجب الحكم بطهارة سؤره لأن هذا أثر قوي وإن خفي فترجع على الأول وإن كان أمره جليا والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه
والثالث : أن أبا حنيفة قال : إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها ( الآخر ) فالقياس أن لا يحد ولكن استحسن حده ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة فإذا عين كل واحد دارا فلم يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ويمكن التزاحف
فإذا قال : القياس أن لا يحد فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ولكنه يؤول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول فإنه إن لم يكن محدودا صار الشهود فسقه ولا سبيل إلى التفسيق ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلا فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد فليس هذا حكما بالقياس وإنما هو تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن وهذا يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى تحيقي مناطه
والرابع : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف فإنه رد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف كقوله : والله لا دخلت مع فلان بيتأ : فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة والمسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث
والخامس : ترك الدليل لمصلحة كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعا فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين كتضمين صاحب الحمام الثياب وتضمين صاحب السفينة وتضمين السماسرة المشتركين وكذلك حمال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ولاحق عنده بالصناع والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع
فإن قيل : فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان قلنا : نعم ! إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد بخلاف المصالح المرسلة ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين فإن الإجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر
والسادس : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها ووجه ذلك ظاهر فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع
وهو متجه بحسب الغرض الخاص وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة لكن استحسنوا ما تقدم
وهذا الإجماع مما ينظر فيه فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب
والسابع : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق فقد أجازوا التفاصيل اليسير في المراطلة الكثيرة وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعا للآخر وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما بينهما والأصل المنع في الجميع لما في الحديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء ولأن من زاد أو ازداد فقد أربى ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة وهما مرفوعان عن المكلف
والثامن : أن في العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ : إني أستحسن ها هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدري
وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد ينقلب ـ قال ـ والاستحسان ها هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا في العلم قد يكون أغلب من القياس ( ؟ ) ـ ثم حكى عن مالك ما تقدم ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل : من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لحق به وإن كان له منكرا وجب على قياس ذلك إذا كانت بين رجلين فوطئاها جميعا في طهر واحد وعزل أحدهما عنها فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعا يعزلان أو ينزلان والاستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل وتبرأ منه الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل لأن الولد يكون مع الإنزال غالبا ولا يكون مع العزل إلا نادرا فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه وكان ينزل لا الذي أنكره وهو يعزل والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام وله في هذا الحكم تأثير فوجب أن يصار إليه استحسانا ـ كما قال أصبغ ـ وهو ظاهر فيما نحن فيه
والتاسع : ما تقدم أولا من أن الأمة استسحنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا لا كما قال المحتجون على البدع بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرا بالعرف أيضا فإنه يسقط للضرورة إليه
وذلك لقاعدة فقهية وهي أن نفي جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه وهو يضيق أبواب المعاملات وهو تحسيم ابواب المفاوضات ( ؟ ) ونفي الضرر إنما يطلب تكميلا ورفعا لما عسى أن يقع من نزاع فهو من الأمور المكملة والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات سقطت جملة تحصيلا للمهم ـ حسبما تبين في الأصول ـ فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها إذ يشق طلب الانفكاك عنها فسومح المكلف بيسير الغرر لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل من الغرر ولم يسامح في كثيرة إذ ليس في محل الضرورة ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور وإنما نهى عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر فجعلت أصولا يقاس عليها غير القليل أصلا في عدم الاعتبار وفي الجواز وصار الكثير في حكم المنع ودار في الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها فإذا قل الغرر وسهل الأمر وقل النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث
قال العلماء : ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه فيجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه وبين تطرقه للثمن فمنعه فقال : يجوز للانسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ وإن كان اليوم بعينه لا ينضبط ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز والسبب في التفرقة المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف ولا مضايقة في الأجل إذ قد يسامح البائع في التقاضي الأيام ولا يسامح في مقدار الثمن على حال
ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة و السلام أمر بشراء الإبل إلى خروج المصدق وذلك لا يضبط يومه ولا يعين ساعته ولكنه على التقريب والتسهيل
فتأملوا كيف وجه الاستثناء من الإصول الثابتة بالحرج والمشقة
وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط ؟ فتبين لك بون ما بين المنزلتين
العاشر : أنهم قالوا : إن من جملة أنواع الإستحسان مراعاة خلاف العلماء وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة
منها : أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام في الوقت ولم يعد بعد الوقت وإنما قال : يعيد في الوقت مراعاة لقول من يقول : إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء وكان قياس هذا القول أن يعيد أبدا إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم
ومنها : قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه : إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق ويكون فيه الميراث ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق
ومنها : مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام وجب أن يتمادى لقول من قال : إن ذلك يجزئه فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم
وهذا المعنى كثير جدا في المذهب ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال لأنه ترجح عنده ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه
ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد أفريقية لإشكال عرض فيها من وجهين : أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها وهو ما أصلها من الشريعة وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه ؟ فإن الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول فإذا رجوعه ـ أعني المجتهد ـ إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد
فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد إلا أني راجعت بعضهم بالبحث وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب رحمه الله عليه فكتب إلي بما نصه :
وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف وقلتم إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقا واستشنعتم أن يقول المفتي هذا لا يجوز ابتداء وبعد الوقوع يقول بجوازه لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزا وقلتم : إنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم إلى غير ذلك مما أوردتم في المسألة
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : من استحسن فقد شرع
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه فكيف ما يبنى عليه ؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بنى عليه ولولا أنه أعتضد وتقوى لوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير فتقوى ذلك عندي غاية وسكنت إليه النفس وانشرح إليه الصدر ووثق به القلب فلأمر باتباعهم والاقتداء بهم رضي الله عنهم
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم وكل ما أوردتم في قضية السؤال وأرد عليه فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره وكيف يكون غلطة على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا ؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما ومنع زوجها منها
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود : أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها أو ليس بقاطع للعصمة فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود ؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا : إذا قدم المفقود يخير بين امرأته أو صداقها فإن اختار صداقها بقيت للثاني فأين هذا من القياس ؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما ونقل عن علي رضي اله عنه أنه قال بمثل ذلك أو أمضى الحكم به وإن كان الأشهر عنه خلافه ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك
قال ابن المعدل لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجانا ( ؟ ) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يقاربه ( ؟ ) مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة ( ؟ ) عامدا جمع الناس أنه لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة وممن نقله اللخمي و المازري وصححه الباجي وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه
وعلى الطريقة التي أوردتم أن المنهي عنه ابتداء غير معتبر ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه والآخر لم يعمل كما أمر ولا قضى شيئا وليس كل منهي عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه
وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ] وأخرج أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها : [ أيما امرأة نكحت بغيرإذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها ] فحكم أولا ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثا وسماه زنا وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة لكنه صلى الله عليه و سلم عقبة بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله : [ ولها مهرها بما أصاب منها ومهر البغي حرام ]
وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى الذي لا يصح معه عبادة ولا يقبل عمل وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى
ومن ذلك قول الصديق رضي الله عنه : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ولهذا لا يسبى الراهب وترك له ماله أو ما قل منه على الخلاف في ذلك وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له وهي عبادة الله تعالى وإن كانت عبادته أبطل الباطل فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطأ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا وتتبع مثل هذا يطول
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع : هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم فكيف بهذا ؟
وإذا خرجت المسألة المخلف فيها إلى أصل مختلف فيه فقد خرجت عن حيز الإشكال ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا
فصل : فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولا : فأما من حد الاستحسان بأنه : ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه فكان هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام ـ مثلا ـ فهو حكم الله عليهم فيلزمهم العمل بمقتضاه ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل
وأيضا فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموا من الأصول الثابتة ولم يقل أحد منهم : إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه أو لأنه يوافق محبتي ورضائي ولو قال ذلك لاشتد عليه التكبير وقيل له : من أين لك أن تحكم على عبادة الله بمحض ميل النفس وهوى القلب ؟ هذا مقطوع ببطلانه
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ويحصرون ضوابط الشرع
وأيضا فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضا : لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر ؟ والشريعة ليست كذلك
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدا ولا يفاتحون عالما ولا غيره فيما يبتغون خوفا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندا شرعيا وإنما شأنهم إذا وجدوا عالما أو لقوة أن يصانعوا وإذا وجدوا جاهلا عاميا ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ويلبسوا دينهم فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئا فشيئا وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصيته وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم حتى يهووا بهم في نار جهنم وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا
وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم والتحيل عليهم بأنواع الحيل حتى يخرجونهم من السنة أو عن الدين جملة ولولا الإطالة لأتيت بكلامه فطالعه في كتابه فضائح الباطنية
وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء واكتفى بمجرد القول فألجأ الخصم إلى الإبطال وهذا يجر فسادا لا خفاء له وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسدا فلا عبرة به وإن كان صحيحا فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه
وأما الدليل الأول فلا متعلق به فإن أحسن الاتباع إلينا اتباع الأدلة الشرعية وخصوصا القرآن فإن الله تعالى يقول ك { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } وجاء في صحيح الحديث ـ خرجه مسلم ـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبته : أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله ] فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا فضلا عن أن يقول من أحسنه
وقوله تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } الآية يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد
ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله وأنه ليس بحجة وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع
وأيضا فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع وذلك محال للعمل بأن ذلك مضاد للشريعة فضلا عن أن يكون من أدلتها
وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه :
أحدها : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا لأن الإجتماع يتضمن دليلا شرعيا فالحديث دليل عليكم لا لكم
والثاني : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع
والثالث : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام وهو باطل بإجماع لا يقال : إن المراد استحسان أهل الاجتهاد لأنا نقول : هذا ترك للظاهر فيبطل الاستدلال ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة فأي حاجة إلى اشتراط الاجتهاد ؟
فإن قيل : إنما يشترط حذرا من مخالفة الأدلة فإن العامي لا يعرفها قيل : بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع
فالحاصل إن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة لكن ربما يتعلقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ومنها ما قد مضى
فصل : فإن قيل : أفليس في الأحاديث فإن قيل : أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويجري في النفس وإن لم يكن ثم دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ولا غير صريح ؟ فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ]
وخرج مسلم [ عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه ] وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : [ قال رجل يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن قال : يا رسول الله ! فما الإثم ؟ قال : إذا حاك شيء في صدرك فدعه ] وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] و [ عن وابصة رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : يا وابصة ! استفت قلبك واستفت نفسك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ] وخرج البغوي في معجمه عن عبد الرحمن بن معاوية :
[ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! ما يحل لي مما يحرم علي ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرد عليه ثلاث مرات كل ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله فقال : ـ ونقر بأصبعه ـ : ما أنكر قلبك فدعه ]
وعن عبد الله قال : الإثم حواز القلوب فما حاك من شيء في قلبك فدعه وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعا وقال أيضا : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن الخير طمأنينة وأن الشر ريبة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال شريح : دع ما يريبك إلى ما يريبك فوالله ما وجدت فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدم عليه صحيح وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر وإن لم يكن ثم دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيدا بالأدلة الشرعية لم يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب مع أنه عندكم عبث وغير مفيد كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية أو الأفعال التي لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثرا في شرعية الأحكام وهو المطلوب
والجواب : أن هذه الأحاديث وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب الآثار أن جماعة من السلف قالوا بتصحيحها والعمل بما دل عليه ظاهرها وأتى بالآثار المتقدمة عن عمر وابن مسعود وغيرهما ثم ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها
وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله فحكى عن جماعة أنهم قالوا : لا شيء من أمر الدين إلا وقد بينه الله تعالى بنص عليه بمعناه فإن كان حلالا فعلى العامل به إذا كان عالما تحليله أو حراما فعليه تحريمه أو مكروها غير حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنزيها
فأما العامل بحديث النفس والعارض في القلب فلا فإن الله حظر ذلك على نبيه فقال : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه وحدثته به نفسه فغيره من الشرك أولى أن يكون ذلك محظورا عليه وأما إن كان جاهلا فعليه مسألة العلماء دون ما حدثته نفسه
ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال : إيها الناس ! قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة ان تضلوا بالناس يمينا وشمالا
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كان في القرآن من خلال أو حرام فهو كذلك وما سكت عنه فهو مما عفي عنه
وقال مالك : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولا ينبع الرأي فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه فكلما غلبه رجل اتبعه أرى أن هذا بعد لم يتم
واعملوا من الآثار بما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ]
وروي عن عمرو بن [ شعيب عن أبيه عن جده ] ـ [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما وهم يجادلون في القرآن فخرج و وجهه أحمر كالدم فقال : يا قوم ! على هذا هلك من كان قبلكم جادلوا في القرآن وضربوا بعضه ببعض فما كان من حلال فاعملوا به وما كان من حرام فانتهوا عنه وما كان من متشابه فآمنوا به ]
و [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فيه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا : { وما كان ربك نسيا } ]
قالوا : فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله والإعلام بأن العامل به لن يضل ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة ولو كان ثم ثالث لم يدع بيانه فعدل على أن لا ثالث ومن ادعاه فهو مبطل
قالوا : فإن قيل : فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجها ثالثا وهو قوله : [ استفت قلبك ] وقوله : [ الإثم حواز القلوب ] إلى غير ذلك قلنا : لو صحت هذه الأخبار لكان ذلك إبطالا لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذ صحا معا لأن أحكام الله ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته وإنما كان يكون وجها ثالثا لو خرج شيء من الدين عنهما وليس بخارج فلا ثالث يجب العمل به
فإن قيل : قد يكون قوله : [ استفت قلبك ] ونحوه أمرا لمن في مسألته نص من كتاب ولا سنة واختلفت فيه الأمة فيعد وجها ثالثا قلنا : لا يجوز ذلك لأمور :
أحدها : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلا لم يكن لنصت الدلالة الشرعية عليه معنى فيكون عبثا وهو باطل
والثاني : أن الله تعالى قال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب
والثالث : أن الله تعالى قال : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من أمر محمد صلى الله عليه و سلم ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم
والرابع : أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } إلى آخرها فأمرهم بالإعتبار بعبرته والإستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ويصدوا عما اطمأنت إليه قلوبهم وقد وضع الأعلام والأدلة فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله
وهذا ما حكاه الطبري عمن تقدم ثم اختار إعمال تلك الأحاديث إما لأنها صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها كحديث :
[ الحلال بين والحرام بين ] إلى آخر الحديث فإنه صحيح خرجه الإمامان ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال : إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر أو : استفت قلبك في إحداث هذا العمل فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا
وكذلك في النسبة إلى التشريع التركي لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه بأن يقال : إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه وإلا فدعه أي فدع الترك واعمل به وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلاة و السلام : [ الحلال بين والحرام بين ] الحديث
وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء والطعام والشراب والنكاح واللباس وغير ذلك مما في هذا المعنى فمنه ما هو بين الحلية وما هو بين التحريم وما فيه إشكال وهو الأمر المشتبه الذي لا يدرى أحلال هو أم حرام ؟ فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهلة بحاله نظير قوله عليه السلام : [ إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها ] فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين : إما من الصدقة وهي حرام عليه وإما من غيرها وهي حلال له فترك أكلها حذرا من أن تكون من الصدقة في نفس الأمر
قال الطبري : فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو سعة من تركه والعمل به أو مما هو غير واجب ـ أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه إذ يزول بذلك عن نفسه الشك كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها ولا يعلم صدقها من كذبها فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة وليس تزوجه إياها بواجب بخلاف ما لو أقدم فإن النفس لا تطمئن إلى حلية تلك الزوجة
وكذلك قول عمر إنما هو فيما أشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم حرام ؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب كما في الإقدام شك : هل هو آثم أم لا ؟ وهو معنى قوله عليه السلام للنواس ووابصة رضي الله عنهما ودل على ذلك حديث المشتبهات لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعلموا بما رأته أنفسهم ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم
قال الطبري فإن قيل : إذا قال الرجل لامرأته : أنت علي حرام فسأل العلماء فاختلفوا عليه فقال بعضهم : قد بانت منك بالثلاث : وقال بعضهم : إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين وقال بعضهم : ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق أو الظهار فهو ظهار أو يمينا فهو يمين وإن لم ينو شيئا فليس بشيء : أيكون هذا اختلافا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفا من الوقوع في المحظور أو لا ؟ قيل : حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح فهذا ممكن والحزازة مرتفعة بهذا البحث بخلاف ما إذا بحث مثلا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة فهما على هذا مختلفان وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده لم يثبت له ترجيح لأحدهم فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة بالرضاع سواء إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير انتهى معنى كلام الطبري
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير بل حكمه حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام ؟ فلا خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به وإلا فالترك إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة
فصل ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد وهو الذي رآه الطبري وذك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية وهو التشريع بعينه فإن طمأنينة النفس القلب مجردا عن الدليل إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعا فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة وإن كانت معتبرة فقد صار ثم قسم ثالث غير الكتاب والسنة وهو غير ما نفاه الطبري وغيره
وإن قيل : إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام لم تخرج تلك عن الإشكال الأول لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لا بد أن يتعلق به حكم شرعي وهو الجواز وعدمه وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها فإن كان ذلك عن دليل فهو ذلك الأول بعينه باق على كل تقدير
والجواب : أن الكلام الأول صحيح وإنما النظر في تحقيقه
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين : تظر في دليل الحكم ونظر في مناطه فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ولا نفي ريب القلب إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا أو غير دليل ولا يقول أحد ( ؟ ) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس ( ؟ ) أن الأمر كما زعموا وهو مخالف لإجماع المسلمين أ
وأما النظر في مناط الحكم فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد بل لا يشترط فيه العلم فضلا : عن درجة الاجتهاد : ألا ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي : هل تبطل به الصلاة أم لا ؟ فقال العامي : إن كان يسيرا فمغتفر وإن كان كثيرا فمبطل لم يغتفر في ا لسير إلى أن يحققه له العالم بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير فقد انبنى ها هنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس
العامي وليس واحدا من الكتاب أو السنة لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلا على الحكم وإنما هو مناط الحكم فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو الملطوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي
وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب لأنه نظر في مناط الحكم
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله لأن حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه : أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية فتحقق مناطها بالنسبة إليه وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه واطمأنت إليه نفسه لا بحسب الأمر في نفسه الا ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام ؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالا لأن أدلة الشرع لا تناقض أبدا فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين كاختلاط الميتة بالذكية واختلاط الزوجة بالأجنبية
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه وهي تلك الأحاديث المتقدمة كقوله : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] وقوله : [ البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك ] كأنه يقول : إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة فالحكم فيه من الشرع بين
وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : [ استفت قلبك ] وإن أفتوك فإن تحقيك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك لأنه لم يعرض له ما عرض لك
وليس المراد بقوله : [ وإن أفتوك ] أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك فإن هذا باطل وتقول على التشريع الحق وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط
نعم قد لا يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه لك غيرك وتقلده فيه وهذه الصورة خارجة عن الحديث كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع كحد الغنى الموجب للزكاة فإنه يختلف باختلاف الأحوال فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائتي درهم وأشباه ذلك وإنما النظر هنا فيما وكل تحقيقه إلى المكلف
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل وهو تحقيق بالغ والحمد لله الذي بنعته تتم الصالحات
الباب التاسع في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين
فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرا من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة وهو الفرقة الحاصلة حتى يكونوا بسببها شيعا متفرقة لا ينتظم شملهم بالإسلام وإن كانوا من أهله وحكم لهم بحكمه
ألا ترى أن قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } الآية وقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق ؟
وفي الحديث :
[ ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] والتفرق ناشىء عن الاختلاف في المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان ـ وهو الحقيقة ـ وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب فهو الاختلاف كقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا }
للإختلاف سببان : كسبي وغير كسبي فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه ؟ وله سببان ( أحدهما ) : لا كسب للعبادة فيه وهو الراجع إلى سابق القدر والآخر هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع فنقول والله الموفق للصواب :
آية ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة وتفسيرها
قال الله تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا مع أنه إنما خلقهم للاختلاف وهو قول جماعة من المفسرين في الآية وأن قوله : { ولذلك خلقهم } معناه : وللاختلاف خلقهم وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد على الناس فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم وليس المراد ها هنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ولا في الألوان كالأحمر والأسود ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والأعمى والبصير والأصم والسميع ولا في الخلق كالشجاع والجبان والجواد والبخيل ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين كما قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه } الآية وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا
هذا هو المراد من الآيات التي كرر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :
فصل أحدها : الاختلاف في أصل النحلة وهو قول جماعة من المفسرين منهم عطاء قال : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال قال : اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ الحنيفية خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي في الآية المذكورة
وأصل هذا الاختلاف هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في أن لهم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم إلا أنهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة من قائل بالاثنين وبالخمسة وبالطبيعة أو الدهر أو بالكواكب إلى أن قالوا بالآدميين وبالشجر وبالحجارة وما ينحتون بأيديهم
ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضا إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله فعرفوا بالحق على ما ينبغي ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد وإضافة الصاحبة والأولاد فأقر بذلك من أقر به وهم الداخلون تحت مقتضى قوله : { إلا من رحم ربك } وأنكر من أنكر فصار إلى مقتضى قوله : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة وهو قوله : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وهو منقول عن جماعة من المفسرين
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : { ولذلك خلقهم } خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا وهو معنى ما نقل عن مالك و طاوس في جامعه وبقي الآخرون على وصف الاختلاف إذ خالفوا الحق الصريح ونبذوا الدين الصحيح
وعن مالك أيضا قال : الذين رحمهم لم يختلفوا وقول الله تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } ومعنى : { كان الناس أمة واحدة } فاختلفوا { فبعث الله النبيين } فأخبر في الآية أنهم اختلفوا ولم يتفقوا فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الاختلاف
وفي الحديث الصحيح :
[ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فاليهود غدا والنصارى بعد غد ]
وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه }
وختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليوم الجمعة
واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واستقبلت اليهود بيت المقدس وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للقبلة
واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ولا يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للحق من ذلك
واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للحق من ذلك
واختلفوا في عيسى عليه السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله اللخ روحه وكلمته فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للحق من ذلك
ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الأصول وفب الجزئيات دون الكليات فلذلك لا يضر هذا الاختلاف
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر بل لهم فيه أعظم العذر ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع أتى فيه بأصل يرجع إليه وهو قول الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله وذلك رده إلى كتابه وإلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك رده إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين } أم لا ؟ والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } فإنها اقتضت قسمين : أهل الاختلاف والمرحومين فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشيء قسيما له ولم يستقم معنى الاستثناء
والثاني : أنه قال فيها : { ولا يزالون مختلفين } فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والاتقطاع أليق في الموضع
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : انه من أهل الرحمة وذلك باطل بإجماع أهل السنة
والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة وإذا كان من جملة الرحمة فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في العمل لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكرن الحديث ـ قال ـ فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل ! فما يسرني باختلافهم حمر النعم وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يختلفون لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيضير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم وهو نوع من تكليف ما لا يطاق وذلك من أعظم الضيق فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم فكان فتح باب الأمة للدخول في هذه الرحمة فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك ؟ ! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله
وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية وهو المؤدي إلى التفرق شيعا
فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف ولذلك صح عنه صلى الله عليه و سلم : [ أن أمته تفترق على بضع و سبعين فرقة ] وأخبر :
[ أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ] وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار وذلك بعيد من تمام الرحمة
ولقد كان عليه الصلاة و السلام حريصا على ألفتنا وهدايتنا حتى ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : [ لما حضر النبي صلى الله عليه و سلم ـ قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ـ فقال : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه و سلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر فلما كثر اللغط والإختلاف عند النبي صلى الله عليه و سلم قال : قوموا عني فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ]
فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحيا أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : { ولا يزالون مختلفين } بدخولها تحت قوله : { إلا من رحم ربك } فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم رضينا بقضاء الله وقدره ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنة ويميتنا على ذلك بفضله
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع وأن من رحم ربك أهل السنة ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل وهذا لا بد من بسطه
فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى العالمين بمواردها ومصادرها
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :
أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتارة آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادىء رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها وهذا هو المبتدع وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم إتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ]
قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله وقد صرف هذا المعنى تصريفا فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان قال ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتى من ليس بعالم
قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا فقيل له : مصيبة نزلت بك ؟ فقال لا ! ولكن استفتى من لا علم عنده
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قبل الساعة سنون خداعا يصدق فيهن الكاذب ويكذب فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهن الرويبضة ] قالوا : هو الرجل التافة الحقير ينطق في أمور العامة كأنه ليس بأهل أن يتكلم في أمور العامة فيتكلم
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قد علمت متى يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل الصغير عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا
واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار فقال ابن المبارك : هم أهل البدع وهو موافق لأن أن أهل البدع أصاغر في العلم ولأجل ذلك صاروا أهل بدع
وقال الباجي : يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده قال : وقد كان عمر يستشير الصغار وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا قال : ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة فأما من التزمهما فلا بد أن سمو أمره ويعظم قدره
ومما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال : العامل على غير علم كالسائر على غير طريق والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه و سلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا ـ يعني الخوارج ـ والله أعلم لأنهم قرؤوا القرآن ولم يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الحديث
[ يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ]
وروي عن مكحول أنه قال : تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا وتفقه السفلة فساد الدين
وقال الفريابي : كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم تغير وجهه فقلت : يا أبا عبد الله ! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك قال : كان العلم في العرب وفي سادات الناس وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غير الدين
وهذه الآثار أيضا إذا حملت على تأويل المتقدم استدت واستقامت لأن ظواهرها مشكلة ولعلك إذا استقريت أهل البدع من المتكلمين أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ومن ليس له أصالة في اللسان العربي فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها
والثاني من أسباب الخلاف إتباع الهوى ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها بل قدموا أهوءاهم واعتمدوا على آرائهم ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم أو طلبا للرياسة فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين
فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقلوهم وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان وحشر الأجساد والنعيم والعذاب الجسمي وأنكروا رؤية الباري وأشباه ذلك بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل إلى غير ذلك من الشناعات
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البينات وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة حرصا على أن يغلب عدوه أو يفيد وليه أو يجر إلى نفسه نفعا كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور فإنه عزل عن قضاء ألبيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زيادة وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتي أحدا
ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلته منزهة وتأذية برؤيتهم أو أن تطلعه من علالية فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر وتوبيخهم فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعارضة وتقلد حقا وناظر أصحابه فيها فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعارضة
فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يقتدى بهم أكثر الأمة وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا
فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم ! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم في ذلك ؟ قالوا : بلى ! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مأخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي
فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجيبة وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعارضة فهنىء بالولاية وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة
قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال
فتأملوا كيف اتباع الهوى وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين :
احدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به لأن أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ومن حكى عنهم ذلك فإما على غير تثبيت وإما أنه كان قولا لهم رجعوا عنه بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية
والثاني : أنه إن سلمنا فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالمحبة والإمارة أو قضاء الحاجة إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا وهذا متفق عليه بين العلماء فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق أو رجح بغير معنى فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع عافانا الله من ذلك بفضله
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث وسيأتي بيان ذلك بعد إن شاء الله
وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم قال الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } ـ أي ميل عن الحق ـ { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } وقد تقدم معنى الآية فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه عكس ما عليه الحق في نفسه
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ وذكرت الخوارج وما يلقون في القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه وقرأ ابن عباس الآية خرجه ابن وهب
وقد دل على ذمة القرآن في قوله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } الآية ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه وقال : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } إلى غير ذلك من الآيات وحكى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلا سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء : أيها خير ؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول يعني ما كان عليه السلف الصالح
وخرج عن الثوري أن رجلا أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : أنا على هواك فقال له ابن عباس : الهوى كله ضلالة : أي شيء انا على هواك ؟
والثالث من أسباب الخلاف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق
وهو إتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك وهو التقليد المذموم فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } الآية ثم قال : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } وقوله : { هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون } فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء فقالوا : { بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله :
[ اتخذ الناس رؤساء جهالا ] إلى آخره فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان
وفيما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك وقالوا : ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل مثله ولعله فعله ساهيا وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة وما أشبه ذلك لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه
وقول علي رضي الله عنه : فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات نكتة في الموضع
يعني الصحابة ومن جرى مجراهم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه وأما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا كأن يرى الإنسان رجلا يحسن اعتقاده فيه فيفعل فعلا محتملا أن يكون مشروعا أو غير مشروع فيقتدى به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد ويجعله حجة في دين الله فهذا هو الضلال بعينه وما لم يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى
وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء فيراه يعمل عملا فيظنه عبادة فيقتدى به كائنا ما كان ذلك العمل موافقا للشرع أو مخالفا ويحتج به على من يرشده ويقول : كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به علماء الظاهر فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب كالذين قلدوا آباءهم سواء وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا : إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى
وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع أنهم يرون أن لا دليل عليها ولا برهان يقود إلى القول بها
فصل هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وصفهم :
بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قولبهم لأن الفهم راجع إلى القلب فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] إلى آخره
وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال : خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا وقال سعيد : فيكون لكل قوم رأي فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره علي فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه
وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها فلم يتعد ذلك فيها وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات فلم يكن بد من الأخذ ببادىء الرأي أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين فسر سعيد بن جبير من ذلك فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ويقرنون معها : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك فهؤلاء مشركون خرجوا على الأمة يقتلون ما يرونه مخالفا لهم لأنهم يتأولون هذه الآية فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس وهو الناشىء عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن
فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم عنه في واسطة بين طرفين فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما فلم تفعل بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير وهو الاختلاف في الفروع
فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا أما الجهة الأخرى فإن عدم ذكرهم في هذه الآمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول وإلا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة ولا أخبر الشارع به ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [ ما ] كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها كذلك لا نقول : اختلفت الأمة وافترقت الأمة بعد اتفاقها أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة ولذلك [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخوارج : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ثم قال : [ وتتمارى في الفوق ] وفي رواية :
[ فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة : هل علق بها من الدم شيء ] و [ التمارى في الفوق ] فيه هل فيه فرث ودم أم لا ؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة ؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا
وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ألا ترى إلى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج ؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم علي ولا قاتلهم ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله عليه الصلاة و السلام :
[ من بدل دينه فاقتلوه ] ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين
وأيضا فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه ولم يعاملهم معاملة المرتدين
ومن جهة المعنى ! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا وهو كفر وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه مبتع للدليل يمثله لا يقال : إنه صاحب هوى بإطلاق بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة
وأيضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجماعة من مطلب واحد وهو الانتساب إلى الشريعة ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلا ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع ؟
وأيضا فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان وإن كان الغالب عدم الرجوع كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة
حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي جعل يأتيه الرجل فيقول : يا أمير المؤمنين ! إن القوم خارجون عليك قال : دعهم حتى يخرجوا فلما كان ذات يوم قلت : يا أمير المؤمنين ! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهو قائلون فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر قد أثر السجود في جباههم كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مرخصة فقالوا : ما جاء بك با بن عباس ؟ وما هذه الحلة عليك ؟ ـ قال ـ قلت : ما تعيبون من ذلك ؟ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ ثم قرأت هذه الآية : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } فقالوا : ما جاء بك ؟ قال : جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله جئت لأبلغكم عنهم وأبلغكم عنكم فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : { بل هم قوم خصمون } فقال بعضهم : بلى ! فلنكلمه ـ قال ـ فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة ـ قال ـ قلت ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا : ثلاثا فقلت : ما هن ؟ قالوا : حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى : { إن الحكم إلا لله } ـ قال ـ هذه واحدة ماذا أيضا ؟ قالوا : فإنه قاتل فلم سب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم ـ قال ـ قلت : وماذا أيضا ؟ قالوا : ومحا نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن امير المؤمنين فهو أمير الكافرين ـ قال ـ قلت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا أترجعون ؟ قالوا : وما لنا لا نرجع ؟
قال ـ قلت ـ أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } وقال في المرأة وزوجها : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فناشدتكم الله ! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم ؟ وفي بضع امرأة ؟ قالوا : بلى ! هذا أفضل : قال : أخرجتم من هذه ؟ قالوا : نعم !
قال وأما قولكم : قاتل ولم سب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة ؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم فأنتم ترددون بين ضلالتين اخرجتم من هذه ؟ قالوا : بلى !
قال : وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون [ إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو : ما نعلم أنك رسول الله ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك قال رسول الله : اللهم إنك تعلم أني رسولك يا علي اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون ]
فصل حديث تفرق الأمة صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] وخرجه الترمذي هكذا
وفي رواية أبي داود قال :
[ افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ]
وفي الترمذي تفسير هذا ولكن بإسناد غريب عن غير أبي هريرة رضي الله عنه فقال في حديث :
[ وإن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي ]
وفي سنن أبي داود :
[ وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة ] وهي بمعنى الرواية التي قبلها إلا أن هنا زيادة في بعض الروايات : [ وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ]
وفي رواية عن ابن أبي غالب موقوفا عليه :
[ إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم ] وفي رواية مرفوعا :
[ ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ]
وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة قدح فيه ابن عبد البر لأن ابن معين قال : إنه حديث باطل لا أصل له شبه فيه على نعيم حماد قال بعض المتأخرين : إن الحديث قد روي عن جماعة من الثقات ثم تكلم في إسناده بما يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد البر ثم قال : وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون ـ يعني ابن معين ـ قد اطلع منه على علة خفية
وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب
[ إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة كلها في النار إلا واحدة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : ـ الجماعة ]
فإذا تقرر هذا تصدى النظر في الحديث في مسائل :
المسالة الأولى في حقيقة هذا الإفتراق وهو يحتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ويحتمل أم يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ وذلك باطل بالإجماع فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ثم في سائر الصحابة ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف فكيف أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث ؟ وإنما يراد افتراق مقيد وإن لم يكن في الحديث نص عليه ففي الآيات مما يدل عليه قوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وما أشبه ذلك الآيات الدالة على التفرق الذي صاروا به شيعا ومعنى صاروا شيعا أي جماعات بعضهم قد فارق البعض ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر بل على ضد ذلك فإن الإسلام واحد وأمره واحد فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف
وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء ولذلك قال :
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } فبين أن التأليف إنما يحصل عند الاتئلاف على التعلق بمعنى واحد وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلا بد من التفرق وهو معنى قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الحديث واستقام معناه والله أعلم
المسألة الثانية إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العدواة والبغضاء فإما أن يكون راجعا إلى أمر هو معصية غير بدعة
إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العدواة والبغضاء فإما أن يكون راجعا إلى أمر هو معصية غير بدعة ومثاله أن يقع بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنيوي كما يختلف مثلا أهل قرية مع قرية أخرى بسبب تعد في مال أو دم حتى تقع بينهم العدواة فيصيروا حزبين أو يختلفون في تقديم وال أو غير ذلك فيفترقون ومثل هذا محتمل وقد يشعر به
[ من فارق الجماعة قيد شبر فميتته جاهلية ] وفي مثل هذا جاء في الحديث :
[ إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما ] وجاء في القرآن الكريم : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } إلى آخر القصة
وأما أن يرجع إلى أمر هو بدعة كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التي ينوا عليها في الفرقة وكالمهدي المغربي الخارج عن الأمة نصرا للحق في زعمه فابتدع أمورا سياسية وغيرها خرج بها عن السنة ـ كما تقدمت الإشارة إليه قبل ـ وهذا هو الذي تشير إليه الآيات المتقدمة والأحاديث لمطابقتها لمعنى الحديث وأما أن يراد المعنيان معا
فأما الأول فلا أعلم قائلا به وإن كان ممكنا في نفسه إذ لم أر أحدا خص هذه بما إذا افترقت الأمة بسبب أمر دنيوي لا بسبب بدعة وليس ثم دليل يدل على التخصيص لأن قوله عليه الصلاة و السلام : [ من فارق الجماعة قيد شبر ] الحديث لا يدل على الحصر وكذلك : [ إذ بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما ] وقد اختلف الفرقة في المراد بالجماعة المذكورة في الحديث حسبما يأتي فلم يكن منهم قائل بأن الفرقة المضادة للجماعة هي فرقة المعاصي غير البدع على الخصوص
وأما الثاني : وهو أن يراد المعنيان معا فلذلك أيضا ممكن إذ الفرقة المنبه عليها قد تحصل بسبب أمر دنيوي لا مدخل فيها للبدع وإنما هي معاص ومخالفات كسائر المعاضي وإلى هذا المعنى يرشد قول الطبري في تفسير الجماعة ـ حسبما يأتي بحول الله ـ ويعضده حديث الترمذي :
[ ليأتين على أمتي من يصنع ذلك ] ( ؟ ) فجعل الغاية في اتباعهم ما هو معصية كما ترى
وكذلك في الحديث الآخر :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم ـ إلى قوله ـ حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لاتبعتموهم ] فجعل الغاية ما ليس ببدعة
وفي معجم البغوي عن جابر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه : أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء ـ قال : وما إمارة السفهاء ؟ ـ قال أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون علي الحوض ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم ويردون علي الحوض ] الحديث
وكل من لم يهتد بهيده ولا يستن بسنته فإما إلى بدعة أو معصية فلا اختصاص بأحدهما غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست بدع وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله
المسألة الثالثة : إن هذه الفرق يحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة
إن هذه الفرقة تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا
فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق وليس ذلك إلا لكفر إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور
ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة كقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وهي آية نزلت ـ عند المفسرين ـ في أهل البدع ويوضحه من قرأ : { إن الذين فرقوا دينهم } والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه وقوله : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع وهذا كالنص إلى غير ذلك من الآيات
وأما الحديث فقوله عليه الصلاة و السلام : [ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] وهذا نص في كفر من قبل ذلك فيه وفسره الحسن بما تقدم في قوله
[ ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ] الحديث وقوله عليه الصلاة و السلام في الخوارج :
[ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ـ وهو القدح ـ ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء من الفرث والدم ] فانظر إلى قوله : [ من الفرث والدم ] فهو الشاهد على أنهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيء
وفي رواية أبي ذر رضي الله عنه :
[ سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة ] إلى غير ذلك من الأحاديث إنما هي قوم بأعيانهم فلا حجة فيها على غيرهم لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء كما استدلوا بالآيات
وأيضا فالآيات إن دلت بصيغ عمومها فالأحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة
فإن قيل : الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة والقياس لا يجري فيها فالجواب : إن كلا منا في الأحكام الدنيوية وهل يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا ؟ وإنما أمر الآخرة لله لقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله
ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل فلا فائدة في الإعادة
ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح ومنهم من لم يفارقه بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقالة وشنع مذهبه لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح
ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة وبحسب كل بدعة إذ لا شك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما أشبه ذلك
ولقد فصل بعض المتأخرين في التكفير تفصيلا في هذه الفرق فقال : ما كان من البدع راجعا إلى اعتقاد وجود إله مع الله كقوله السبئية في علي رضي الله عنه إنه إله أو خلق الإله في بعض أشخاص الناس كقول الجناحية : إن الله تعالى له روح يحل في بعض بني آدم ويتوارث أو إنكار رسالة محمد صلى الله عليه و سلم كقول الغرابية : إن جبريل غلط في الرسالة فأذاها إلى محمد صلى الله عليه و سلم وعلي كان صاحبها أو استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر الغلا ة من الشيعة مما لا يختلف المسلمون في التكفير به وما سوى ذلك من المقالات فلا يبعد أن يكونوا معتقدها غير كافر
واستدل على ذلك بأمور كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار ويرمي مخالفة به تبني له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال
وإذا تقرر نقل الخلاف فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذي نحن بصدده من هذه المقالات
أما ما صح منه فلا دليل على شيء لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق خاصة وأما على رواية من قال في حديثه :
[ كلها في النار إلا واحدة ] فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ويبقى الخلود وعدمه مسكوتا عنه فلا دليل فيه على شيء مما أردنا إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة وإن تباينا في التخليد وعدمه
المسألة الرابعة إن هذه الأقوال المذكورة آنفا مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة
إن هذه الأقوال المذكورة آنفا مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها وهو مما ينظر فيه فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص وهو رأي الطرطوشي إفلا ترى إلى قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } و ما في قوله تعالى : { ما تشابه } لا تعطى خصوصا في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها بل الصيغة تشمل ذلك كله فالتخصيص تحكم
وكذلك قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فجعل ذلك التفريق في الدين ولفظ الدين ويشمل العقائد وغيرها وقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم وشبه ما تقدم في السورة من تحريم ما ذبح لغير الله لغير الله وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره وإيجاب الزكاة كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق
ثم قال تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } فذكر أشياء من القواعد وغيرها فابتدأ بالنهي عن الإشتراك ثم الأمر ببر الوالدين ثم النهي عن قتل الأولاد ثم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم عن قتل النفس بإطلاق ثم عن أكل مال اليتيم ثم الأمر بتوفية الكيل والوزن ثم العدل في القول ثم الوفاء بالعهد
ثم ختم ذلك بقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
فأشار إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية ولم يخص ذلك بالعقائد فدل على أن إشارة الحديث لا تختص بها دون غيرها
وفي حديث الخوارج ما يدل عليه أيضا فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالهم وقال في جملة ما ذمهم به :
[ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات كما قالوا : حكم الرجال في دين الله والله بقول : { إن الحكم إلا لله }
وقال أيضا :
[ ويقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] فذمهم بعكس ما عليه الشرع لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد
فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص فيما رواه نعيم بن حماد في هذا الحديث :
[ أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] وهذا نص في أن ذلك العدد لا يختص بما قالوا من العقائد
واستدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسار العلماء من تسيتهم الأقوال والأفعال بدعا إذا خالفت الشريعة ثم أتى بآثار كثيرة كالذي رواه مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا لنداء بالصلاة يعني بالناس الصحابة وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ورآها مخالفة لأفعال الصحابة
وكذلك أبو الدراداء سأله رجل فقال : رحمك الله لو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا هلة ينكر شيئا مما نحن عليه ؟ فغضب واشتد غضبه ثم قال : وهل يعرف شيئا مما أنتم عليه ؟
وفي البخاري عن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدرداء مغضبا فقلت له : ما لك ؟ فقال : والله ما اعرف منهم من أمر محمد أنهم يصلون جميعا وذكر جملة من أقاويلهم في هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة في الأفعال قد ظهرت
وفي مسلم قال مجاهد : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة وإذا ناس في المسجد يصلون الضحى فقلنا : ما هذه الصلاة ؟ فقال : بدعة
قال الطرطوشي : فحمله عندنا على أحد وجهين : إنا أنهم يصلونها جماعة وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماء على أنها بدع فصح أن البدع لا تختص بالعقائد وقد تقررت هذه المسألة في كتاب الموافقات بنوع آخر من التقرير
نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر هنا وهي :
المسألة الخامسة أن هذه الفرق إنما تصير فرقا لخلافها للفرقة الناجية وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية لأن الكليات تقتضي عددا من الجزئيات غير قليل وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب
واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلي فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال
ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا وأما الجزئي فبخلاف ذلك بل بعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون ولكن إذا قرب موقع الزلة لم يحصل بسببها تفرق في الغالب ولا هدم للدين بخلاف الكليات
فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو في الدين إذا كان اتباعا مخلا بالواضحات وهي أم الكتاب وكذلك عدم تفهم القرآن موقع في الإخلال بكلياته وجزئياته
وقد ثبت أيضا للكفار بدع فرعية ولكنها في الضروريات وما قاربها كجعلهم لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ولشركائهم نصيبا ثم فرعوا عليه أن ما كان لشركائهم فلا يصل إلى اله وما كان لله وصل إلى شركائهم وتحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وقتلهم أولادهم سفها بغير علم وترك العدل في القصاص والميراث والحيف في النكاح والطلاق وأكل مال اليتيم على نوع من الحيل إلى أشباه ذلك مما نبه عليه الشرع وذكره العلماء حتى صار التشريع ديدنا لهم وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام سهلا عليهم فأنشأ ذلك أصلا مضافا إليهم وقاعدة رضوا بها وهي التشريع المطلع لا الهوى ولذلك لما نبههم الله تعالى على إقامة الحجة عليهم بقوله تعالى : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين } قال فيها : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } فطالبهم بالعلم الذي شأنه أن لا يشرع إلا حقا وهو علم الشريعة لا غيره ثم قال تعالى : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } تنبيها لهم على أن هذا ليس مما شرعه في ملة إبراهيم : ثم قال : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } فثبت أن هذه الفرق إنما افترقت بحسب أمور كلية اختلفوا فيها والله أعلم
المسألة السادسة إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار ـ على قول من قال به ـ أو ينقسمون إلى كافر وغيره فكيف يعدون من الأمة ؟ وظاهر الحديث يقتضي أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة وإلا فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر لم يعدوا منها البتة ـ كما تبين :
وكذلك الظاهر في فرق اليهود والنصارى إن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هودا ونصارى ؟
فيقال في الجواب عن هذا السؤال : إنه يحتمل أمرين :
أحدهما : أنا نأخذ الحديث على ظاهره في كون هذه الفرق من الأمة ومن أهل القبلة ومن قيل بكفره منهم فإما أن يسلم فيهم هذا القول فلا يجعلهم من الأمة أصلا ولا أنهم مما يعدون في الفرق وإنما نعد منهم من لا تخرجه بدعته إلى كفر فإن قال بتكفيرهم جميعا فلا يسلم أنهم المرادون بالحديث على ذلك التقدير وليس في حديث الخوارج نص على أنهم من الفرق الداخلة في الحديث بل نقول : المراد بالحديث فرق لا تخرجهم بدعهم عن الإسلام فليبحث عنهم
وإما أن لا نتبع المكفر في إطلاق القول بالتكفير ونفصل الأمر إلى نحو مما فصله صاحب القول الثالث ويخرج من العدد من حكمنا بكفره ولا يدخل تحت عمومه إلا ما سواه مع غيره ممن لم يذكر في تلك العدة
والإحتمال الثاني : أن نعدهم من الأمة على طريقة لعلها تتمشى في المواضع وذلك أن كل فرقة تدعي الشريعة وأنها على صوبها وأنها المتبعة للمتبعة لها وتتمسك بأدلتها وتعمل على ما ظهر لها من طريقها ! وهي تناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها وترمي بالجهل وعدم العلم من ناقضها لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقر به ورضيه ولم يسخطه ولم يعادل لتلك النسبة كسائر اليهود والنصارى وأرباب النحل المخالفة للإسلام
بخلاف هؤلاء الفرق فإنهم مدعون الموالفة للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة ولذلك تجدهم مبالغين في العمل والعبادة حتى بعض أشد الناس عبادة مفتون
والشاهد لهذا كله ـ مع اعتبار الواقع ـ حديث الخوارج فإنه قال عليه الصلاة و السلام : [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم ] وفي رواية :
[ يخرج من أمتي قوم يقرؤون القرآن ليست قراءتكم من قراءتهم بشيء ولا صلاتكم من صلاتهم بشيء ] وهذه شدة المثابرة على العمل به ومن ذلك قولهم كيف يحكم الرجال والله يقول : { إن الحكم إلا لله } ؟ ففي ظنهم أن الرجال لا يحكمون بهذا الدليل ثم قال عليه الصلاة و السلام : [ يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ]
فقوله عليه الصلاة و السلام : [ يحسبون أنه لهم ] واضح فيما قلنا ثم إنهم يطلبون اتباعه بتلك الأعمال ليكونوا من أهله وليكون حجة لهم فحين ابتغوا تأويله وخرجوا عن الجادة كان عليهم لا لهم
وفي معنى ذلك من قول [ ابن مسعود قال : وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق عليكم بالعتيق ] فقوله : [ يزعمون ] كذا دليل على أنهم على الشرع فيما يزعمون
ومن الشواهد أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ! وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا ـ قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ؟ ـ قال : بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطكم على الحوض قالوا : يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك ؟ قال : أرأيت لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فيذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم : ألا هلم ألا هلم ! فيقال قد بدلوا بعدك فأقول : فسحقا فسحقا فسحقا ]
فوجه الدليل من الحديث أن قوله : [ فيلذادن رجال عن حوضي ] إلى قوله : [ أناديهم ألا هلم ] مشعر بأنهم من أمته وأنه عرفهم وقد بين أنهم يعرفون بالغرر والتحجيل فدل على أن هؤلاء الذين دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل وذلك من خاصية هذه الأمة فبأن أنهم معدودن من الأمة ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم
ولا علينا أقلنا : إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا إذ أثبتنا لهم وصف الأنحياش إليها
وفي الحديث الآخر :
[ فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ! قال : فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } إلى قوله : { العزيز الحكيم } ـ قال ـ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ]
فإن كان المراد بالصحابة الأمة فالحديث موافق لما قبله :
[ بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ] فلا بد من تأويله على أن الأصحاب يعني بهم من آمن بي في حياته وإن لم يره ويصدق لفظ المرتدين على أعقابهم بعد موته أو مانعي الزكاة تأويلا على أن أخذها إنما كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم وحده فإن عامة أصحابه رأوه وأخذوا عنه براءة من ذلك
المسألة السابعة في تعيين هذه الفرق وهي مسألة ـ كما قال الطرطوشي ـ طاشت فيها أحلام الخلق فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها لكن في الطرائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أصولها ثمانية فقال : كبار الفرق الإسلامية ثمانية : ( 1 ) المعتزلة و ( 2 ) الشيعة و ( 3 ) الخوارج و ( 4 ) المرجئة و ( 5 ) النجارية و ( 6 ) الجبرية و ( 7 ) المشبهة و ( 8 ) الناجية
فأما المعتزلة فافترقوا إلى عشرين فرقة وهم : الواصلية والعمرية والهذيلية والنظامية والأسوارية والإسكافية والجعفرية والبشرية والمزدارية والهشامية والصالحية والخطابية والحدبية والمعمرية والثمامية والخياطية والجاحظية والكعبية والجبائية والبهشمية
وأما الشيعة فانقمسوا أولا ثلاث فرق : غلاة وزيدية وإمامية
فالغلاة ثمان عشرة فرقة وهم : السبئية والكاملية والبيانية والمغيرية والجناحية والمنصورية والخطابية والغرابية والذمية والهشامية والزرارية واليونسية والشيطانية والرزامية والمفوضة والبدائية والنصيرية والإسماعيلية وهم : الباطنية والقرمطية والخرمية والسبعية والبابكية والحمدية
وأما الزيدية فهم ثلاث فرق : الجارودية والسليمانية والبتيرية
وأما الإمامية ففرقة واحدة فالجميع اثنتان وأربعون فرقة
وأما الخوارج فسبع فرق وهم : المحكمة والبيهسية والأزارقة والنجدات والعبدية والأباضية وهم أربع فرق : الحفصية واليزيدية والحارثية والمطيعية
وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم : الميمونة والشعيبية والحازمية والحمزية والمعلومية والمجهولية والصلتية والثعلبية أربع فرق وهم : الأخنسية والمعبدية والشيبانية والمكرمية فالجميع اثنتان وستون
وأما المرجئة فخمس وهم : العبيدية واليونسية والغسانية والثوبانية والثومنية
وأما النجارية فثلاث فرق وهم : البرغوثية والزعفرانية والمستدركة
وأما الجبرية ففرقة واحدة وكذلك المشبهة
فالجميع اثنتان وسبعون فرقة فإذا أصبغت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثا وسبعين فرقة
وهذا التعديد بحسب ما اعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح لا على القطع بأنه المراد إذ ليس على ذلك دليل شرعي ولا دل العقل أيضا على إنحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع وقال جماعة من العلماء : أصول البدع أربعة وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا وهم : الخوارج والرواقض والقدرية والمرجئة
قال يوسف بن أسباط : ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة : فتلك اثنتان وسبعون فرقة والثالثة والسبعون هي الناجية
وهذا التقدير نحو الأول ويرد عليه من الإشكال ما ورد على الأول
فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه الله شرحا يقرب الأمر فقال : لم يرد علماؤنا بهذا التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الأربع تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى تحملت تلك العدة لأن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن قال : وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى ولا شعبة من شعبها بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل
ثم بين ذلك بالمثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى
ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر فقال أكثرهم : لا يكون فعل بين فعلين مخلوقين على التولد أحال مثله بين القديم والمحدث
ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة كاختلافهم في الصلاح والأصلح : فقال البغداديون منهم : يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعباده في دينهم
ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم ويجب عليه إكمال عقولهم وإقدارهم وإزاحة عللهم
وقال البصريون منهم : لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف
وقال البغداديون منهم : يجب على الله ـ تعالى عن قولهم ـ عقاب العصاة إذا لم يتوبوا والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر
وأما المضربون منهم ذلك
أحد الموطنين اللذين يجوز فيهما ذكر الفرق بأسمائها وابتدع جعفر بن مبشر من استصر ( ؟ ) امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك وخالفه في ذلك سلفه
وقال ثمامة بن أشرس : إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة لا يعذبهم ولا يعرضهم
وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها وبدعا لا تعلق لها بها
فإن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد بتفرق أمته أصول البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع والمعاقد للفروع لعلهم ـ والعلم عند الله ـ ما بلغن هذا العدد إلى الآن غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع ؟
وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لأجناس أو كانت متغايرة الأصول والمباني
فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة و السلام ـ والعلم عند الله ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين
ووجه تصحيح الحديث على هذا أن تخرج من الحساب غلاة أهل البدع ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة كنفاة الأعراض من القدرية لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة
هذا ما قال الطرطوشي رحمه الله تعالى وهو حسن من التقرير غير أنه يبقى للنظر في كلامه مجلان :
أحدهما : أن ما اختار من ليس المراد الأجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية فمشكل لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدع كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة فلا تقف في مائة ولا مائتين فضلا عن وقوعها في اثنتين وسبعين وأن البدع ـ كما قال ـ لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة
وقد مر من النقل ما يشعر بهذا المعنى وهو قول ابن عباس : ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن وهذا موجود في الواقع فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها لكان الذي يبقى أكثر من اثنتين وسبعين فما قاله ـ والله أعلم ـ غير مخلص
والثاني : أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد بخلاف القول المتقدم وهو أصح في النظر لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل والعقل لا يقتضيه وأيضا فالمنازع له أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الأشعرية في قواعد العقائد فرقا يسميها ويبرىء نفسه وفرقته عن ذلك المحظور فالأولى ما قاله من عدم التعيين وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغي التعيين
أما أولا : فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث مرجى وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة و السلام في الخوارج :
[ إن من ضئضىء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] الحديث مع أنه عليه الصلاة و السلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق وهذا الفصل مبسوط في كتاب الموافقات والحمد لله
وأما ثانيا : فلأن عدم التعيين هو الذين ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة وكذلك في شأن قربانهم : فإنهم كانوا إذا قربوا لله قربانا فإن كان مقبولا عند الله نزلت نار من السماء فأكلته وإن لم يكن مقبولا لم تأكله النار وفي ذلك افتضاح المذنب ومثل ذلك في الغنائم أيضا فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها
وأيضا فللستر حكمة أخرى وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها حيث قال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وفي الحديث :
[ لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ] وأمر عليه الصلاة و السلام بإصلاح ذات البين وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى
وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة قال :
[ كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون : قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان ! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى : أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فقال : أيما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني الله رحمة للعالمين إجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو أكتبن إلى عمر ]
فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي الله عنه ! وهو جار في مسألتنا فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول : هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان ! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده اللهم إلا في موطنين :
أحدهما : حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ويجري مجراهم من سلك سبيلهم فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي المغربي فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبي صلى الله عليه و سلم بهما في الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ولا عرفوا مقاصده ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على الوجه الذي ينبغي وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم
فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيرهم حتى لقد روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الأذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله ؟ قال : ما أنتم يا إخوتي ؟ قالوا : أنت أخو الشيطان لنقتلنك قال ما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : وأي شيء رضي به منك ؟ قال : أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله فخلى عني ـ قال ـ فأخذوه فقتلوه
وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه وقد جاء في القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ]
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال :
ثاني الموطنين اللذين يجوز فيهما ذكر الفرق بأسمائها [ لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازتهم ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال ] وهذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل قال صاحب المغني : لم يصح في ذلك شيء نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أ ن القول بالقدر قد ظهر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني ثم استدل :
بحديث جبريل ـ صحيح لا إشكال في صحته
خرج أبو داود أيضا من حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ] ولم يصح أيضا
وخرج ابن وهب عن زيد بن علي قال :
[ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام يوم القيامة : المرجئة والقدرية ] و [ عن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم ] وعن مجاهد بن جبر :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سيكون من أمتي قدرية وزنديقية أولئك مجوس ]
وعن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام ـ لرجل من أهل الشام ـ فقال عبد الله : بلغني أنه قد أحدث حدثا فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه السلام سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية ]
وعن ابن الديلمي قال : اتينا أبي كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال لي مثل ذلك قال : ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك وفي بعض الحديث :
[ لا تكلموا في القدر فإنه سر الله ] وهذا كله أيضا غير صحيح
وجاء في المرجئة والجهمية شيء لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تعديل عليه
نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى : { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر } نزل في أهل القدر فروى عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
أتى مشركوا قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ولكن إن صح ففيه دليل وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق وكلامنا فيه
والثاني : حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس وهم من شياطين الإنس فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره فروى عاصم الأحوال قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال منه فقلت : أبا الخطاب : ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض ؟ فقال : يا أحول أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد وما رأيت من نسكه وهديه فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله فقلت : سبحان الله ! تحك آية من كتاب الله ؟ قال إني سأعيدها قال : فتركته حتى حكها فقلت له : أعدها فقال : لا أستطيع
فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعدواة ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم ـ إذا أقيم ـ عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم وإذا تعارض الضرران يركتب أخفهما وأسهلهما وبعض الشر أهون من جميعه كقطع اليد المتآكلة إتلافها أسهل من إتلاف النفس وهذا شأن الشرع أبدا : يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل
فإذا فقد الأمران فلا ينبغي أن يذكروا لأن يعنيوا وإن وجدوا لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء ومتى حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ولم يره أنه خارج من السنة بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة فهو الحج وبهذه الطريقة دعي الخلق أولا إلى الله تعالى حتى إذا عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك
قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستفزا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل
هذا ما قال وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك والله أعلم
المسألة الثامنة أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها وهي على قسمين : علامات إجمالية وعلامات تفصيلية فأما الإجمالية فثلاث إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا
أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها وهي على قسمين :
علامات إجمالية وعلامات تفصيلية
فأما العلامات الإجمالية فثلاث
إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } روى ابن وهب عن إبراهيم النخعي أنه قال : هي الجدال والخصومات في الدين وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وصدق الحديث ]
وهذا التفريق ـ كما تقدم ـ إنما هو الذي يصير الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا
قال بعض العلماء : صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا وهو قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } ثم برأه الله منهم بقوله :
{ لست منهم في شيء } وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله
قال : ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يتفرقوا ولا صاروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد إلى الرأي والإستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا واختلف في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه و سلم وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه
قال : كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بتفسير الآية
وذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عائشة { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } من هم ؟ ـ قلت : الله ورسوله أعلم قال : هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ] الحديث الذي تقدم ذكره
قال : فيجب على كل ذي عقل ودين أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك كان لحدث أحدثوه من اتباع الهوى
هذا ما قاله وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين وهذه الخاصية قد دل عليها الحديث المتكلم عليه وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث
ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] : وأي فرقة توازي هذه الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر ؟ وهي موجودة في سائر من عرف من الفرق أو ادعي ذلك فيهم إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت لأنها تختلف بالقوة والضعيف
وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق من الفروع الجزئية باب الفرقة فلا بد يجب النظر في هذا كله
الخاصية الثانية هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ الآية
هي التي نبه عليها قوله تعالة : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } الآية فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم ومعنى المتشابه : ما أشكل معناه ولم يبين مغزاه سواء كان من المتشابه الحقيقي ـ كالمجمل من الألفاظ وما يظهر من التشبيه ـ أو من المتشابه الإضافي وهو ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي وإن كان في نفسه ظاهر المعنى لبادي الرأي كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله : { إن الحكم إلا لله } فإنظاهر الآية صحيح على الجملة وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان وهو ما تقدم ذكره لابن عباس رضي الله عنهما لأنه بين أن الحكم لله تارة بغير تحكيم لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله
وكذلك قولهم : قاتل ولم يسب فإنهم حصروا التحكيم في القسمين وتركوا قسما ثالثا وهو الذي نبه قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } الآية فهذا قتال من غير سبي لكن ابن عباس نبههم على وجه أظهر وهو أن السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض المقاتلين على أم المؤمنين وعند ذلك يكون حكمها حكم السبايا في الانتفاع بها كالسبايا فيخالفون القرآن الذي ادعوا التمسك به
وكذلك في محو الإسم من إمارة المؤمنين اقتضى عندهم أنه إثبات لإمارة الكافرين وذلك غير صحيح لأن نفي الإسم منها لا يقتضي نفي المسمى
وأيضا : فإن فرضنا أنه يقتضي نفي المسمى لم يقتض إثبات إمارة أخرى فعارضهم ابن عباس بمحو النبي صلى الله عليه و سلم إسم الرسالة من الصحيفة معارضة لا قبل لهم بها ولذلك رجع منهم ألفان ـ أو من رجع منهم ـ
فتأملوا وجه اتباع المتشابهات وكيف أدى إلى الضلال والخروج عن الجماعة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ فإذا رأيتم الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ]
الخاصية الثالثة إتباع الهوى إتباع الهوى الذي نبه عليه قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } والزيغ هو الميل عن الحق اتباعا للهوى وكذلك قوله تعالى : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقوله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم }
وليس في حديث الفرق ما يدل على هذه الخاصية ولا على التي قبلها إلا ان هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه لأن اتباع الهوى أمر باطني فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه إلا أن يكون عليها دليل خارجي
وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنة وهو الذي نبه عليه الحديث بقوله :
[ اتخذ الناس رؤساء جهالا ] فكل أحد عالم بنفسه هل بلغ في العلم مبلغ المفتين أم لا ؟ وعالم إذا راجع النظر فيما سئل عنه : هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال أم بغير علم ؟ أم هو على شك فيه ؟ والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره ولم يفعل وكل من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ولم يفعل هذا
قال العقلاء : رأي المستشار أنفع لأنه بريء من الهوى بخلاف من لم يستشر فإنه غير بريء ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم
فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى أم هو متبع للشرع ؟
الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم وأما الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم يعرفونها ويعرفون أهلها فهم المرجوع إليهم في بيان من هم متبع للمحكم فيقلد في الدين ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلا
ولكن له علامة ظاهرة أيضا نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به قال فيه :
فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق وقد تقدم أول الكتاب فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك إذ المتشابه لا يعطى بيانا شافيا ولا يقف منه متبعه على حقيقة فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به والنظر فيه لا يتخلص له فهو على شك أبدا وبذلك يفارق الراسخ في العلم لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبا لإزالته فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر
وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله
ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلى الله عليه و سلم في عيسى ابن مريم عليهما السلام وأنه الله أو أنه ثالث ثلاثة مستدلين بأمور متشابهات من قوله : فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة ومن أنه يبرىء الأكمة والأبرص ويحيي الموتى وهو كلام طائفة أخرى ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض والخبر مذكور في السير
والحاصل : انهم إنما أتوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومجادلته لا يقصدون اتباع الحق
والجدال على هذا الوجه لا ينقطع ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا عنه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه وهو المباهلة وهو قوله تعالى : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } الآية وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج وغيرهما
وقد نقل عن حماد بن زيد أنه قال : جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمون إلى طلوع الفجر
قال : فلما صلوا جعل عمرو يقول : هيه أبا معمر ! هيه أبا معمر ! فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الجدال في المسائل مع كل أحد من أهل العلم ثم لا يرجع ولا يرعوي فاعلموا أنه زيغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه
وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام لأن التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إلى الافتراق شيعا بقوله :
[ وستفترق هذه الأمة على كذا ] ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة وأما قبل ذلك فلا يعرفه كل أحد فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق أولها : مفاتحة الكلام وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف لهم وما أشبه ذلك
وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج ـ لعنهم الله ـ الصحابة الكرام رضي الله عنهم فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه كعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه وصوبوا قتله إياه وقالوا : إن في شأنه نزل قوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } وأما التي قبلها وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } فإنها نزلت في شأن علي رضي الله عنه وكذبوا ـ قاتلهم الله ـ وقال عمران بن حطان في مدحه لابن ملجم
( يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا )
( إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفي البرية عند الله ميزانا )
وكذب ـ لعنه الله ـ فإذا رأيت من يجري على هذا الطريق فهو من الفرق المخالفة وبالله التوفيق
وروي عن إسماعيل بن علية قال : حدثني اليسع قال : تكلم واصل بن عطاء يوما ـ يعني المعتزلي ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن و ابن سيرين ـ عندما تسمعون ـ إلا خرقة حيض ملقاة
روي أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه فكان يقول : إن علم الشافعي و أبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة
هذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله
والعلامة التفصيلية وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها و أشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارا إليها ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمان فغلبنا عليه ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك
فأنت ترى أن الحديث الذي تعرضنا لشرحه لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها لهذا المعنى المذكور والله أعلم ـ وإنما نبه عليه في الجملة لتحذر مظانها وعين في الحديث المحتاج إليه منها وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة لأنها ـ كما قال ـ أشد الفرق على الأمة وبيان كونها أشد فتنة من غيرها سيأتي آخرا إن شاء الله
المسألة التاسعة التوفيق بين روايات حديث الفرق إن الرواية الصحيحة في الحديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين وهي رواية ابي داود على الشك ! إحدى وسبعين ؟ أو ثنتين وسبعين ؟ وأثبت في الترمذي
في الرواية الغريبة لبني إسرائيل الثنتين والسبعين لأنه لم يذكر في الحديث افتراق النصارى وذلك ـ والله أعلم ـ لأجل أنه إنما أجرى في الحديث ذكر بني إسرائيل فقط لأنه ذكر فيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي ] الحديث وفي أبي داود اليهود والنصارى معا إثبات الثنتين والسبعين من غير شك
وخرج الطبري وغيره الحديث على أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة وافترقت هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
فإن بنينا على إثبات إحدى الروايتين فلا إشكال لكن في رواية الإحدى والسبعين تزيد هذه الأمة فرقتين وعلى رواية الاثنتين والسبعين تزيد فرقة واحدة وثبت في بعض كتب الكلام في نقل الحديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين وأن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة ووافقت سائر الروايات في افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ولم أر هذه الرواية هكذا فيما رأيته من كتب الحديث إلا ما قوع في جامع ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه ـ وسيأتي
وإن ينينا على إعمال الروايات فيمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك ثم أعلم بزيادة فرقة أما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبي صلى الله عليه و سلم في وقت آخر وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر ذلك عليه الصلاة و السلام وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث والله أعلم بحقيقة الأمر
المسألة العاشرة الفرقة الناجية في هذه الأمة وفي غيرها هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى اليهود والنصارى فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعدين بالنار والواحدة في الجنة فإذا انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق قسمين : قسم في النار وقسم في الجنة ولم يبين ذلك في فرق اليهود ولا في فرق النصارى إذ لم يبين الحديث أن لا تقسيم لهذه الأمة فيبقى النظر : هل في اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا ؟ وينبني على ذلك نظران : هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة : أم لا ؟ وهذا النظر وإن كان لا ينبني عليه لكنه من تمام الكلام في الحديث
فظاهر النقل في مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لا بد أن يوجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته كقوله تعالى : { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق وقال تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } وقال تعالى : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وقال تعالى : { منهم أمة مقتصدة } وهذا كالنص
وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ] فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه وخرج عبد الله بن عمر [ عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عبد الله بن مسعود : ـ قلت : لبيك رسول الله قال ـ أتدري أي عرى الإيمان أوثق ؟ ـ قال ـ قلت : الله ورسوله أعلم قال : الولاية في الله والحب في الله والبغض فيه ـ ثم قال : يا عبد الله بن مسعود ! ـ قلت : لبيك رسول الله ! ثلاث مرات قال ـ أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال ـ فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم ـ ثم قال ـ يا عبد الله بن مسعود ! ـ قلت لبيك يا رسول الله ! ثلاث مرات قال ـ هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه واختلف من قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مريم حتى قتلوا وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وهربوا فيها فهم الذين قال الله عز و جل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } ] فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا بي وجحدوا بي فأخبر أن فرقا ثلاثا نجت من تلك الفرق المعدودة والباقية هلكت
وخرج ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه أنه دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال : إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما يا رأس جالوت ! أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى وأطعمكم المن والسلوى وضرب لكم في البحر طريقا يبسا وجعل لكم الحجر الطوري يخرج لكم منه اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عين ! إلا ما أخبرتني على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى ؟ فقال له : ولا فرقة واحدة فقال له علي : كذبت والذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة
ثم دعا الأسقف فقال : انشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعل على رجله البركة واراكم العبرة فأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى وصنع لكم من الطين طيورا وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقال : دون هذا الصدق يا أمير المؤمنين فقال له علي رضي الله عنه كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مريم من فرقة ؟ قال : لا والله ولا فرقة فقال ثلاث مرات : كذبت والله الذي لا إله إلا الله لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فقال : أما أنت يا يهودي ! فإن الله يقول : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهي التي تنجو وأما نحن فيقول الله فينا : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهذه التي تنجو من هذه الأمة ففي هذا أيضا دليل
وخرجه الآجري أيضا من طريق أنس بمعنى حديث علي رضي الله عنه : إن واحدة من فرق اليهود ومن فرق النصارى في الجنة
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره من حديث عبد الله : أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم وكان الحق يحول بين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم قالوا : لا ! بل أرسلوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا وما لي لا أؤمن بهذا ؟ ( يعني الكتاب الذي في القرن ) فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا الكتاب فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا وما لي لا أؤمن بهذا ؟ وإنما عنى هذا الكتاب فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذلك القرن ـ قال عبد الله ـ : وإن من بقي منكم سيرى منكرا بحسب أمره يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره إن يعلم الله من قلبه خيرا كاره
فهذا الخبر يدل على أن في بني إسرائيل فرقة كانت على الحق الصريح في زمانهم لكن لا أضمن عهدة صحته ولا صحة ما قبله
وإذا ثبت أن في اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون في هذه الأمة فرقة ناجية زائدة على رواية الثنتين والسبعين أو فرقتين بناء على رواية الإحدى والسبعين فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعث من قبلها من أهل الكتابين في أعيان مخالفتها فثبت أنها تبعتها في أمثال بدعتها وهذه هي :
===========================================================
====================ج4..............................................
.. ج3 وج4. الكتاب : الاعتصام المؤلف : الشاطبي
الكتاب : الاعتصام
المؤلف : الشاطبي
المسألة الحادية عشرة اتباع الأمة سنن من قبلها فإن الحديث الصحيح قال :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذارع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ـ قلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ ـ قال فمن ؟ ] زيادة إلى حديث الترمذي الغريب فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم
وفي الصحيح [ عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل { إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون } لتركبن سنن من كان قبلكم ] وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر وقد مر أن ذلك لا يعرف أو لا يسوغ التعريف به وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة والله أعلم
وفي الحديث أيضا عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع فقال رجل : يا رسول الله ! كما فعلت فارس والروم ؟ قال : وهل الناس إلا أولئك ] وهو بمعنى الأول إلا أنه ليس فيه ضرب مثل فقوله : [ حتى تأخذ أمتي أخذ القرون من قبلها ] يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها فالذي يدل على الأول قوله : [ لتتبعن سنن من كان قبلكم ] الحديث فإنه قال فيه : [ حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لاتبعتموهم ]
والذي يدل على الثاني قوله : [ فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط فقال عليه السلام : هذا كما قالت بنو إسرائيل : { إسرائيل البحر فأتوا } ] الحديث فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه والله أعلم
المسألة الثانية عشرة كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله في المشيئة أنه عليه الصلاة و السلام أخبر أنها كلها في النار وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيما إذ قدر تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبرة إذ لم يقل : [ كلها في النار ] إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته وليس ذلك إلا لبدعة مفرقة إلا أنه ينظر في هذا الوعيد هل هو أبدي أم لا ؟ وإذا قلنا : إنه غير أبدي : هل هو نافذ أم في المشيئة
أما المطلب الأول : فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه
يحتمل عدم التكفير أمران أحدهما نفوذ الوعيد وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين :
أحدهما : نفوذ الوعيد من غير غفران ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث
وقوله هنا : [ كلها في النار ] أي مستقرة ثابتة فيها
والأمر الثاني من احتمال التكفير أن يكون مقيدا بالمشيئة فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة قيل : بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ولا بد من ذلك فإن المتبع هو الدليل فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإن الله تعالى قال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } فأخبر أولا أن جزاءه جهنم وبالغ في ذلك بقوله تعالى : { خالدا فيها } عبارة عن طول المكث فيها ثم عطف بالغضب ثم بلعنته ثم ختم ذلك بقوله تعالى : { وأعد له عذابا عظيما } والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعد له ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول
قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حيا فيعفو عنه نفسه
وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدا
وانظر في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } فهذا وعيد ثم قال تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ثم قال تعالى : { أكفرتم بعد إيمانكم } وهو تقريع وتوبيخ ثم قال تعالى : { فذوقوا العذاب } وهو تأكيد آخر
وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع
لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافي ـ غالباـ فيها ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة وذلك كله بسببه فهي أدهى من قتل النفس
قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له ارفع المنازل لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد
والثاني : أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار وإنما حمل قوله : [ كلها في النار ] أي هي ممن يستحق النار كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله
المسألة الثالثة عشرة إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه قوله أن الحق واحد لا يختلف
إن قوله عليه الصلاة و السلام : [ إلا واحدة ] قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف إذ لو كان للحق فرق أيضا لم يقل [ إلا واحدة ] ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إذ رد التنازع إلى الشريعة فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة وقوله : { في شيء } نكرة في سياق الشرط فهي صيغة من صيغ العموم فتنتظم كل تنازع على العموم فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا وقال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } وهو نص فيما نحن فيه فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق بخلاف السبل المختلفة
فإن قيل : فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود :
[ واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها ] إلى آخر الحديث فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثا وكانوا فرقة واحدة وحين بينوا ظهر كلهم على الحق والصواب فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة لولا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة
فالجواب أولا : أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة
وثانيا : أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثا فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدمها وفي كيفية الأمر والنهي خاصة
فهذه الفرق لا تنافي صحة الجمع بينهما فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكام ومن أشبههم ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب ـ إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها ـ وجميع ذلك خطة واحدة من خصال الإيمان ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة و السلام : [ ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل ]
فإذا كان كذلك فلا يضرنا عد الناجية في بعض الأحاديث ثلاثا باعتبار وعدها واحدة باعتبار آخر وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين فتصير بهذا الاعتبار سبعين وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها مع قوله : [ لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ]
ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين : إما أن يترك الكلام في هذا رأسا إذا خالف الحديث الصحيح لأنه ثبت فيه [ إحدى وسبعين ] وفي حديث ابن مسعود : [ ثنتين وسبعين ]
وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقا ثلاثا وإنما هي فرقة واحدة انقمست إلى المراتب الثلاث لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله [ نجا منها ثلاث ] ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعاني الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد رسوله من ذلك
وقوله عليه الصلاة و السلام : [ كلها في النار إلا واحدة ] ظاهر في العموم لأن كلا من صيغ العموم وفسره الحديث الآخر : [ ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ] وهذا نص لا يحتمل التأويل
المسألة الرابعة عشرة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة
أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة وإنما تعرض لعدها خاصة وأشار إلى الفرق الناجية حين سئل عنها وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :
أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي البدع والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدا ولا خلافا فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق
أسباب تعيين النبي صلى الله عليه و سلم الفرقة الناجية فقط وهي ثلاثة أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان والثاني أن ذلك أوجز
والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج وحصل التعيين بالاجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحا كثيرا ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها
السبب الثاني أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه والثالث : أن ذلك أحرى بالستر كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر والحمد لله فبين النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله [ ما أنا عليه وأصحابي ] ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ [ قالوا : من هي يا رسول الله ؟ ] فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة و السلام وأوصاف أصحابه وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي فاكتفوا به وربما يحتاج إلى تفسير بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان
حال الصحابة وكون الإمام المتبع القرآن وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عله وسلم وإنما خلقه صلى الله عليه و سلم القرآن فقال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة وجاءت السنة مبينة له فالمتبع للسنة متبع للقرآن والصحابة كانوا أولى الناس بذلك فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلية للجنة بفضل الله وهو معنى قوله عليه الصلاة و السلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ]
الكتاب والسنة هما الصراط المستقيم وغيرهما تابع لهما فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم وما سواهما من الإجماع وغيره فناشىء عنهما هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : [ وهي الجماعة ] لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله
إدعاء كل من رضي بلقب الإسلام أنه من الفرقة الناجية ثم إن في هذا التعريف نظرا لا بد الكلام عليه فيه ( ؟ ) وذلك أن كل داخل تحت راية الإسلام من سني أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة إذ لا يدعي خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام وانحاز إلى فئة الكفر كاليهود والنصارى وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها ـ وهو مدع أحسنها ـ وهو المعلم ( ؟ ) فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به لله وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل
تنازع الفرق وتعبير كل منها عن نفسها فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حاليته شرعا وتقبيح حالة غيره ؟ فالظاهر يدعي أنه المبتع للسنة
والغاش ( ؟ ) يدعي أنه الذي فهم الشريعة وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد
والقائل باستقلال العبد يدعي أنه صاحب العدل وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد
والمشبه يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته لأن نفي التشبيه عنده نفي محض وهو العدم
وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها
وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو الشنية على الخصوص فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا
فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة و السلام : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ] وفي رواية :
[ لا يضرهم خلاف من خالفهم ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد ]
والقاعدة يحتج بقوله :
[ عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ] وقوله : [ كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ]
والمرجئي يتحج بقوله : [ من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق ]
والمخالف له محتج بقوله : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ]
والقدري يحتج بقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وبحديث : [ كل مولود يولد على الفطرة ] الحديث
والمفوض يحتج بقوله تعالى : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } وبحديث : [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ]
والرافضة تحتج قوله عليه الصلاة و السلام : [ ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دوني فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ] ويحتجون في تقديم علي رضي الله عنه ك بـ : [ أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ] و : [ من كنت مولاه فعلي مولاه ] ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ] إلى أشباه ذلك مما يرجع إلى معناه
والجمع محومون ـ في زعمهم ـ على الانتظام في سلك الفرقة الناجية وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر فإنها متدافعة متناقضة وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلا فيرد الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة وترد ما سواها إليها أو تهمل اعتبارها بالترجيح إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظني فلا يتعارضان
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم }
فتأملوا ـ رحمكم الله ـ كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به
والحاصل أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ومع ذلك فلا بد من النظر فيه وهو نكتة هذا الكتاب فليقع به فضل اعتناء ما هيأه الله وبالله التوفيق
ولما كان ذلك يقتضي كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر وذكره فيه على حدته إذ ليس هذا موضع ذكره والله المستعان
المسألة الخامسة عشرة أنه قال عليه الصلاة و السلام : كلها في النار إلا واحدة فهل يدخل في الهالكة المبتدع في الجزيئات كالمبتدع في الكليات ؟
أنه قال عليه الصلاة و السلام : [ كلها في النار إلا واحدة ] وحتم ذلك وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ولم ينتظم الحديث ـ على الخصوص ـ إلا أهل البدع المخالفين للقواعد وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليا أو يخرم أصلا من الشرع عاما فلا دخول له في النص المذكور فينظر في حكمه : هل يلحق بمن ذكر أو لا ؟
والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة كقوله :
[ كل بدعة ضلالة ] وما أشبه ذلك وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة وبيانه تعرض لذكر الطرفين الواضحين
أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة وهو قوله :
[ ما أنا عليه وأصحابي ]
والثاني : طرف الإغراق في البدعة وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا جريا على عادة الله في كتابه العزيز لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأهلي ما يحمل من خير أو شر ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض والشر على مراتب بعضها أشد من بعض فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم أو رجوا أن يلحقوا بهم وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم أو رجوا أن لا يلحقوا بهم
وهذا المعنى معلوم بالاستقراء وذلك الاستقراء ـ إذ تم ـ يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن ساباط قال : لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمرا قالوا : ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا ـ ةهة لا يقدر على شيء ـ فكيف لو قدر فبلغ ذلك أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني ؟ أقول : استخلفت خير خلقك ثم أرسل إلى عمر فقال إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن اعمالهم ! وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب فلا يلقي بيده إلى التهلكة ؟ ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ألم تر إنما خفت موزاين من خفت موازينه بابتاعهم الباطل وتركهم الحق ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ـ ثم قال ـ : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وأنت لا بد لاقيه وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض غليك من الموت ولا تعجزه
وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثله إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } والآية إنما نزلت في الكفار لقوله تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم } الآية إلى أن قال تعالى : { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } ولم يمنعه رضي الله عنه إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم وهو أصل شرعي تبين في كتاب الموافقات
فالحاصل أن من عد الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم ـ حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر ـ مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار وإن كان ما بينهما من البون البعيد والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد وقد تقدم بسط ذلك في بابه والحمد لله
المسألة السادسة عشرة أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية هي الجماعة محتاجة إلى التفسير
أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى ـ وهي قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ] ـ فمعنى لفظ : الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير
فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهليلة ]
وصح من حديث [ حذيفة قال : قلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ـ قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ ـ قال : نعم وفيه دخن ـ قلت : وما دخنه ؟ قال ـ قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ـ قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال ـ نعم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ـ قلت : يا رسول الله ! صفهم لنا قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ـ قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ـ قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ]
وخرج الترمذي و الطبري [ عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا فقال : أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة لا يخلون رجل بامرأة فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن ]
وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ] وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ]
وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ سيكون في أمتي هنيات وهنيات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ]
فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال :
إختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها : أنها السواد الأعظم
أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق
وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة
وعن الحسين قيل له : أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال
الثاني أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين والثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميته جاهلية لأن جماعة الله العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة ] وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها فمعنى قوله : [ لن تجتمع أمتي ] لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة
وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك و إسحاق بن راهوية وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين فقيل ل عبد الله بن المبارك : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم ؟ قال : أبو بكر وعمر ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ـ فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال ابو حمزة السكري
وعن المسيب بن رافع قال : كانوا إذ جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافي الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال ابن المبارك
فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد لأنه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين لأن العالم أولا لا يبتدع وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير مسألة التي ابتدع فيها لأنهم في نفس البدعة مخالفون للاجماع : فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأسا
الثالث أن الجماعة هي الصحابة رضي الله عنهم على الخصوص والثالث : إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ألا ترى قوله عليه لاصلاة والسلام : [ ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله ] وقوله : [ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ] فقد أخبر عليه الصلاة و السلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر قالوا وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاه الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خافها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا فقال مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة و السلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ] فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بذلك خصوصا في قوله : [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ] واشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردا وقبولا فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول
الرابع أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام والرابع : إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم وهم الذين ضمن لنبيه عليه الصلاة و السلام أن لا يجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه
قال الشافعي : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإنما تكون الغفلة في الفرقة
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية
الخامس ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير
والخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة و السلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل بالتأويل في إحداث بدعة في
الدين كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي صلى الله عليه و سلم مارقة من الدين وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان ] قال الطبري : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة
قال : وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصاري وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم وهم السواد الأعظم
قال : وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروي عن عمر بن ميمون الأودي قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صل بالناس ثلاثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد راسه بالسيف وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على رجل
قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة الي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم
قال : وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه وذلك لا يكون في الأمة
هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى و تحر في أكثر اللفظ
وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم
فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث فلنأخذ ذلك أصلا ويبني عليه معنى آخر وهي :
المسألة السابعة عشرة أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا
وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هو الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث بل الأمر بالعكس وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا والعوام هو المفارقون للجماعة إن خالفوا فإن وافقوا فهو الواجب عليهم
ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : ابو بكر وعمر ـ قال ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد قيل : فهؤلاء ماتوا ! فمن الأحياء ؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد
وأيضا فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمي في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] الحديث
روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهوية وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم الإختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ] فقال رجل يا ابا يعقوب ! من السواد الأعظم ؟ فقال محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم ؟ قال : أبو حمزة السكري ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان ( يعني أبا حمزة ) وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه و سلم وطريقه فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي صلى الله عليه و سلم من محمد بن أسلم
فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله
المسألة الثامنة عشرة في بيان معنى قوله صلى الله عليه و سلم : وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ما يتجارى الكلب بصاحبه
في بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله عليه الصلاة و السلام : [ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ]
وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة و السلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة محجوبين عن كل لسان مبعدين عند كل مسلم ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ومداومة على ما هم عليه { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا }
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا : يجب على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا فجعلوه محكوما عليه كسائر المكلفين ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار بل استحسن شيئا يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمتها أيسر ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل
قال العتبي : وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ولغوا وهجروا واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله بأفهام كليلة وأبصار عليلة ونظر مدخول فحرفوا الكلم عن مواضعه وعدلوا به عن سبيله ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن وفساد النظم والاختلاف وادلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر والحديث الغر واعترضت بالشبهة في القلوب وقدحت بالشكوك في الصدور قال : ولو كان ما لحنوا إليه على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتج بالقرآن عليهم ويجعله علم نبوته والدليل على صدقه ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام وبالألسنة الحداد واللدد في الخصام مع اللب والنهى وأصالة الرأي فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب وكانوا يقولون مرة : هو سحر ومرة : هو شعر ومرة : هو قول الكهنة ومرة : اساطير الأولين ولم يحك الله عنهم الاعتراض على الأحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها وحكى عنهم لأجل ذلك القدح في خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي الله عنهم واتبعوهم بالحدس قالوا ما شان أو جروا في الطعن على الحديث جري من لا يرى عليه محتسبا في الدنيا ولا محاسبا في الآخرة
وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فيه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى وهما من محاسن كتبه رحمه الله ولم أرو قط تلك الاعتراضات تعزيزا للمعترض فيه لم أعن بردها لأن غيري ـ والحمد لله ـ قد تجرد له ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله : [ تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ] وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال ( وهو شأن المعتبرين من أهل العقول ) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه
فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل صرنا منه إلى معنى آخر وهي :
المسألة التاسعة عشرة أن قوله : تتجارى بهم تلك الأهواء فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محال بها
إن قوله : [ تتجارى بهم تلك الأهواء ] فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محالا بها على غير معلوم بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء وذلك قوله : [ تتجارى بهم تلك الأهواء ] فدل على أن كل خارج عما هو عليه واصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مر بيان هذا قبل فلا نعيده
المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة و السلام : أنه سيخرج من أمتي أقوام على وصف كذا يحتمل أمرين أحدهما : من يجري فيه هواه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع عنه والثاني : من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها
إن قوله عليه الصلاة و السلام : [ وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا ] يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته
والثاني : أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم كقوله عليه الصلاة و السلام :
[ يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه ] وقوله : [ إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ] وما أشبه ذلك ويشهد له الواقع فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها بل هو يزداد بضلالتها بصيرة
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء فأعقل ما يكون قد هاج
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلا لأن العقل يجوز ذلك والشرع إن يشاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عاديا والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق وهذا مبين في الأصول
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملا ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها وإذا جعل تخصيص بفرد لم يبق الفظ عاما وحصل الانقسام
وهذا الثاني هو الظاهر لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراف أو عدمه ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء فدل أن فيهم من لا يشربها وإن كان من أهلها ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه فإذا بين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق وعند ذلك يتصور الانقسام وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ومن لا يتجارى به ذلك المقدار لأنه يصح أن يختلف التجاري فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ومنه ما لا يكون كذلك
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له لكن على قدرها وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة وإلى بسببه وعادى ولم يبال بما لقي في طريقه بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ونكته اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم
ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ ابو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلسا للذكر وحضر فيه كافة الخلق وقرأ القارىء : { الرحمن على العرش استوى } قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد ! بأرفع صوت وأبعده مدى وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان وغلبت العامة فاحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب فمات منهم قوم وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم
فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن بلغ من ذلك الحرب
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة حتى وقفوهم مواقف البلوى وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء وانتهى بأقوام إلى القتل حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم بل استتروا بها جدا ولم يتعرضوا للدعاء إلبها جهارا كما فعل غيرهم ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتهم بما انتحلوه
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب وبالله التوفيق
المسألة الحادية والعشرون إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟
إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟ وذلك أنه يمكن أن بعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدا ومنها ما لا يكون كذلك فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك فبدعة الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه كعمرو بن عبيد حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة { تبت يدا أبي لهب } وقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين كالفارسي النحوي وابن جني
والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : { على العرش استوى } قاعد ! قاعد ! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار كداود بن علي في الفروع وأشباهه
والثالث : بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطو وبسط اليد ـ نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يؤم فيه وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب ( يعني مذهب مالك ) لأنه مكروه في مذهبه وكان ابن مجاهد محافظا عليه فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء وأمره أن يدعو فأبى وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما علموا منه فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد فخرج إليهم وقال : ما شأنكم ؟ فقال لهم : والله لقد خفنا من هذا الرجل وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء فقال لهم : لا أخرج عن عادتي فأخبروه بالقصة فقال لهم ـ وهو مبتسم ـ : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ودخل داره وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة
وقد روى بعض الأشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر
ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته اراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله فابى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيره فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها
وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك
فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النبي صلى الله عليه و سلم إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط كالعلم والجهل والشجاعة والجبن والعدل والجور والجود والبخل والغنى والفقر والعز والذل غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك وشجاع كذلك إلى سائرها
فكذلك سقوط البدع بالنفوس إلا أن في ذكر النبي صلى الله عليه و سلم لها فائدة أخرى وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :
المسألة الثانية والعشرون أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع بالكلب ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر
هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به والاعتياد لحضور معصيته وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالتهم وكلام مكالمهم وأغلظوا في ذلك وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب
وعن حميد الأعرج قال : قدم غيلان مكة يجاور بها فأتى غيلان مجاهدا فقال : يا أبا الحجاج بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني وأنه بلغك عني شيء لا أقوله ؟ إنما أقول كذا فجاء بشيء لا ينكر فلما قام قال مجاهد : لا تجالسوه فإنه قدري قال حميد : فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي فالتفت فقال : كيف يقول مجاهد خرفا كذا وكذا فأخبرته فمشى معي فبصر بي مجاهد معه فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي وأسأله فلا يجيبني ـ فقال ـ فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال فقلت : يا أبا الحجاج ! أبلغك عني شيء ؟ ما أحدثت حدثا ما لي ! قال : ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه ؟ قال قلت : يا با الحجاج ما أنكرت قولك وما بدأته وهو بدأني قال : والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت
وعن أيوب قال : كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام فقلت لعمرو : انطلق بنا ـ قال ـ فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت : يا أبا بكر ؟ قد فطنت إلى ما صنعت قال : أقد فطنت ؟ قلت : نعم ! قال : أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت
وعن بعضهم قال : كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني وقيل : دخل ابن عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لما رآه وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ـ فمكثت هنيهة ثم قال ابن عون : بم استحل أن دخل داري بغير إذني ؟ ـ مرارا يرددها ـ أما إنه لو تكلم
وعن مؤمل بن إسماعيل أنه قال : قال بعض أصحابنا ل حماد بن زيد : ما لك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثا واحدا ؟ قال : ما أتيته إلا مرة واحدة لمساقة في هذا الحديث وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا وإني لأظنه لو علم لكانت الفصيلة بيني وبينه
وعن إبراهيم أنه قال ل محمد بن السائب : لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا وكان مرجئا
وعن حماد بن زيد قال : لقيني سعيد بن جبير فقال : ألم أرك مع طلق ؟ قلت : بلى ! فما له ؟ قال : لا تجالسه فإنه مرجىء
وعن محمد بن واسع قال : رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة فرآهما يتجادلان فرأيته قائما ينفض ثيابه ويقول : إنما أنتم جرب
وعن أيوب قال : دخل رجل على ابن سيرين فقال : يا أبا بكر ! اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج ؟ فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أعزم عليك إن كنت مسلما إلا خرجت من بيتي ـ قال ـ فقال ـ يا أبا بكر ! لا أزيد على أن أقرأ ( آية ) ثم أخرج فقام لإزاره يشده وتهيأ للقيام فأقبلنا على الرجل فقلنا : قد عزم عليك إلا خرجت أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته ؟ قال : فخرج فقلنا : يا أبا بكر ! ما عليك لو قرأ آية ثم خرج ؟ قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكن خفت أن يلقى في قلبي شيئا أجهد في إخراجه من قلبي فلا أستطيع
وعن الأوزاعي قال : لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصودا والله أعلم تأثير كلام صاحب البدعة في القلوب معلوم وثم معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب وهي :
المسألة الثالثة والعشرون التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة
وهو التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة إذ كان مثل المعاصي الواقعة بأعمال العباد قولا أو فعلا أو اعتقادا كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه فأدوية الأمراض البدنية معلومة وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوي ومنه ما لا يمكن فيه التداوي أو يعسر كذلك الكلب الذي في أمراض الأعمال فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة ومنها ما لا يمكن
فالمعاصي كلها ـ غير البدع ـ يمكن فيه التوبة من أعلاها وهي الكبائر ـ إلى أدناها ـ وهي اللمم ـ والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلاهما يفيد أن لا توبة منها
الإخبار الأول : ما تقدم في ذم البدع من أن المبتدع لا توبة له من غير تخصيص
والآخر : ما نحن في تفسيره وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض كالكلب فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع في الجملة من غير اقتضاء عموم بل اقتضى أن عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه وتبين الشاهد عليه ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث وهي :
المسألة الرابعة والعشرون أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب
وهو أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب فإذا يمكن فيه التوبة وإذا أمكن في أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم وهم أهل البدع الجزئية
فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث لأن هذه الرواية في إسنادها شيء وأعلى ما يجرى في الحسان وفي الأحاديث الأخر ما هو صحيح كقوله :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون كما يعود السهم على فوقه ] وما أشبه
وأما أن يجمع بينهما فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ويكون هذا الإخبار أمرا زائدا على ذلك إذ لا يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى وغلبة الهوى للإنسان في الشيء المفعول أو المتروك له أبدا أثر فيه والبدع كلها تصاحب الهوى ولذلك سمي أصحابها أهل الأهواء فوقعت التسمية بها وهو الغالب عليهم إذ يصاحبه دليل شرعي إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي في الظاهر فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبه ثم إنه يتفاوت إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله واستحق صاحبه أن لا توبة له عافانا الله من النار بفضله ومنه
وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول ـ على فرض العمل به ـ ونقول : إن ما تقدم من الأخبار عامة وهذا يفيد الخصوص كما تفيده أو يفيد معنى يفهم منه الخصوص وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقا مساق التبغيض لقوله :
[ وإنه سيخرج في أمتي أقوام ] إلى آخره فدل أن ثم أقواما أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال بل هي أدنى من ذلك وقد لا تتجارى بهم ذلك
وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع وتمام المسألة قد مر في الباب الثاني والحمد لله لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص وبالله التوفيق
المسألة الخامسة والعشرون أنه جاء في بعض روايات الحديث : أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم
أنه جاء في بعض روايات الحديث :
[ أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ولا كل قياس بل القياس على غير أصل فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل يصح وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع معتبر فإذا لم يكن للقياس أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي لا يصح أن يوضع في الدين ـ فإنه يؤدي إلى مخالفة الشرع وأن يصير الحلال بالشرع حراما بذلك القياس والحرام حلالا فإن الرأي من حيث هو رأي لا ينضبط إلى قانون شرعي إذا لم يكن له أصل شرعي فإن العقول تستحسن ما لا يستحسن شرعا وتستقبح ما لا يستقبح شرعا وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصل فتنة على الناس
ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق واشد فتنة وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلا الأفراد ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير
حديث ليس عام إلا والذي بعد شر منه وما معناه
وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث ابن مسعود أنه قال : [ ليس عام إلا والذي بعده شر منه ] لا أقول : عام أمطر من عام ولاعام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن : ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم
ذهاب العلماء وقيام الجهال مقامهم في الإفتاء وهذا الذي في حديث ابن مسعود موجود في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة و السلام : [ ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]
وقد تقدم في ذم الرأي آثار مشهورة عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين تبين فيها أن الأخذ بالرأي يحل الحرام ويحرم الحرام
القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة وبيان ما عليه سلف الأمة ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر ويفهم معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس وإنما القياس الهادم ما عارض الكتاب والسنة أو ما عليه سلف الأمة أو معانيها المعتبرة
مخالفة الأصول في الإفتاء قسمان أحدهما مخالفة أصل من غير استمساك بأصل آخر
ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين :
أحدهما : أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الأصل لم يبلغه كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا
الثاني أن يخالف الأصل بنوع من التأويل والثاني : أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطىء بأن يضع الإسم على غير موضعه أو على بعض مواضعه أو يراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصودة أو غير ذلك من أنواع التأويل
والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل أو التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون الأمة قد كفرت والأمة لا تكفر أبدا
وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلال وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه دليله فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى ا لله عليه وسلم هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لهذا : إنه محدث عند قبض العلماء
فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويل وهذا بين في المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته وتواطأت على معناه شواهده وأخذوا في اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب
فإذا هذا ـ كما قا ل الله تعالى ـ زيغ وميل عن الصراط المستقيم فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء ظنا أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين وهم يضلون بغير علم ولا شيء أعظم على الإنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب فإنه لو علم طريقها لتوقاها ما استطاع فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به وهو ظاهر فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا لأنه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم فيضل من حيث يطلب الهداية : اللهم { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم }
المسألة السادسة والعشرون أن ههنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه الإخبار بالمعنى عن الجثة وبالصفة عن الموصوف
إن ها هنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه وذلك أنه لما أخبر عليه الصلاة و السلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيين ـ فقالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ومن عمل مثل عملنا أو ما اشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة أو بوصف من أوصافها إلا أن ذلك لم يقع وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف فلذلك أتى بما أتى فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية فقال : [ ما أنا عليه واصحابي ]
ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } ؟ فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل : نعم ! أخبرنا فقال الله تعالى : { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية أي للذين اتقوا استقر لهم { عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين
وقال تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار } الآية فقوله : مثل الجنة يقتضي المثل لا الممثل كما قال تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه
ويمكن أن يقال : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها فالمتقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل فلو سألوا : ما وصفها ؟ أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى فلما فهم عليه الصلاة و السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك
ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم أتى به جوابا عن سؤالهم حرصا منه عليه الصلاة و السلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه
ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير
ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع وهو ما كان عليه هو وأصحابه
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم وهو بالنسبة إلى السائل معين لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين فلم يحتج إلى أكثر من ذلك لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود والله أعلم انتهى
الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الإبتداع فضلت عن الهدى بعد البيان هذا وجه أول
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنها على الصراط المستقيم وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيات الطريق فوقع بينهم الاختلاف إذا في تعيينه وبيانه حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها حتى قال من قال : كل مجتهد في العقليات أو النقليات مصيب فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق وذلك من أعظم الإختلاف إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف العلماء فيها على بضع وسبعين قولا إلا هذه المسألة فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم واصحابه من أغمض المسائل
ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين لمن بعد الصحابة لم يقع خلاف ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف أصلا لأن الاختلاف مع تعيين محله محال والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد لأنه على ذلك الوجه مخرج عن الإسلام وكلامنا في الفرق
ووجه ثالث أن البدع لا تقع من راسخ في العلم ووجه ثالث : أنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها والشهادة بأن فلانا راسخ في العلم وفلانا غير راسخ في غاية الصعوبة فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ وغير قاصر النظر فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النزاع إما في العلامة وإما في مناطها
ومثال ذلك أن علامة الخروج من الجماعة الفرقة المنبه عليها بقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } والفرقة ـ بشهادة الجميع ـ إضافية فكل طائفة تزعم أنها هي الجماعة ومن سواها مفارق للجماعة
ومن العلامات اتباع ما تشابه من الأدلة وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك وأنها هي التي اتبعت أم الكتاب دون الأخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر المواضع بالتأويل على عكس الأخرى
ومنها اتباع الهوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها وتبرىء نفسها منه فلا يمكن في الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات وإذا لم يتفقوا عليها لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات وأنهم في التحصيل متفقون عليها وبذلك صارت علامات : فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات
ووجه رابع فهمنا من مقاصد الشرع الستر على هذه الأمة وكون تعيين الصراط المستقيم بالإجتهاد لا يقتضي الإتفاق
ووجه رابع : وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة وإن حصل التعيين بالاجتهاد فالاجتهاد لا يقتضي الاتفاق على محله
ألا ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين لا يمكن الاتفاق عليهما عادة ؟ فلو تعينوا بالنص لم يبق إشكال بل أمر الخوارج على ما كانوا عليه وإن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عينهم وعين علامتهم في المخدج حيث قال : [ آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر ] الحديث وهم الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم ينتهوا فما الظن بمن ليس له في القتل تعيين ؟
ووجه خامس في قول الله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
ووجه خامس : وهو ما تقدم تقريره في قوله سبحانه وتعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } الآية ـ يشعر في هذا المطلوب أن الخلاف لا يرتفع مع ما يعضده من الحديث الذي فرغنا من بيانه وهو حديث الفرق إذ الآية لا تشعر بخصوص مواضع الخلاف لإمكان أن يبقى الخلاف في الأديان دون دين الإسلام لكن الحديث بين أنه واقع في الأمة أيضا فانتظمته الآية بلا إشكال
فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي لا ينقطع الخلاف فيه وإن ادعي فيه القطع دون الظن فهو نظري لا ضروري ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة ـ بحول الله ـ مسلكا وسطا يذعن إلى قبوله عقل الموفق ويقر بصحنه العالم بكليات الشريعة وجزئياتها والله الموفق للصواب فنقول :
لا بد من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب وذلك أن الإحداث في الشريعة إنما يقع من جهة الجهل وإما من جهة تحسين الظن بالعقل وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة وقد مر في ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان وتارة تجتمع الثلاث فأما جهة الجهل فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد وتارة تتعلق بالمقاصد وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرع وتارة يقدم عليه وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد فالجميع أربعة أنواع : وهي الجهل بأدوات الفهم والجهل بالمقاصد وتحسيم الظن بالعقل واتباع الهوى فلنتكلم على كل واحد منها وبالله التوفيق
النوع الأول الجهل بأدوات المقاصد ن الله عز و جل أنزل القرآن عربيا لا يفهم إلا من ألفاظ لغة العرب وأساليبها
إن الله عز و جل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه بمعنى أنه جاء في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب قال الله تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وقال تعالى : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } وقال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } وكان المنزل عليه القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلىالله عليه وسلم وكان الذين بعث فيهم عربا أيضا فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه ولم يداخله شيء بل نفي عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }
وقال تعالى في موضع آخر : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته }
هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها
أساليب العربية في العام والخاص وما يراد ظاهرا وما لا يراد أما ألفاظها فظاهرة للعيان وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به الظاهر ويستغنى بأوله عن آخره وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ويستدل إلى هذا ببعض الكلام وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره
وتبتدىء الشيء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره أو بين آخره عن أوله ويتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وهذا عندها من أفصح كلامها لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة
فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفها من زوال كلامهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه في علم ذلك
فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل وقال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه وكل دابة على الله رزقها { ويعلم مستقرها ومستودعها }
وقال الله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } فقوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى وقوله : { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } عام فيمن أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى
وقوله تعالى : { حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } فهذا من العام المراد به الخاص لأنهما لم ستطعما جميع أهل القرية
وقال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } فهذا عام لم يخرج عنه أحد من الناس وقال إثر هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فهذا خاص لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين
وقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم وعلى جميع الناس وعلى ما بين ذلك فيصح أن يقال : إن الناس قد جمعوا لكم والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر
وقال تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له } فالمراد بالناس هنا الذين اتخذوا من دون الله إلها دون الإطفال والمجانين والمؤمنين
وقال تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } فظاهرا السؤال عن القرية نفسها وسياق قوله تعالى : { إذ يعدون في السبت } إلى آخر الاية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق
وكذلك قوله تعلى : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } الآية فإنه لما قال كانت ظالمة دل على أن المراد أهلها
وقال تعالى : { واسأل القرية التي كنا فيها } الآية فالمعنى بين أن المراد أهل القرية ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك لأن القرية والعير لا يخبران بصدقهم
هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها وهم أهل النحو والتصريف وأهل المعاني والبيان وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال فجميعه نزل به القرآن ولذلك أطلق عليه عبارة العربي
أحدهما أن يكون عربيا أو كالعربي في لسانه فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران
أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب بالغا فيه مبالغ العرب أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم وإنما المراد أن تصير فهمه عربيا في الجملة وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به
قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها يعني لسان العرب ـ وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به ـ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان في تخطئته غير معذور إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه
وما قاله حق فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف ـ وقد نهينا عن التكلف ـ ودخول تحت معنى الحديث حيث قال عليه الصلاة و السلام :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ] الحديث لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة
وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه ؟ قال : نعم ! فليتعلمها فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك
وعن الحسن قا ل : أهلكتهم العجمة يتأولون على غير تأويله
الأمر الثاني أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره من علماء العربية
والأمر الثاني : أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أ ن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية فقد يكون إماما فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات فالأولى في حقه الاحتياط إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها وقد نقل شيء من هذا عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيرهم
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات وألارض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها
وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : { أو يأخذهم على تخوف } فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة
كلام الشافعي في فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب قا ل الشافعي : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا
قال : ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ولكنه لا يذهب منه شيء على عامته حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال : وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من نقله عنها ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ومن قبله منها فهو من أهل لسانها وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله
هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أديت وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء لله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه الكرام
روي [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قلنا يا رسول الله من خير الناس ؟ قال : ذو القلب المخموم واللسان الصادق قلنا : قد عرفنا اللسان الصادق فما ذو القلب المخموم ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا حسد قلنا فمن على أثره ؟ قال : الذي ينسى الدنيا ويحب الآخرة قلنا : ما نعرف هذا فينا إلا رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا : فمن على أثره ؟ قال : مؤمن في خلق حسن قلنا : أما هذا فإنه فينا ]
ويروي : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه رجل فقال : يا رسول الله ! أيدالك الرجل امرأته ؟ قال : نعم إذا كان مفلجا فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ما قلت وما قال لك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ؟ فقال : قال : أيماطل الرجل امرأته ؟ قلت : نعم إذا كان فقيرا فقال أبو بكر : ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال : كيف لا وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد ؟ ]
أمثلة لوقوع الخطأ في العربية في كلام الله وسنة نبيه أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي
فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه وإلا زل فقال في الشريعة برأيه لا بلسانها
ولنذكر لذلك ستة أمثلة :
أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } أن تأويل هذه الآية لم يجىء بعد وكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة فإنها تقول إن عليا في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي علي من السماء : اخرجوا مع فلان فهذا معنى قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } الآية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله : لم يجىء بعد
بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان وأن ما قاله جابر لا ينساق
الثاني قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع والثاني : قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستلا بقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } لأن أربعا إلى ثلاث إلى اثنتين تسع ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا على التفصيل لا على ما قالوا
الثالث قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم والثالث : قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم لم يقل ما قال
الرابع قول من قال : أن كل شيء فان حتى ذات الباري ما عدا الوجه والرابع : قول من قال : إن كل فان حتى ذات الله ـ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ ما عدا الوجه بدليل { كل شيء هالك إلا وجهه } وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال فإن للمفسرين فيه تأويلات وقصد هذا القائل ما لا يتجه لغة ولا معنى وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول : فعلت هذا لوجه فلان : أي لفلان فكان معنى الآية : كل شيء هالك إلا هو وقوله تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله } ومثله قوله تعالى : { كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }
الخامس قول من زعم أن لله جنبا والخامس : قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى جنبا مستدلا بقوله : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } وهذا لا معنى للجنب فيه لا حقيقة ولا مجازا لأن العرب تقول : هذا الأمر يصغر في جنب هذا أي يصغر بالإضافة إلى آخر فكذلك الآية معناها : يا حسرتا على مافرطت في جنب الله أي فيما بيني وبين الله إذ أضفت تفريطي إلى أمره ونهيه إياي
السادس قول من قال في قوله صلى الله عليه و سلم لا تسبوا الدهر أن فيه مذهب الدهرية
والسادس : قول من قال في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ] إن هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ولم يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ونابته قوارع الدهر ومصائبه فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر فيقولون : لعن الله الدهر ومحا الله الدهر واشباه ذلك وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه فكأنهم إنما سبوا الفاعل والفاعل هو الله وحده فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية ـ إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو ـ إن شاء الله ـ داخل في سوادهم الأعظم كائن على ما كانوا عليه فانتظم في سلك الناجية
النوع الثاني الجهل بالمقاصدأن الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء
أن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه و سلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ولم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم
فلا يقال : قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه وأن مسائل الجد في الفرائض والحرام في الطلاق ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة فأين الكلام فيها ؟
فيقال في الجواب : أولا أن قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ولكن المراد كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلا بد من إعمالها ولا يسع الناس تركها وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للإجتهاد ولايوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم وقد نص العلماء على هذا المعنى فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل
ثم نقول ثانيا : إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدي إلى الإشكال والالتباس وإلا فهو الذي أدى إلى إيراد هذا السؤال إذ لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة وهي حالة الكلية لم يورد سؤاله لأنها موضوعة على الأبدية وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية
وأما الجزئية فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل وإذ ذاك قد يتوهم أنها لم تكمل فيكون خلافا لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل } الآية ولا شك أن كلام الله هو الصادق وما خالفه فهو المخالف فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها فإن كانت محتاجا إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها فهي البدع المحدثات إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم فليست بمحتاج إليها فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة ؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنة وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه
وننتقل منه إلى معنى آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرأ عن الإختلاف والتضاد ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار فقال سبحانه وتعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فدل معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف فهو يصدق بعضه بعضا ويعضد بعضه بعضا من جهة اللفظ ومن جهة المعنى
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بخلاف كلام المخلوق
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته وهكذا تجد القصيدة الواحدة منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ومنها ما لا يكون كذلك
وأما جهة المعنى فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ولا تضاد ولا تعارض على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ولم يغيروا في وجه إعجازه بشيء مما نفي الله تعالى عنه وهم أحرص ما كانوا على الإعتراض فيه والغض من جانبه ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب أو توقف المتثبت في الطريق
وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره لرددناه وإيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث
فوجد الشاهد منه أمران : قوله اتهموا الرأي فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله ما وضعنا سيوفنا إلى آخره فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ولو فرض أنه لا يتبين أبدا فلا حرج فإنه متمسك بالعروة الوثقى
وفي الصحيح [ عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ فقال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسله اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر ! القراءة التي أقرأني فقال ـ كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ]
وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بين لهم جوابه النبي صلى الله عليه و سلم ولم يكن ذلك دليلا على أن فيه اختلافا فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلا على وقوع الاختلاف في نفس النبوات واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلا على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه فكذلك ما نحن فيه
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ثم نبني على هذا معنى آخر وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف صح أن يكون حكما بين جميع المختلفين لأنه إنما يقرر معنى هو الحق والحق لا يختلف في نفسه فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه قال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذه الآية وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه لأن السنة بيان الكتاب وهو دليل على أن الحق فيه واضح وأن البيان فيه شاف لا شيء بعده يقوم مقامه وهكذا فعل الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة ردوها إلى الكتاب والسنة وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى لا يجهلها من زوال الفقه فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها فهو إذا مما كان عليه الصحابة
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران :
أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان ويعتبرها اعتبارا كليا في العبادات والعادات ولا يخرج عنها البتة لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها ؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطرق
و الثاني أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن والثاني : أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر بل الجميع جار على مهيع واحد ومنتظم إلى معنى واحد فإذا أداه بادىء الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الإختلاف لأن الله قد شهد له أن لا إختلاف فيه فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع أو المسلم من غير اعتراق فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين أو ليبق باحثا إلى الموت ولا عليه من ذلك فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم
فأما الأمر الأول : فهو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع وإليه مال كل من كان يكذب على النبي صلى الله عليه و سلم فيقال له ذلك ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد فيقول : لم أكذب عليه وإنما كذبت له
وحكي عن محمد بن سعيد المعروف بالأردني أنه قال : إذا كان الكلام حسنا لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا فلذلك كان يحدث بالموضوعات وقد قتل في الزندقة وصلب
وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة
وأما الأمر الثاني : فإن قوما أغفلوه أيضا ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة فأحالوا بالأختلاف عليها تحسينا للظن بالنظر الأول وهذا هو الذي عاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من حال الخوارج حيث قال : [ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] فوصفهم بعدم الفهم للقرآن وعند ذلك خرجوا على أهل الإسلام إذ قالوا : لا حكم إلا لله وقد حكم الرجال في دين الله حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } على وجه أذعن بسببه منهم ألفان أو من رجع منهم إلى الحق وتمادى الباقون على ما كانوا عليه اعتقادا ـ والله أعلم ـ على قول من قال منهم : لا تناظروه ولا تخاصموه فإنه من الذين قال الله فيهم : { بل هم قوم خصمون }
فتأملوا رحمكم الله كيف كان فهمهم في القرآن ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواما حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر
عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم الآيات والأحاديث فظنوا أن في الشريعة تناقضا أحدها تناقض آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ في الصور
ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة :
أحدها : قول من قال : إن قوله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يتناقض مع قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }
و الثاني تناقض آية فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا
والثاني : قول من قال في قوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } مضاد لقوله : { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } وقوله تعالى : { ولتسألن عما كنتم تعملون }
و الثالث تناقض الآيات في مدة خلق السموات والأرض والثالث : قول من قال في قوله تعالى : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } إلى قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين } إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء وفي الآية الأخرى : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء
ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق ـ أوغيره على ابن عباس رضي الله عنهما فخرج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي وهي قوله تعالى : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثا } { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية : { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها } إلى قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } إلى قوله { طائعين } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال : { وكان الله غفورا رحيما } { عزيزا حكيما } { سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى فقال ـ يعني ابن عباس : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } في النفخة الأولى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون
وأما قوله : { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله عز و جل يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض }
وقوله عز و جل : { خلق الأرض في يومين } { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله : دحاها وقوله تعالى : { خلق الأرض في يومين } فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين { وكان الله غفورا رحيما } سمى نفسه بذلك وذلك ( قوله ) أي لم يزل كذلك فإن الله عز و جل لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله
و الرابع مخالفة آية وإذ أخذ ربك من بني آدم الحديث أن الله خلق آدم
والرابع : قول من قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ] الحديث كما وقع مخالف لقول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ! فالحديث أنه أخذهم من ظهر آدم والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور آدم وهذا إذا تؤمل لا خلاف فيع لأن هيمكن الجمع بينهما بأن يخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة و السلام دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إلى الدنيا ولا محال في هذا بأن يتفطر في تلك الآخذة الأبناء عن الأبناء من غير ترتيب زمان وتكون النسبتان معا صحيحتين في الحقيقة لا على المجاز
مخالفة القضاء لحكم القرآن بالجلد والخامس : قول من قال فيما جاء في الحديث : [ أن رجلا قال : يا رسول الله نشدتك الله ! إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله فقال خصمه ـ وكان أفقه منه ـ : صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم ] ثم أتى بالحديث فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم ] إلى آخر الحديث هو مخالف لكتاب الله لأنه قد قال : [ لأقضين بينكما بكتاب الله ] حسبما سأله السائل ثم قضى بالرجم والتغريب وليس لهما ذكر في كتاب الله
الجواب : إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد كان مسطورا في القرآن أو لا كما قال تعالى : { كتاب الله عليكم } أي حكم الله فرضه وكل ما جاء في القرآن من قوله : { كتاب الله عليكم } فمعناه فرضه وحكم به ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن
و السادس لزوم تجزئة حد الرجم بحق الإماء والسادس : قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء { أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من } لا يعقل مع ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ورجمت الأئمة بعده لأنه يقتضي أن الرجم ينتصف وهذا غير معقول فكيف يكون نصفه على الإماء ؟ ذهابا منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج وليس كذلك بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر بدليل قوله أول الآية : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } وليس المراد هنا إلا الحرائر لأن ذوات الأزواج لا تنكح
منع نكاح المرأة على عمتها وخالتها وكون ما يحرم بالرضاع يحرم بالنسب مع عدم ذكره في القرآن في محرمات النكاح
والسابع : قولهم : إن الحديث :
[ جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها ولا على خالتها وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين وقال بعد ذلك : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالا
وهذه الأشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على حال
و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والثامن : قول من قال : إن قوله عليه الصلاة و السلام :
[ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] مخالف
لقوله : [ من توضأ يوم الجمعة فبها نعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل ]
والمراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة بحيث لا يكون تركا للفرض وبه يتفق معنى الحديثين فلا اختلاف
والتاسع : قولهم جاء في الحديث :
[ صلة الرحم تزيد العمر ] والله تعالى يقول : { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة
وأجيب عنه بأجوبة ( منها ) : أن يكون في علم الله أن هذا الرجل إن وصل رحمه عاش مائة سنة وإلا عاش ثمانين سنة مع أن في علمه أنه يفعل بلا بد أو أنه لا يفعل أصلا
وعلى كلا الوجهين إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القرافي
و العاشر تدافع حديث توضئته صلى الله عليه و سلم وهو جنب لأجل النوم وحديث نومه وهو جنب
والعاشر : قال في الحديث :
[ إنه عليه الصلاة و السلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ] ثم فيه :
[ كان عليه الصلاة و السلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ] وهذا تدافع والحديثان معا لعائشة رضي الله عنها
والجواب سهل فالحديثان يدلان على أن الأمرين موسع فيهما لأنه إذا فعل أحد الأمرين وأكثر منه وفعل الآخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما
فهذه عشرة أمثلة تبين لك مواقع الإشكال وإني رتبتها مع ثلج اليقين فإن الذي عليه كل موقن بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف فمن توهم ذلك فيها فهو لم ينعم النظر ولا أعطى وحي الله حقه ولذلك قال الله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } ؟ فحضهم على التدبر أولا ثم أعقبه : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فبين أنه لا اختلاف فيه وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به
فصل النوع الثالث أي من مناشئ الإبتداع وهو تحسين الظن بالعقل أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا
النوع الثالث :
أن الله جعل للعقول في إداركها حدا تنتهي إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون ؟ فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تخرجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه
انقسام المعلومات إلى ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على الأخبار
وأيضا : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم ضروري لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الضدين لا يجتمعان
وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به وذلك كعلم المغيبات عنه كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو لا كعلمه بما تحت رجليه إلا أن مغيبه عنه تحت الأرض بمقدار شبر وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي لم يتقدم له به عهد فضلا عم علمه بما في السموات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل فعلمه لما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن
وقسم نظري يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها إلا أن يعلم بها إخبارا
وقد زعم أهل العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها لأته لو لم تفتقر إلى الإخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأتها حقائق في أنفسها فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا ـ كما هو معلوم في الأصول ـ وإنما المصيب فيها واحد وهو لا يتعين إلا بالدليل
وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة والآخر شبهة ولا يعين فلا بد من إخبار بالتعيين
ولا يقال : إن هذا قول الإمامية : لأنا نقول : بل هو يلزم الجميع فإن القول بالمعصوم غير النبي صلى الله عليه و سلم يفتقر إلى دليل لأنه لم ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر
فالقول بإثباته نظري فهو مما وقع الخلاف فيه فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف ؟ هذا لا يمكن
فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول : الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلتماسها ( ؟ )
ونرجع إلى ما بقي من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة ـ أعني القائلين بالتشريع العقلي ـ أن منه نظريا ومنه ما لا يعلم بضرورة ولا نظر وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له أصل إلا من جهة الإخبار فلا بد فيه من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكم العقل أصلا فضلا عن أن يكون له قسم لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم فلأجل ذلك نقول : لا بد من الافتقار إلى الخبر وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريع فإن قالوا : بل هو مستقل لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الحظر أو الإباحة ـ كما ذهب إليه آخرون
فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقا إذ وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك وما لم يقف فيه فإنه نظري : فيرجع إلى ما تقدم في النظر وقد مر أنه لا بد من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضا إلية أن المسألة نظرية فلا بد من الإخبار وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له
فإن قالوا : فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الإستقلال قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا فهو إذا محتاج إليه ولا بد للعقل من التنبيه من خارج وهي فائدة بعث الرسل فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب أيضا والكفران معلوم ضرورة وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك وأمر بهذا ونهى عن ذلك
فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فا ئدة فيه لكنه أتى بذلك فدلنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه هذا وجه
ووجه آخر : هو أن العقل لما ثبت أنه قاصر ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه فما ادعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه وعلى حال دون حال والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاما على العباد يمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرهابالشعر تنكرها وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة لكنها بالنسبة إلى ما يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولله الحجة البالغة والنعمة السابغة
فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد ؟ لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ولا قصور ولا نقص بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات وهي من الحكمة
ووجه ثالث إنقسام العلم إلى البديهي والضروري وغيره ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إلى البديهي الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسيط مقدمتين معترف بهما فإن كانتا ضروريتين فذاك وإن كانت مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين وينظر فيهما كما تقدم وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري
وحاصل الأمر أنه لا بد من معرفتها بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة منهما مما عقلناه وعلمناه من مشاهد باطنة كالألم واللذة أو بدعي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا وما أشبه ذلك لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى
بحث خوارق العادات وإنكار المصرين على العادات لها فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها سحرا أو غير ذلك كقلب العصا ثعبانا وفرق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ونبع الماء من بين أصابع اليد وتكليم الحجر والشجر وانشقاق القمر إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها بل يمكن أن تتخلف كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم كما خرج من العدم إلى الوجود
فمبادىء العادات إذا يمكن عقلا تخلفها إذ لو كان عدم التخلف لها عقليا لم يمكن أن تتخلف لا لنبي ولا لغيره ولذلك لم يدع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ولا تحدى أحد بكون الاثنين أكثر من الواحد مع أن الجميع فعل الله تعالى وهو متفق عليه بين أهل الإسلام وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمة والأبرص والأصابع والشجر وغير ذلك أمكن في جميع الممكنات لأن ما وجب للشيء وجب لمثله
وأيضا فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسن من يحيض غير معتاد وكون الإنسان فيها لا ينام ولا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض لا يأكل ولايشرب أبد الدهر غير معتاد وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلى يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهارا من غير حلاب ولا عصر ولا نحل وكون الخمر لا تسكر غير معتاد وكون ذلك كله بحيث لو استعمله الإنسان دائما لا يمتلىء ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا من أذنه ولا أنفه ولا ارفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا أقذار غير معتاد وكون أحد من أهل الجنة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض غير معتاد
وكذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذا بالله ـ وجدت من ذلك كثيرا ككون النار لا تأتي عليه حتى يموت كما قال تعالى : { لا يموت فيها ولا يحيا } وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها كلها خارق للعادة
فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية وإنما هي وضعية يمكن تخلفها وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأسا وقد أقر بها بعضهم وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير معتاد
مناظرة شعيب بن أبي سعيد لراهب في الشام واسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهبا كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : افليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد انتهى المقصود من الخبر
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد و هو تنزل للمنكر غير لازم ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخرافه مع أن كون العادي عاديا مطردا غير صحيح أيضا فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا المعنى المقرر
حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل لأنه خلاف المعقول والمنقول بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك تنبيها على تقدم الشرع على العقل
العقل غير حاكم بإطلاق والشرع حاكم عليه بإطلاق خرق العوائد لا ينبغي للعقل إنكاره بإطلاق
والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق لعادة الجارية المعتادة فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار يإطلاق بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه وهو ظاهر قوله تعالى : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } يعني الواضح المحكم والمتشابه المجمل إذ لا يلزمه العلم به ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصفت الباري بها نفسه لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين وهذا منفي عند الجمهور فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة كقوله :
[ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] فإن الجميع أنكروا ظاهره إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة وأنت تقول : اعتقدوا أنها مرفوعة وتأولوا الكلام
إيضاح مطلب تحكيم العقل في الشرع بعشرة أمثلة قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب كما نقول : إن الصراط ثابت والجواز عليه قد أخبر الشارع به فنحن نصدق به لأنه إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشي عليه ؟ فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد فإن فرقوا صار ذلك تحكما لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلي وقد صادفهم النقل فالحق الإقرار دون الإنكار
ولنشرح هذا المطلب بأمثلة عشرة :
الأول والثاني مسألتا الصراط والميزان أحدها : مسألة الصراط وقد تقدمت :
والثاني : مسألة الميزان إذ يمكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الآخرة وتوزن فيه الأعمال على وجه غيرعادي نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض ـ وهي الأعمال ـ لا توزن الموزونات عندنا في العادات ـ وهي الأجسام ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها فالأخلق الحمل إما على التسليم وهذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط إلا ما ثبت عنهم في الميزان فعليك به فهو مذهب الصحابة رضي الله عنهم
فإن قيل : فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارجة
قيل : لا لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضا أو مع التأويل نظر ( ؟ ) لا يبعد : إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع بخلاف من جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها فإنه مخالف لهم للسلك في الأحاديث مسلك التأويل أو عدمه لا أثر له لأنه تابع على كلتا الطريقتين لكن التسليم أسلم
والثالث مسألة عذاب القبر والثالث : مسألة عذاب القبر وهي أسهل ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ولا نرى عليه من ذلك أثرا وكذلك أهل الأمراض المؤلفة وأشباه ذلك مما نحن فيه مثلها فلماذا يجعل استبعاد العقل صادا في وجه التصديق بأقوال الرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
والرابع مسألة سؤال الملكين للميت والرابع : مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا وقد تقدم أن تحكيمه بإطلاق غير صحيح لقصوره وإمكان خرق العوائد إما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول
والخامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الجوارح و السابع رؤية الله في الآخرة
والخامس : مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها
والسادس : مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الأحجار والشجار التي شهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالرسالة
والسابع : رؤية الله في الآخرة جائزة إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة وهو إلى القصور في النظر أميل والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق
والثامن كلام الباري والتاسع إثبات الصفات والثامن : كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفا مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجا عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلا ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردا
والتاسع : إثبات الصفات كالكلام إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى ـ على القول بإثباتها ـ فلا يمكن أن يكون واحدا مع إثباتها وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه إذا دعي التركيب بالنسبة إلى صفات الباري ؟ فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم
والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى وبيان فساد ذلك وكون الله تعالى له الحجة البالغة والمشيئة المطلقة
والعاشر : تحكيم العقل على الله تعالى بحيث يقول : يجب عليه بعثة الرسل ويجب عليه الصلاح والأصلح ويجب عليه اللطف ويجب عليه كذا ـ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء ـ وهذا إنما نشأ من ذلك الأصل المتقدم وهو الاعتياد في الإيجاب على العباد ومن أجل الباري وعظمه لم يجترىء على إطلاق هذه العبارة ولا ألم بمعناها في حقه لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد محصور ممنوع والله تعالى ما يمنعه شيء ولا يعارض أحكامه حكم فالواجب الوقوف مع قوله : { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } وقوله تعالى : { يفعل ما يشاء } وقوله تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } { والله يحكم لا معقب لحكمه } { ذو العرش المجيد * فعال لما يريد }
السلف ـ آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه فالحاصل من هذه القصة أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله بل يكون ملبيا من وراء وراء
ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة رضي الله عنهم وعليه دأبوا وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا ودل على ذلك من سيرهم أشياء :
منها : أنه لم ينكر أحد مهنم ما جاء من ذلك بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا به وأقروه كما جاء من غير بحث ولا نظر
كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل فأما الكلام في الدين وفي الله عز و جل فالسكوت أحب إلي لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل
قال ابن عبد البر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ يعني العلماء منهم وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلا نحو رأي جهم والقدر ـ قال ـ والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى وإنما خالف في ذلك أهل البدع ـ وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وخشي ضلالة عامة أو نحو هذا
وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى ! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه
وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل
( وقال ) عن الحسن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل في زفر بن الهذيل ـ أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم ـ همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم
وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في الأمصار في جميع طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتفاق والميز والفهم
وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله وما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله كراهية لذلك
[ ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم ]
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اتقوا الله في دينكم قال سحنون : يعني الانتهاء عن الجدل فيه وخرج ابن وهب عن عمر أيضا : إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع وهو القائل في قصيدته في السنة :
( ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح )
وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن إن السنن قوام الدين وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا
فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي صلى الله عليه و سلم
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد كرأي جهم وغيره من أهل الكلام لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث فقالوا : لا يجوز أن يرى الله في الآخرة أنه تعالى يقول : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف } الآية
فردوا قوله عليه الصلاة و السلام : [ إنكم ترون ربكم يوم القيامة ] وتأولوا قول اله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره لقول الله تعالى : { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها : وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا ولا نعقل ما هذا وردوا السنن في ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم فرارا من قدم العالم ـ في زعمهم ـ
وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع وهذا القول أعم من الأول لأن الأول خاص بالاعتقاد وهذا عام في العمليات وغيرها
وقال آخرون ـ قال ابن عبد البر : وهم الجمهور ـ إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها
وهذا القول غير خارج عما تقدم وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم وهو معارضة المنصوص لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن إما قصدا أو غلطا وجهلا والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة
فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه جرى لهم على معهودهم أو لا وهو المطلوب من نقله وليعتبر فيه من قدم الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم الله الربيع بن خثيم حيث يقول : يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين }
وعن معمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من علماء أهل المدينة قال : إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا قال : والقدر منه
وقال الأوزاعي : كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك و الأوزاعي و سفيان بن سعيد و سفيان بن عيينة و معمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم أمرواها كما جاءت نحو الحديث :
[ التنزل ]
[ وخلق آدم على صورته وشبههما ] وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور
وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } الآية ثم قال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فإنها صريحة في هذا الذي قررناه فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه لأن أحدا لا يرتضي طريقا ثم ينهى عن سلوكه كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين !
وروي عن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة تبيه صلى الله عليه و سلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ـ ورب الكعبة ـ على الهدي المستقيم
وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها خلالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم
والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ]
فصل النوع الرابع أي من مناشئ الإبتداع وهو إتباع الهوى النوع الرابع :
أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات لكن على وجه كلي يليق بالأصول فمن أراد الإطلاع عليه فليطالعه من هنالك
ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يمكن أن يؤتى عليها بالاستيفاء فلنذكر منها شعبة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها
تشعب طرق الحق وبيان كون الشريعة حجة على الخلق فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم لم يختص بها أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها
فأنت ترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص بد دون أمته أو كان عاما له ولأمته كقوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك } إلى قوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } إلى قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } وقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم فالسريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين وهي الطرق الموصل والهادي الأعظم
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهو عليه الصلاة و السلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان ثم من اتبعه فيه والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع ولما استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلاة و السلام ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا لا من جهة كونه بشرا عاقلا ـ مثلا ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش ـ مثلا ـ دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قرشي ولا لكونه من بني عبد المطلب ولا لكونه عربيا ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه : { وإنك لعلى خلق عظيم } وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه فكان الوحي حاكما وافقا قائلا وكان هو عليه الصلاة و السلام مذعنا ملبيا نداءه واقفا عند حكمه وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهي وهو منته وبالوعظ وهو متعظ وبالتخوف وهو أول الخائفين وبالترجية وهو سائق دابة الراجين
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه السلام ولذلك صار عبد الله حقا وهو أشرف اسم تسمى به العباد فقال الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه بصحة العبودية
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا لا بحسب عقولهم فقط ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط لأن الله تعالى إنما اثبت الشرف لا غيرها لقوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة
تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم ثم نقول بعد هذا : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم وعظم مقدارهم ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله وأنهم المستحقون شرف المنازل وهو مما لا ينازع فيه عاقل
واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة افضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم ـ أعني العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضليتها ـ أم لم نسامحهم بعد الاتفاق على الأفضلية وإثبات الحرية
وأيضا فإن علوم الشريعة منها ما يجري محرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية ومنها ما يجري مجرى المقاصد والذي يجري المقاصد أعلى مما ليس كذلك ـ بلا نزاع بين العقلاء أيضا ـ كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه فإنه كالوسيلة فعلم الفقه أعلى
وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ودل على ذلك وقوع الثناء عيهم مقيدا بالاتصاف به فهو إذا العلة في الثناء ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق فليسوا بحكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك لاشتراك الجميع فيها وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب جملهم للعلم الحاكم فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاما على الخلق إلا من ذلك كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضا فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم إذ ليسوا حجة إلا من جهته فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا أحكاما ؟ هذا محال
وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ولا في العالم بالهندسة عربي فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك فلا يصح أن يجعل حجة في العلم الحاكم لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه وهذا المعنى أيضا في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء
ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه وهو أن العالم بالشريعة إذ اتبع في قوله وانقاد إليه الناس في حكمه فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها لا من جهة أخرى فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المبلغ عن الله عز و جل فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت ذلك له عليه الصلاة و السلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث بمقتضاها حتى يساوي النبي صلى الله عليه و سلم في الانتصاب للحكم بإطلاق بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما إذا كان ـ بالفرقـ خارجا عن مقتضى الشريعة الحاكمة وهو أمر متفق عليه بين العلماء ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }
المكلف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة أحدها أن يكون مجتهدا فيها حكمه ما أداه إليه إجتهاده
فإذا المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :
أحدها : أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة دون ما ظهر لغيره من المجتهدين فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل دون ما أداه إليه اجتهاده ويعد ما ظهر له لغوا كالعدم لأنه على غير صوب الشريعة الحاكمة فإذا ليس قوله بشيء يعتد به في الحكم
الثاني أن يكون مقلدا صرفا والثاني : أن يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا ان يكون فاقد العقل وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه لا من جهة كونه فلانا أيضا وهذه الجملة أيضا لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا
الثالث أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين والثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه متوجه شطره : فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم فكذلك من نزل منزلته
ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة : أما النبي صلى الله عليه و سلم فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم فلا نطيل الاستدلال عليه
فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكما ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة
فيجب إذا على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان عير مجتهد :
أحدهما : أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعا له ومأخوذا بأداء تلك الأمانة حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطىء فيما يلقى أو تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقا على الإطلاق لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأمور وما اشبه ذلك
أما إذا كان هذا المتبع ناظرا في العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم في زماننا فإن توصله إلى الحق سهل لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة
اجتهاد العامي في اختيار من يقلد وأما إن كان عاميا صرفا فيظهر له الإشكال عند ما يرى الاختلاف بين الناقلين للشريعة فلا بد له ها هنا من الرجوع آخرا إلى تقليد بعضهم إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد لأنه محال وخرق للإجماع فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكته فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معا محالا وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما بل هو قول ثالث لا قائل به ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولا بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع
وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ولذلك خالفه وإلا لم يخالفه والعامي جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين لا يخفى عليهم مثل ذلك لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى فإذا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم
والأمر الثاني : أن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العامي ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء إما لكونه أرجح من غيره أو عند أهل قطره وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره
وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا ثم إلى مخالفة متبوعة أما خلافه للشرع فبالعرض وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده
أمر مالك و الشافعي بالإتباع دون تقليدهما ومن معنى كلام مالك رحمه الله : ما كان من كلامي موافقا للكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه هذا معنى كلامه دون لفظه
ومن كلام الشافعي رحمه الله : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع ومعناه أنكل ما تتكلمون به على تحري أنه طابق الشريعة الحاكمة فإن كان كذلك فبها ونعمت وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها
لكن يتصور في هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهدا فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه وهو الشريعة وأن يكون مقلدا لبعض العلماء كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا أو خلاف ذلك لأن هذا القسم مقلدون بالعرض فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام إذ لم يبلغوا درجته فلا يصح تعرضهم للإجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته فإن فرض انتصابه للإجتهاد فهو مخطىء آثم أصاب أم لم يصب لأنه أتى الأمر من غيره وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث لا يدري وخطؤه هو المعتاد فلا يصح ابتاعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ولاخلاف أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر وأن مخالفة العامي كالعدم وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطىء فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده ؟
ولقد زل ـ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال ـ اقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل
عشرة أمثلة لاتباع الهوى والتقليد أحدها : قول من جعل إتباع الآباء في أصل الدين هو الرجوع إليه
ولنذكر عشرة أمثلة :
أحدها : وهو أشدها قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوع إليه دون غيره حتى ردوا بذلك براهين الرسالة وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } فحين نبهوا على وجه الحجة بقوله تعالى : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } لم يكن لهم جواب إلا الإنكار اعتمادا على اتباع الآباء واطراحا لما سواه ولم يزل مثل هذا مذموما في الشرائع كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } وعن قوم إبراهيم عليه الصلاة و السلام بقوله تعالى : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } إلى آخر ذلك مما في معناه فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم
والثاني رأي الإمامية و الثالث مذهب الفرقة المهدوية و الرابع رأي بعض المقلدة لمذهب إمام
والثاني : رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم ـ في زعمهم ـ وإن خالف ما جاء يه النبي المعصوم حقا وهو محمد صلى الله عليه و سلم فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم
والثالث : لاحق بالثاني وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة ( ؟ ) في عقد إيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي وقد تقدم من ذلك أمثلة
والرابع : رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهام النقد وعدوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل بل بمجرد الاعتياد العامي
ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانب لأنه من العلم بما لا يدي لهم به إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ولقي أيضا غيره حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك بحيث أنكروا ما عداه وهذا تحكيم الرجال على الحق والغلو في محبة المذهب وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره
والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان من المتصوفة والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان ممن يدعي التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين أو يروم الدخول فيهم يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم فيتخذونها دينا وشريعة لأهل الطريقة وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح لا يلتفتون إلى فتيا مفت ولا نظر عالم بل يقولون : إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته فكل ما يفعله أو يقلوه حق وإن كان مخالفا فهو أيضا ممن يقتدى به والفقه للعموم وهذه طريقة الخصوص !
فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى الله عليه و سلم وهو عين اتباع الرجال وترك الحق مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا وأيضا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق كل التأدب
وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار فيعدونها دينا وهي ضد الدين فتكون الزلة حجة في الدين
فكذلك أهل التصوف لا بد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها : هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا ؟ والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه كالجنيد وغيره رحمهم الله
ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري : مذهبنا مبني على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف وحاشاهم من ذلك بل اتباع الرجال شأن أهل ا لضلال
والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطأ أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء والنحويون ايضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها بناء على أن التي قرؤوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء فلو كانت خطأ لردوها علينا وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال وتهمة للعلم فصارت بدعة جارية ـ أعني القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا بأنها الحق الصريح فتعوذ بالله من المخالفة
ولقد لج بعضهم حين وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا فكان القرشي المقرىء أقرب مراما منهم حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين فراجعه القارىء ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرىء وثبت على التنوين فانتشر الخير إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقا لهذا المقرىء ـ فنهض إليه فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه فقال : أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال المقرىء : ما شئت فقرأ عليه من أول المفصل فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها التنوين فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال له ابن مجاهد : بين وبينك المصاحف فأحصر منه جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين فرجع المقرىء إلى الحق انتهت الحكاية ويا ليت مسألتنا مثل هذه ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب
والسابع رأي نابتة أن ما عليه الجمهور اليوم صحيح بإطلاق كإلزام الدعاء بالإجتماع عقب الصلوات
والسابع : رأي نابتة أيضا يرون أن عمل الجمهور اليوم ـ من التزام الدعاء بهيئة الإجتماع بإثر الصلوات والتزام المؤذنين التثويب بعد الآذان ـ صحيح بإطلاق من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة المسلمين بناء منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر فنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء
فلو كان خطأ لم يعملوا به
وهذا مما نحن فيه اليوم تتم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ويحسن الظن بمن تأخر وربما نوزع بأقوال من تقدم فيرميها الرامي بالظنون واحتمال الخطأ ولا يرمي بذلك المتأخرين الذين هم أولى به بإجماع المسلمين وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر : هل عليه دليل من الشريعة ؟ لم يأت بشيء أو يأتي بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها كقوله هذا خير أو حسن وقد قال تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } أو يقول : هذا بر وقال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فإذا سئل عن أصل كونه خيرا أو برا وقف وميله إلى أنه ظهر له بعقله أنه خير وبر فجعل التحسين عقليا وهو مذهب أهل الزيغ وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات
ومنهم من طالع كلام القرافي و ابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام فنقول : هذا من المحدث المستحسن وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث :
[ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ] وقد مر ما فيه وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند الله حسن لأنه جار على أصول الشريعة والدليل على ذلك الاتفاق على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعي لم يكن عند الله حسنا حتى يوافق الشريعة والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين بإتفاق منا ومنهم فلا اعتبار بالإحتجاج بالحديث على استحسان شيء واستقباحه بغير دليل شرعي
ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعي فيها الإجماع من أهل الأقطار وهو لم يبرح من قطره ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ولا عرف من أخبار الأقطار خبرا فهو ممن يسأل عن ذلك يوم القيامة
وهذا الإضطراب كله منشؤه تحسين الظن بأعمال المتأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك ـ والوقوف مع الرجال دون التحري للحق
والثامن رأي قوم ممن تقدم زمان المصنف ومن أهله اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم
والثامن : رأي قوم ممن تقدم زماننا هذا ـ فضلا عن زماننا ـ اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ومن رغب إليهم في ذلك فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبدا وغير ذلك بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسؤول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال : اختلاف العلماء رحمة ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول : كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز ـ شذ عن الجماعة أو لا ـ فالمسألة جائزة وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب الموافقات والحمد لله
والتاسع ما حكى الله عن الأحبار والرهبان في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا أي العمل بأقوالهم في الحلال والحرام
والتاسع : ما حكى الله عن الأحبار والرهبان قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فخرج الترمذي عن [ عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ـ وفي عنقي صليب من ذهب ـ فقال : يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } قال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ] حديث غريب
وفي تفسير سعيد ين منصور قيل لحذيفة أرأيت قول الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } ؟ قال حذيفة : أما أنهم لم يصلوا لهم ولكنهم كانوا ما أحلوا لهم من حرام استحلوه وما حرموا عليهم من حلال حرموه فتلك ربوبيتهم
وحكى الطبري عن عدي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول ابن عباس أيضا وأبي العالية
فتأملوا يا أولي الألباب ! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحر للدليل الشرعي بل لمجرد العرض العاجل عافانا الله من ذلك بفضله
العاشر رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين والعاشر : رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه وإلا ردوه
فالحاصل مما تقدم أن تحيكم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال وما توفيقي إلا بالله وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير
مذهب الصحابة في الإتباع وتحكيمه في النزاع وشواهد ذلك ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينا ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة حتى قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن :
[ الأئمة من قريش ] أذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبؤوا برأي من رأى غير ذلك لعلمهم بأن الحق هو المتقدم على آارء الرجال
التنازع على الإمارة وقتال مانعي الزكاة ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله : [ إلا بحقها ] فقال : الزكاة حق المال ثم قال : والله منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه
فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :
أحداهما : أنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كان بتأويل لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا وفي القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالا إلى آخره مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحتي ظاهر تعضده مسائل شرعية وقواعد أصولية لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر فالتزمه ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق وهو الشرع
بعث أسامة والثانية : أن ابا بكر رضي الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء من الفرقتين ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضي الله عنه لم يعتبر إلا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل فكان ذلك أصلا في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام نظير ما قال الله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة فكذلك لم يعد أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي صلى الله عليه و سلم وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أسامة بن زيد ـ ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة فأبى من ذلك وقال : ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره
وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليكم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ]
وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة على الشرع ؟ هذا مضاد لذلك
قول عمر في الثلاث الهادمات الدين ولقد كان كافيا من ذلك خطاب الله لنبيه وأصحابه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية مع أنه قال تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة فقال : الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال
نصيحة علي لكميل بن زياد وعن كميل بن زياد أن عليا رضي الله عنه قال : يا كميل : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة : فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق الحديث إلى أن قال فيه : أف لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله فاعرف الله دينه وكفى أن لا يعرف دينه
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ألا لا يقلدون أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر وهذا الكلام من ابن مسعود بين مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف وهو النهي عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك
وفي الصحيح عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا قال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت : ما أنت بفاعل قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك قال : هما المرءان أهتدي بهما يعني النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر رضي الله عنه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر قال فيه : فلما دخل قال : يابن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين : إن الله قال لنبيه عليه الصلاة و السلام : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله
وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة و السلام : [ فأما المؤمن ـ أو المسلم ـ فيقول : محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا فيقال : نم صالحا قد علمنا أنك موقن وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ]
وحديث مخاصمة علي والعباس عمر في ميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله لرهط الحاضرين : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا نورث ما تركناه صدقة ] فأقروا بذلك ـ إلى أن قال لعلي والعباس : [ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ] ـ إلى آخر الحديث
ترجمة البخاري لباب العمل بالشورى وترجم البخاري في هذا المعنى ترجمة تقتضي أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين فقال : باب قول الله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } { وشاورهم في الأمر } وأن المشاورة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } فإذا عزم الرسول لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله وشاور النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج فلما لبس لأمته قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم وقال :
[ لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله ] وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها ( فسمع منهما ) حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله
وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وقع في الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا : ( لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ] ؟ ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابتا في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا وكتن وقافا عند كتاب الله
هذا جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع مما يدل على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله لا من حيث هم أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم
وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك أنه قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز و جل : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }
فصل إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه
انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى
فصل ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها ومعمولا بها ومتخذة فيها كالدين المنتسب والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا وهو على أنواع :
فجاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :
الأول منها : نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها
والثاني : نكاح الاستبضاع كالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع
والثالث : أن يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع منهم رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان فتسمي من أحبت بإسمه فيلحق به ولدها فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل
والرابع : أن يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تنمع من جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله نبيه صلى الله عليه و سلم بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم وهذا الحديث في البخاري مذكور
وكان لهم أيضا سنن أخر في النكاح خارجة عن المشروع كوارثة النساء كرها وكنكاح ما نكح الأب وأشباه ذلك جاهلية جارية مجرى المشروعات عندهم فمحا الإسلام ذلك كله والحمد لله
ثم أتى بعض من نسب إلى الفرق ممن حرف التأويل في كتاب الله فأجاز نكاح أكثر من أربع نسوة إما اقتداء ـ في زعمه ـ بالنبي صلى الله عليه و سلم حيث أحل له أكثر من ذلك أن يجمع بينهن ولم يلتفت إلى إجماع المسلمين أن ذلك خاص به عليه السلام وإما تحريفا لقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع }
فأجاز الجمع بين تسع نسوة ذلك ولم يفهم المراد من الراوي ولا من قوله : { مثنى وثلاث ورباع } فأتى ببدعة أجراها في هذه الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها
ويحكى عن الشيعة أنها تزعم أن النبي صلى الله عليه و سلم أسقط عن أهل بيته ومن دان بحبهم جميع الأعمال وأنهم غير مكلفين إلا بما تطوعوا وأن المحظورات مباحة لهم كالخنزير والزنا والخمر وسائر الفواحش وعندهم نساء يسمين النوابات يتصدقن بفوجهن على المحتاجين رغبة في الأجر وينكحون ما شاؤوا من الأخوات والبنات والأمهات لا حرج عليهم في ذلك ولا في تكثير النساء وهؤلاء العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية
ومما يحكى عنهم في ذلك أنه يكون للمرأة ثلاثة أزواج وأكثر في بيت واحد يستدلونها وتنسب الولد لكل واحد منهم ويهنأ به كل واحد منهم كما التزمت الإباحية خرق هذا الحجاب بإطلاق وزعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة فالنساء بإطلاق حلال لهم كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضا مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل : { قاتلهم الله أنى يؤفكون } فصاروا أضر على الدين من متبوعهم إبليس لعنهم الله كقوله :
( وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى ... بي الفسق حتى صار إبليس من جندي ! )
( فلو مات قبلي كنت أحسن بعده ... طرائق فسق ليس يحسنها بعدي ! )
فصل ومثال ما يقع في العقل أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع ومثال ما يقع في العقل أن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله ولذلك قال تعالى : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا } وقال تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } وقال : { إن الحكم إلا لله } وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث
فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع وأنه محسن ومقبح فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه
ومن ذلك أن الخمر لما حرمت ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو ويشربها قوله تعالى : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية تأولها قوم ـ فيما ذكر ـ على أن الخمر حلال وأنها داخلة تحت قوله : فيما طعموا
فذكر إسماعيل بن إسحاق عن علي رضي الله عنه قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان فقالوا : هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية : { ليس على الذين آمنوا } الآية قال فكتب فيهم إلى عمر
قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم وعلي رضي الله عنه ساكت قال : فما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به
فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب وشهد فيهم علي رضي الله عنه وغيره من الصحابة بأنهم شرعوا في دين الله وهذه هي البدعة بعينها فهذا وجه
وأيضا فإن بعض الفلاسفة الإسلاميين تأول فيها غير هذا وأنه إنما يشربها للنفع لا للهو وعاهد الله على ذلك فكأنها عندهم من الأدوية أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء
ورأيت في بعض كلام الناس ممن عرف عنه أنه كان يستعين في سهره للعلم والتصنيف والنظر بالخمر فإذا رأى من نفسه كسلا أو فترة شرب منها قدر ما ينشطه وينفي عنه الكسل بل ذكروا فيها أن لها حرارة خاصة تفعل أفعالا كثيرة تطيب النفس وتصير الإنسان محبا للحكمة وتجعله حسن الحركة والذهن والمعرفة فإذا استعملها على الاعتدال عرف الأشياء وفهمها وتذكرها بعد النسيان
فلهذا ـ والله أعلم ـ كان ابن سينا لا يترك استعمالها ـ على ما ذكر عنه ـ وهو كله ضلال مبين عياذا بالله من ذلك
ولا يقال : إن هذا داخل تحت مسألة التداوي بها وفيها خلاف شهير لأنا نقول : إنما ثبت عن ابن سينا أنه كان يستعملها استعمال الأمور المنشطة من الكسل والحفظ للصحة والقوة على القيام بوظائف الأعمال أو ما يناسب ذلك لا في الأمراض المؤثرة في الأجسام وإنما الخلاف في استعمالها في الأمراض لا في غير ذلك فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة الله مبتدعون فيها وقد تقدم رأي أهل الإباحة في الخمر وغيرها ولا توفيق إلا بالله
فصل ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا : إنما البيع مثل الربا
ومثال ما يقع في المال أن الكفار قالوا : { إنما البيع مثل الربا } فإنهم لما استحلوا العمل به واحتجوا بقياس فاسد فقالوا : إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهرين فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم فقال : { ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا } أي : ليس البيع مثل الربا فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد فكان من جملة المحدثات كسائر ما أحدثوا في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر
وكانت الجاهلية قد شرعت أيضا أشياء في الأموال كالحظوظ التي كانوا يخرجونها للأمير من الغنيمة حتى قال شاعرهم :
( لك المرباع فيها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول )
فالمرباع : ربع المغنم يأخذه الرئيس والصفايا : جمع صفي وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه فكان يختص به الرئيس دون غيره والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة
وكانت تتخذ الأرضين تحميها عن الناس أن لا يدخلوها ولا يرعوها فلما نزل القرآن بقسمة الغنيمة في قوله تعالى : { واعلموا أنما غنمتم من شيء } الآية راتفع حكم هذه البدعة إلا بعض من جرى في الإسلام على حكم الجاهلية فعمل بأحكام الشيطان ولم يستقم على العمل بأحكام الله تعالى
وكذلك جاء في الحديث :
[ لا حمى إلا حمى الله ورسوله ] ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله على سبيل حكم الجاهلية { ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون } ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلا في الشريعة مطردا لا ينخرم وعاما لا يتخصص ومطلقا لا يتقيد وهو أن الصغير من المكلفين والكبير والشريف والدنيء والرفيع والوضيع في احكام الشريعة سواء فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل خرج من السنة إلى البدعة ومن الاستقامة إلى الإعوجاج
وتحت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الموقع لعلها تذكر فيما بعد إن شاء الله وقد أشير إلى جملة منها
فصل إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة وأن منها ما هو مكروه كما أن منها ما هو محرم فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله صلى الله عليه و سلم :
[ كل بدعة ضلالة ]
لكن يبقى ها هنا إشكال وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } وقوله : { ومن يضلل الله فما له من هاد } { ومن يهد الله فما له من مضل } وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال فإنه بقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى
ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع المكروهة من الأفعال كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة
والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك
ونظيره في الحديث :
[ نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا ] فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص مع أن الطاعة ضدها المعصية وفاعل المندوب مطيع لأنه فاعل أمر به فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصيا لأنه فاعال ما نهي عنه لكن ذلك غير صحيح إذ لا يطلق عليه عاص فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالا وإلا فلا فرق بين إعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية
إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه لكن هذا باطل فما لزم عنه كذلك
والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت ـ كما تقدم بسطه ـ وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجري على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقا عليها أو كالمتفق عليها وهي المباح وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح
فالمأر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهي وإنما يتعلق بها التخيير
وإذا تأملنا المكروه ـ حسبما قرره الأصوليون ـ وجدناه ذا طرفين :
طرف من حيث هو منهي عنه فيستوي مع المحرم في مطلق النهي فربما يتوهم أن مخالفة نهي الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة
غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية
وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع وقد قال الله تعالى : { فماذا بعد الحق إلا الضلال } فليس إلا حق وهو الهدى وضلال وهو الباطل فالبدع المكروهة ضلال
وأما ثانيا : فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص
أماالشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم رد على من قال :
[ أما أنا فأقوم الليل ولا أنام ] وقال الآخر : [ أما أنا فلا أنكح النساء ] إلى آخر ما قالوا فرد عليهم ذلك صلى الله عليه و سلم وقال : [ من رغب عن سنتي فليس مني ]
وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر وكذلك ما في الحديث [ أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : مره فليجلس وليستظل وليتم صومه ] قال مالك : أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية
ويعضد هذا الذي قاله مالك ما في البخاري عن قيس بن أبي حازم قال دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم فقال :
ما لها فقال حجت مصمتة قال لها : تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية فتكلمت الحديث إلخ
وقال مالك أيضا في قوله عليه الصلاة و السلام :
[ من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه ] إن ذلك أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام وإلى مصر وأشباه ذلك مما ليس فيه طاعة أو أن لا أكلم فلانا فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشي إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره
فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي حتى فسر فيها الحديث المشهور مع أنها في أنفسها أشياء مباحات لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله وكلية قوله : [ كل بدعة ضلالة ] شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد وهي خاصية المحرم
وقد مر ما روى الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ! من أين أحرم ؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد : فقال : لا تفعل قال : غني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة قال : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إني سمعت الله تعالى يقول : { فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم }
فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه وهو مسجد الله ورسول الله صلى الله عليه و سلم وموضع قبره لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصدا لرضا الله ورسوله فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادىء الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة واستدل بالآية فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ في معنى الآية فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة ؟
وقال ابن حبيب : أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكا يقول : التثويب ضلال ؟ قال مالك : ومن أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خان الدين لأن الله تعالى يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } فما لم يكن يومئذ دينا لا يكون اليوم دينا
وإنما التثويت الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح وهو قول إسحاق بن راهوية أنه التثويب المحدث
قال الترمذي لما نقل هذا عن سحنون : وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم والذي أحدثوه بعد النبي صلى الله عليه و سلم وإذا اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادىء الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة
وقصة صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى فحكة ابن وهب قال : حدثنا مالك بن أنس قال : جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه ويقول : من يتفقه يفقهه الله من يتعلم يعلمه الله فأخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضربه بالجريد الرطب ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه فقال : يا أمير المؤمنين ! إن كنت تريد قتلي فأجهز علي وإلا فقد شفيتني شفاك الله فخلاه عمر
قال ابن وهب : قال مالك وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغا حين بلغه ما يسأل عنه من القرآن وغير ذلك اهـ
وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبني عليها عمل وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن السابحات سبحا والمرسلات عرفا وأشباه ذلك والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه إذ لا يستباح دم امرىء مسلم ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه ضربه إياه خوف الابتداع في الدين أن يشتغل منه بما لا ينبني عليه عمل وأن يكون ذلك ذريعة لئلا يبحث عن المتشابهات القرآنية ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : { وفاكهة وأبا } قال : هذه الفاكهة فما الأب ! ثم قال : ما أمرنا بهذا
وفي رواية : نهينا عن التكلف
وجاء في قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث أنه ضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال له صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلا جميلا وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت فأذن له إلى أرضه وكتب إلى أب موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه أحد من المسلمين فاشتد ذلك على الرجل فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت سيئتة فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته والشواهد في هذا المعنى كثيرة وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين { وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم }
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك
وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب } وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله لا لأنه بدعة مكروهة على تفصيل يذكر في موضعه
وأما ثالثا : فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة وبيان ذلك من أوجه :
أحدها : أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان
فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه ويود لو لم يفعل وايضا فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا
ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال فإنه يعد ما دخل فيه حسنا بل يراه أولى بما حد له الشارع فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه ؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلا ونحلته أولى بالاتباع هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله
وقد مر في أول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق وكذلك مر في آخر الباب أيضا أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق ما أشير إليه ها هنا وبالله التوفيق
والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس
فصل إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة
إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة ـ حسبما تبين في علم الأصول الدينية ـ فكذلك يقال في البدع المحرمة : إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتبارا بتفاوت درجاتها ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه
وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال وكل ما نص عليه راجع إليها وما لم ينص عليه جرت في الإعتبار والنظر مجراها وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه
فكذلك نقول في كبائر البدع : ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة وما لا فهي صغيرة وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار ـ حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلا وإما فرعا لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصانا منه أو تغييرا لقوافيه أو ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات وإن قلنا بدخولها في العادات بل تمنع في الجميع وإذا كانت بكليتها إخلالا بالدين فهي إذا إخلال بأول الضروريات وهو الدين وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة وقال في الفرق :
[ كلها في النار إلا واحدة ] وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل
وهذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان وكذلك سائرها مع الإخلال فكل منها كبيرة فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة
ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه :
أحدها : أنا نقول : الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة فالقتل كبيرة وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها وقطع عضو واحد كبيرة دونها وهلم جرا إلى أن تنتهي إلى اللطمة ثم إلى أقل خدش يتصور فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة كما قال العلماء في السرقة : إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر وهذا في ضرورة الدين أيضا
فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال :
أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة ولتنقضن عرى الإيمان عروة عروة وليصلين نساء وهن حيض ـ ثم قال ـ حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنما قال الله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } لا تصلن إلا ثلاثا وتقول أخرى : إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة ما فينا كافر حق على الله أن يحشرهما مع الدجال فهذا الأثر ـ وإن لم تلتزم عهده صحته ـ مثال من أمثلة المسألة
فقد نبه على أن في آخر الزمان من يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس وبين أن من النساء من يصلين وهن حيض كأنه يعني بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة فهذه مرتبة دون الأولى
وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات ثم وقع في العتبية قال ابن القاسم : وسمعت مالكا يقول : أول من أحدث الاعتماد في الصلاة ـ حتى لا يحرك رجليه ـ رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) قال : قد عيب ذلك عليه وهذا مكروه من الفعل قالوا : ومساء أي يساء الثناء عليه
قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة قاله في المدونة وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين وهو من محدثات الأمور : انتهى
فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر ـ فيقال في مثله : إنه من كبار البدع كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة
والثاني : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كليا في الشريعة كبدعة التحسين والتقبيح العقليين وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصارا على القرآن وبدعة الخوارج في قولهم : لا حكم إلا لله وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعا من فروع الشريعة دون فرع بل ستجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية أو يكون الخلل الواقع جزئيا إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك : التثوب ضلال وبدعة الأذان والإقامة في العيدين وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين وما أشبه ذلك فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلا لها
فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلا تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصا به لا عاما فيه وفي غيره ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد فلا قطع على أن جميعها من واحد وقد ظهر وجه انقسامها
والثالث : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ولا شك أن البدع من جملة المعاصي ـ على مقتضى الأدلة المتقدمة ـ ونوع من أنواعها فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضا ولا يخصص وجوها بتعميم الدخول في الكبائر لأن ذلك تخصيص من غير مخصص ولو كان ذلك معتبرا لاستثني من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم قسم البدع فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام فظهر أنه شامل لجميع أنواعها
فإن قيل : إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقا وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف والخفة هل تنتهي إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم ؟ هذا فيه نظر وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع
وأما في البدع فثبت لها أمران :
أحدهما : أنها مضادة للشارع ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له
والثاني : أن كل بدعة ـ وإن قلت ـ تشريع زائد أو ناقص أو تغير للأصل الصحيح وكل ذلك قد يكون على الانفراد وقد يكون ملحقا بما هو مشروع فيكون قادحا في المشروع ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامدا لكفر إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قل أو كثر ـ كفر فلا فرق بين ما قل منه وما كثر فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير
ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني
وأما الثالث : فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام : [ كل بدعة ضلالة ] وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار إما بإعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض فالأشد عقابا أكبر مما دونه وإما بإعتبار فوت المطلوب في المفسدة فكما انقسمت الطاعة بإتباع السنة إلى الفاضل والأفضل لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل والصغر والكبر من باب النسب والإضافات فقد يكون الشيء كبيرا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقاسم المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال : المرضي عندنا أن كل ذنب كبير وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ولذلك يقال : معصية الله أكبر من معصية العباد قولا مطلقا إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها ثم ذكر معنى ما تقدم ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب الموافقات ولكن الظاهر يأبى ذلك ـ حسبما ذكره غيره من العلماء ـ والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات
فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غص من جانبها بل صاحب المعصية متنصل منها مقر لله بمخالفتة لحكمها
وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ولذلك قال مالك بن أنس : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خان الرسالة لأن الله يقول : { اليوم أكملت لكم دينكم } إلى آخر الحكاية وقد تقدمت
ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال : أي فتنة فيها ؟ إنما هي أميال أزيدها فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى آخر الحكاية وقد تقدمت أيضا فإذا يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة
فالجواب : ان ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة
وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالما بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك وغير العالم بكونها بدعة على ضربين وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له فلا بد له من تأويل كقوله : هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول : إنها بدعة ولكني رأيت فلانا الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه أو فرارا من خوف على حظه أو فرارا من الاعتراض عليه في اتباع السنة كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه وما أشبه ذلك
وأما غير العالم وهو الواضع لها لأنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة بل هي عنده مما يلحق المشروعات كقول من جعل يوم الإثنين يصام لأنه يوم مولد النبي صلى الله عليه و سلم وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقا بأيام الأعياد لأنه عليه السلام ولد فيه وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية أو رغب في الدعاء بهئية الاجتماع في أدبار الصلوات دائما بناء على ما جاء في ذلك حالة الواحدة أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر في زعمه سنة محمد صلى الله عليه و سلم فلما قيل له : إنك تكذب عليه وقد قال :
[ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ] قال : لم أكذب عليه وإنما كذبت له أو نقص منها تأويلا عليها لقوله تعالى في ذم الكفار : { إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا } فأسقط اعتبار الأحاديث المنقوله بالآحاد لذلك ولما أشبه لأن خبر الواحد ظني فهذه كلها من قبل التأويل
وأما المقلد فكذلك أيضا لأنه يقول : فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويثني عليه كاتخاذ الغناء جزءا من أجزاء طريقة التصوف بناء على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ومنهم من مات بسببه وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف
وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد و البسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنة بحثا بل يدخلون تحت أذيال التأويل إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلا
وإذا كان كذلك فقول مالك : من أحدث في هذه الأمة شيئا لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي صلى الله عليه و سلم خان الرسالة وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة : أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ إلى آخر الحكاية إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا لأنه يقول : قصدت إليه قصدا لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ولازم المذهب : هل هو نذهب أم لا ؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضا : أن لازم المذهب ليس بمذهب فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار فإذا اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر فكذلك البدع
ثم إن البدع على ضربين : كلية وجزئية فأما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات حسبما يتبين بعد إن شاء الله
وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار وإن دخلت تحت الوصف بالضلال كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبه وإن كان داخلا تحت وصف السرقة بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في
فصل وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة فذلك بشروط :
أحدها : أن لا يدوام عليها فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه لأن ذلك ناشىء عن الإصرار عليها والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ولذلك قالوا : [ لا صغيرة مع إصرار ولا كبيرة مع استغفار ] فكذلك البدعة من غير فرق إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها وقد لا يصر عليها وقد لا يصر عليها وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطه الشاهد بها أو عدمه بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة وتنطلق عليه ألسنة الملامة ويرمى بالتسفيه والتجهيل وينبز بالتبديع والتضليل ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة والمقتدى بهم من الأئمة والدليل على ذلك الاعتبار والنقل فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار ومن طالع سير المتقدمين وجد من ذلك ما لا يخفى
وأما النقل فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضيا وليست كذلك المعاصي فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق حيث جاء في بعض الروايات :
تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها حسبما تقدم
والشرط الثاني : أن لا يدعو إليها فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه فإنه الذي أثارها وسبب كثرة وقوعها والعمل بها فإن الحديث الصحيح قد أثبت :
[ أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ] والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته فربما تساوي الصغيرة ـ من هذا الوجه ـ الكبيرة أو تربى عليها
وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج فإن المعصية فيما بين العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما يتعذر عليه مع الدعاء إليها وقد مر في باب ذم البدع وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله
والشرط الثالث : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس أو المواضع التي تقام فيها السنن وتظهر فيها أعلام الشريعة فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو بمن يحسن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام فإنها لا تعدو أمرين : إما أن يقتدى بصاحبها فيها فإن العوام أبتاع كل ناعق لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس والتي للنفوس في تحسينها هوى وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر
وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي فإن العالم مثلا إذا أظهر المعصية ـ وإن صغرت ـ سهل على الناس ارتكابها فإن الجاهل يقول : لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب لم يرتكبه وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى فيها لا محالة فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه بل البدعة أشد في هذا المعنى إذ الذنب قد لا يتبع عليه بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالما بأنها بدعة مذمومة فحينئذ يصير في درجة الذنب فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك فإن كان داعيا إليها فهو أشد وإن كان الإظهار باعثا على الاتباع فبالدعاء يصير أدعى إليه
وقد روي عن الحسن أن رجلا من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فيجعل يبكي ويعج إلى ربه فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب فكيف بمن ضل فصار من أهل النار ؟
وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر فكأن المظهر لها يقول : هذه سنة فاتبعوها
قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه : فحبس فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في لاصف وشغلت المصلين بالنظر إليه وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ] فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد رسول الله صلى الله عليه و سلم ولا في غيره
وفي رواية عن ابن مهدي قال : فقال : يا عبد الرحمن ! تصلي مستلبا ؟ فقلت : يا أبا عبد الله إنه كان يوما حارا ـ كما رأيت فثقل ردائي علي فقال : آلله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه ؟ قلت : آلله قال : خلياه
وحكى ابن وضاح قال : ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك فأرسل إليه مالك فجاءه فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون فقال له مالك : لا تفعل لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه قد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر فأرسل إليه مالك فقال له : ما الذي تفعل ؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن ؟ فقال : إنما نهيتني عن التثويب فقال له : لا تفعل فكف زمانا ثم جعل يضرب الأبواب فأرسل إليه مالك فقال : ما هذا الذي تفعل : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فقال له مالك : لا تفعل لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه
قال ابن وضاح : وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنما أحدث هذا بالعراق قيل ل ابن وضاح : فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار ؟ فقال : ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمرا محدثا وقد قال في التثويب : إنه ضلال وهو بين لأن :
[ كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ] ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثا أحدثه
وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم أصبح ولله الحمد إشعارا بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ولحضور الجماعة وللغد ولكل ما يؤمرون به فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان ونقل أيضا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها فصار ذلك كله سنة في المساجد إلا الآن فإنا لله وإنا إليه راجعون
وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح وهذا نظير قولهم عندنا : الصلاة ـ رحمكم الله
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل مسجدا أراد أن يصلي فيه فثوب المؤذن فخرج عبد الله بن عمر من المسجد وقال : اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه قال ابن رشد : وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله : حي على الصلاة : ثم ـ قال ـ وقيل : إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه : حي على خير العمل لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة ووقع في المجموعة : أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه كفعل ابن عمر رضي الله عنهما
وفي المسألة كلام المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك : إنه ضلال والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة أو في المواطن التي تقام فيها السنن والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة لأنها إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها فكان وزر ذلك عائدا على الفاعل أولا فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته
والشرط الرابع : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها ـ وإن فرضناها صغيرة ـ فإن ذلك استهانة بها والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغير وذلك أن الذنب له نظران : نظر من جهة رتبته في الشرط ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيرا إذا فهمنا من الشرع أنه صغير لأنا نضعه حيث وضعه الشرع وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك جدا إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين ـ المواجهة بالكبيرة والمواجهة بالصغيرة
والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلا لأن تصورها موقوف عليهما فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا يتنافيان لأنهما اعتباران من جهتين : فالعاصي وإن كان يعمل المعصية لم يقصد بتعمده الاستهانة بالجانب العلي الرباني وإنما قصد اتباع شهوته مثلا فيما جعله الشارع صغيرا أو كبيرا فيقع الإثم على حسبه كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع وإنما قصد الجري على مقتضاه لكن بتأويل زاده ورجحه على غيره بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع فإنه إنما تهاون بمخالفة الملك الحق لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة والتهاون بها عظيم ولذلك يقال : لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظيمة من واجهته بها
وفي الصحيح [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال في حجة الوداع : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم الحج الأكبر قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا لا يجني جان إلا على نفسه ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبدا ولا تكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به ] فقوله عليه الصلاة و السلام : [ فسيرضى به ] دليل على عظم الخطب فيما يستحقر
وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام فإنه ذكر في الإحياء أن مما تعظم به الصغيرة أن يستصغرها ( قال ) : فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله وكلما استصغره كبر عند الله بين ذلك وبسطه
فإذا تحصلت هذه الشروط فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة أو خيف أن تصير كبيرة كما أن المعاصي كذلك والله أعلم
الباب السابع : في الابتداع هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبادية ؟
قد تقدم في حد البدعة ما يقتضي الخلاف فيه : هل يدخل في الأمور العادية أم لا ؟ أما العبادية فلا إشكال في دخوله فيها وهي عامة الباب إذ الأمور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية وإما أعمال جوارح من قول أو فعل وكلا القسمين قد دخل فيه الابتداع كمذهب القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة وكذلك مذهب الإباحة واختراع العبادات على غير مثال سابق ولا أصل مرجوع إليه
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع الخلاف فيها وأمثلتها ظاهرة مما تقدم في تقسيم البدع كالمكوس والمحدثة من المظالم وتقديم الجهال على العلماء في الولايات العلمية وتولية المناصب الشريفة من ليس لها بأهل بطريق الوراثة وإقامة صور الأئمة وولاة الأمور والقضاة واتخاذ المناخل وغسل اليد بالأشنان ولبس الطيالس وتوسيع الأكمام وأشباه ذلك من الأمور التي لم تكن في الزمن الفاضل والسلف الصالح فإنها أمور جرت في الناس وكثر العمل بها وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع وصارت كالعبادات المخترعة الجارية في الأمة وهذا من الأدلة الدالة على ما قلنا وإليه مال القرافي وشيخه ابن عبد السلام وذهب إليه بعض السلف
فروى أبو نعيم الحافظ عن محمد بن أسلم أنه ولد له ولد ـ قال محمد بن القاسم الطوسي ـ فقال : اشتر لي كبشين عظيمين ودفع إلي دراهم فاشتريت له وأعطاني عشرة أخرى وقال لي : اشتر بها دقيقا ولا تنخله واخبزه قال : فنخلت الدقيق وخبزته ثم جئت به فقال : نخلت هذا ؟ وأعطاني عشرة أخرى وقال : اشتر به دقيقا ولا تنخله واخبزه وحملته إليه فقال لي : يا أبا عبد الله العقيقة سنة ونخل الدقيق بدعة ولا ينبغي أن يكون في السنة بدعة ولم أحب أن يكون ذلك الخبز في بيتي بعد أن كان بدعة ومحمد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الحديث إسحاق بن راهوية حيث سئل عن السواد الأعظم في قوله عليه الصلاة و السلام :
[ عليكم بالسواد الأعظم ] فقال : محمد واصحابه حسبما يأتي ـ إن شاء الله ـ في موضعه من هذا الكتاب
وأيضا فإن تصور في العبادات وقوع الابتداع وقع في العادات لأنه لا فرق بينهما فالأمور المشروعة تارة تكون عبادية وتارة عادية فكلاهما مشروع من قبل الشارع فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر
ووجه ثالث وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون في آخر الزمان هي خارجة عن سنته فتدخل فيما تقدم تمثيله لأنها من جنس واحد
ففي الصحيح عن عبد الله رضي الله عنه قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها قالوا : فما تأمرنا يا رسول الله ؟ قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ] وعن ابن عباس رضي الله عنهما [ عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال :
من كره من أميره شيئا فليصبر ] وفي رواية [ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبرا فمات مات ميتة جاهلية ]
وفي الصحيح أيضا :
[ إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظروا الساعة ] و [ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : يتقارب الزمان ويقبض العلم ويلقى الشح وتظهر الفتن ويكثر الهرج قال : يا رسول الله أيما هو ؟ قال : القتل القتل ] وعن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم :
[ إن بين يدي الساعة لأياما ينزل فيها الجهل ويرفع فيها العلم ويكثر فيها الهرج والهرج القتل ]
و [ عن حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا : أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ] وحدثنا عن رفعها ثم قال : [ ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل أثر المجل كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه ينتثر وليس فيه شيء ويصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل : ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده ! وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ] الحديث
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان يكون بينهما مقتلة عظيمة دعواهما واحدة حتى يبعث دجالون كذابون قريب من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول وحتى يقبض العلم ثم قال : وحتى يتطاول الناس في البنيان ] إلى آخر الحديث
وعن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ يخرج في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يقولون من قول خير البرية يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ]
ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال : [ بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا ] وفي ذلك الحسن قال : يصبح محرما لدم أخيه وعرضه وماله ويمسي مستحلا له كأنه تأوله على الحديث الآخر
[ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] والله أعلم
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا ويشرب الخمر وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون للخمسين امرأة قيم واحد ]
ومن غريب حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : إذا صار المغنم دولا والأمانة مغنما والزكاة مغرما وأطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه وارتفعت الأصوات في المساجد وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وشربت الخمور ولبس الحرير واتخذت القيان والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا أو مسخا وقذفا ]
وفي الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه قريب من هذا
وفيه : [ ساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم ] وفيه : [ ظهرت القيان والمعازف ] وفي آخره : [ فليرتقبوا عند ذلك ريحا حمراء وزلزلة وخسفا ومسخا وقذفا وآيات تتابع كنظام بال قطع سلكه فتتابع ]
فهذه الأحاديث وأمثالها مما أخبر به النبي صلى الله عليه و سلم أنه يكون في هذه الأمة بعده إنما هو ـ في الحقيقة ـ تبديل الأعمال التي كانوا أحق بالعمل بها فلما عوضوا منها غيرها وفشا فيها كأنه من المعمول به تشريعا كان من جملة الحوادث الطارئة على نحو ما بين في العبادات
والذين ذهبوا إلى أنه مختص بالعبادات لا يسلمون جميع ما قاله الأولون
أما ما تقدم عن القرافي وشيخه فقد مر الجواب عنه فإنها معاص في الجملة ومخالفات للمشروع كلمكوس والمظالم وتقديم الجهال على العلماء وغير ذلك
والمباح منها كالمناخل إن فرض مباحا ـ كما قالوا ـ فإنما إباحته بدليل شرعي فلا ابتداع فيه
وإن فرض مكروها ـ كما أشار إليه محمد بن أسلم ـ فوجه الكراهية عنده كونها عدت من المحدثات إذ في الأمر : أول ما أحدث بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المناخل ـ أو كما قال ـ فأخذه بظاهر اللفظ من أخذ به كمحمد بن أسلم
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إلى كراهيته قوله تعالى : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا } الآية لا من جهة أنه بدعة
وقولهم : كما يتصور ذلك في العبادات يتصور في العادات مسلم وليس كلامنا في الجواز العقلي وإنما الكلام في الوقوع وفيه النزاع
وأما ما احتجوا به من الأحاديث فليس فيها على المسألة دليل واحد إذ لم ينص على أنها بدع أو محدثات أو ما يشير إلى ذلك المعنى وأيضا إن عدوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم من المآكل والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول بدعا وهذا شنيع فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والإسم فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم هذا من المستنكر جدا
نعم لا بد من المحافظة في العوائد المختلفة على الحدود الشرعية والقوانين الجارية على مقتضى الكلام والسنة
وأيضا فقد يكون التزام الزي الواحد والحالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لاختلاف الأخلاق والأزمنة والأحوال والشريعة تأبى التضييق والحرج فيما دل الشرع على جوازه ولم يكن ثم معارض
وإنما جعل الشارع ما تقدم في الأحاديث المذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها وفحشها بالنسبة إلى متقدم الزمان فإن الخير كان أظهر والشر كان أخفى وأقل بخلاف آخر الزمان فإن الأمر فيه على العكس والشر فيه أظهر والخير أخفى
وأما كون تلك الأشياء بدعا فغير مفهوم على الطريقتين في حد البدعة فراجع النظر فيها تجده كذلك
والصواب في المسألة طريقة أخرى وهي تجمع شتات النظرين وتحقق المقصود في الطريقتين وهو الذي بني عليه ترجمة هذا الباب فلنفرده في فصل على حدته والله الموفق للصواب
فصل أفعال المكلفين بحسب النظر الشرعي فيها على ضربين أفعال المكلفين ـ بحسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربين : أحدهما : أن يكون من قبيل التعبدات والثاني : أن يكون من قبيل العادات
فأما الأول : فلا نظر فيه ها هنا
وأما الثاني : وهو العادي فظاهر النقل عن السلف الأولين أن المسألة تختلف فيها فمنهم من يرشدألأ كلامه إلى أن العاديات كالعباديات فكما أنا مأمورون في العبادات بأن لا نحدث فيها فكذلك العاديات وهو كلام محمد بن اسلم حيث كره في سنة العقيقة مخالة من قبله في أمر عادي وهو استعمال المناخل مع العلم بأنه معقول المعنى نظرا منه ـ والله أعلم ـ إلى أن الأمر باتباع الأولين على العموم غلب عليه جهة التعبد ويظهر أيضا من كلام من قال : أول ما أحدث الناس بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم المناخل
ويحكى عن الربيع بن أبي راشد أنه قال : لولا أني أخاف من كان قبلي لكانت الجبانة مسكني إلى أن أموت والسكنى أمر عادي بلا إشكال
وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلا في قسم العباديات فدخول الابتداع فيه ظاهر والأكثرون على خلاف هذا وعليه نبني الكلام فنقول :
ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد لأن ما لم يعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد بالتعبدي وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي والبيع والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي لأن أحكامها معقولة المعنى ولا بد فيها من التعبد إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها كانت اقتضاء أو تخييرا فإن التخيير في التعبدات إلزام كما أن الاقتضاء إلزام ـ حسبما تقرر برهانه في كتاب الموافقات ـ وإذا كان كذلك فقد ظهر اشتراك القسمين في معنى التعبد فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعباديات وإلا فلا
وهذه هي النكتة التي يدور عليها حكم الباب ويتبين ذلك بالأمثلة فمما أتى به القرافي من جواز وضع المكوس في معاملات الناس فلا يخلو هذا الوضع المحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات وقتا ما أو في حالة ما لنيل حطام الدنيا على هئية غصب الغاصب وسرقة السارق وقطع القاطع للطريق وما أشبه ذلك أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الموضوع والأمر المحتوم عليهم دائما أو في أوقات محدودة على كيفيات مضروبة بحيث تضاهي المشروع الدائم الذي يحمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على الممتنع منه العقوبة كما في أخذ زكاة المواشي والحرث وما أشبه ذلك
فأما الثاني فظاهر أنه بدعة إذ هو تشريع زائدة وإلزام للمكلفين يضاهي إلزامهم الزكاة المفروضة والديات المضروبة والغرامات المحكوم بها في أموال الغصاب والمتعبدين بل صار في حقهم كالعبادات المفروضة واللوازم المحتومة أو ما أشبه ذلك فمن هذه الجهة يصير بدعة بلا شك لأنه شرع مستدرك وسن في التكليف مهيع فتصير المكوس على هذا الفرض لها نظران : نظر من جهة كونها محرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ونظر من جهة كونها اختراعا لتشريع يؤخذ به الناس إلى الموت كما يؤخذون بسائر التكاليف فاجتمع فيها نهيان : نهي عن المعصية ونهي عن البدعة وليس ذلك موجودا في البدع في القسم الأول وإنما يوجد به النهي من جهة كونها تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب إذ ليس فيه جهة أخرى يكون بها معصية بل نفس التشريع هو نفس الممنوع
وكذلك تقديم الجهال على العلماء وتولية المناصب الشريفة من لا يصلح بطريق التوريث هو من قبيل ما تقدم فإن جعل الجاهل في موضع العالم حتى يصير مفتيا في الدين ومعمولا بقوله في الأموال والدماء والأبضاع وغيرها محرم في الدين وكون ذلك يتخذ ديدنا حتى يصير الابن مستحقا لرتبة الأب ـ وإن لم يبلغ رتبة الأب في ذلك المنصب ـ بطريق الوراثة أو غير ذلك بحيث يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي لا يخالف بدعة بلا إشكال زيادة إلى القول بالرأي غير الجاري على العلم وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأتي تفسيره إن شاء الله وهو الذي بينه النبي صلى الله عليه و سلم بقوله :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ] وإنما ضلوا لأنهم أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم
وأما إقامة الأئمة والقضاء وولاة الأمر على خلاف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة لا تتصور هنا وذلك صحيح فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدا وذلك بفرض أن يعتقد في ذلك العمل أنه مما يطلب به الأئمة على الخصوص تشريعا خارجا عن قبيل المصالح المرسلة بحيث يعد من الدين الذي يدين به هؤلاء المطلوبون به أو يكون ذلك مما يعد خاصا بالأئمة دون غيرهم كما يزعم بعضهم : أن خاتم الذهب جائز لذوي السلطان أو يقول : إن الحرير جائز لهم لبسه دون غيرهم وهذا أقرب من الأول في تصور البدعة في حق هذا القسم
ويشبهه على قرب زخرفة المساجد إذ كثير من الناس يعتقد أنها من قبيل ترفيع بيوت الله وكذلك تعليق الثريات الخطيرة الأثمان حتى يعد الإنفاق في ذلك إنفاقا في سبيل الله وكذلك إذا اعتقد في زخارف الملوك وإقامة صورهم أنها من جملة ترفيع الإسلام وإظهار معالمه وشعائره أو قصد ذلك في فعله أولا بأنه ترفيع للإسلام لما لم يأذن الله به وليس ما حكاه القرافي عن معاوية من قبيل هذه الزخارف بل من قبيل المعتاد في اللباس والاحتياط في الحجاب مخافة من انخراق خرق يتسع فلا يرفع ـ هذا إن صح ما قال وإلا فلا يعول على نقل المؤرخين ومن لا يعتبر من المؤلفين وأحرى ألا ينبني عليه حكم
وأما مسألة المناخل فقد مر ما فيها والمعتاد فيها أنه لا يلحقها أحد بالدين ولا بتدبير الدنيا بحيث لا ينفك عنه كالتشريع فلا نطول به وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلام من غير فرق فتبين مجال البدعة في العاديات من مجال غيرها وقد تقدم أيضا فيها كلام فراجعه إن احتجت إليه
وأما وجه النظر في أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول الابتداع في العاديات على ما أريد تحقيقه فنقول : إن مدارك تلك الأحاديث على بضع عشرة خصلة يمكن ردها إلى أصول هي كلها أو غالبها بدع وهي قلة العلم وظهور الجهل والشح وقبض الأمانة وتحليل الدماء والزنا والحرير والغناء والربا والخمر وكون المغنم دولا والزكاة مغرما وارتفاع الأصوات في المساجد وتقديم الأحداث ولعن آخر الأمة أولها وخروج الدجالين ومفارقة الجماعة
أما قلة العلم وظهور الجهل فبسبب التفرغ للدنيا وهذا إخبار بمقدمة أنتجتها الفتيا بغير علم ـ حسبما جاء في الحديث الصحيح :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ] إلى آخره ـ وذلك أن الناس لا بد لهم من قائد يقودهم في الدين بجرائمهم وإلا وقع الهرج وفسد النظام فيضطرون إلى الخروج إلى من انتصب لهم منصب الهداية وهو الذي يسمونه عالما فلا بد أن يحملهم على رأيه في الدين لأن الفرض أنه جاهل فيضلهم عن الصراط المستقيم : كما إنه ضال عنه وهذا عين الابتداع لأنه التشريع بغير أصل من كتاب ولا سنة ودل هذا الحديث على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل العلماء وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فتؤتى الناس من قبله وسيأتي لهذا المعنى بسط أوسع من هذا إن شاء الله
وأما الشح فإنه مقدمة لبدعة الاحتيال على تحليل الحرام وذلك أن الناس يشحون بأموالهم فلا يسمحون بتصريفها في مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم كالإحسان بالصدقات والهبات والمواساة والإيثار على النفس ويليه أنواع القرض الجائز ويليه التجاوز في المعاملات بإنظار المعسر وبالإسقاط كما قال : { وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون } وهذا كان شأن من تقدم من السلف الصالح ثم نقص الإحسان بالوجوه الأول فتسامح الناس بالقرض ثم نقض ذلك حتى صار الموسر لا يسمح بما في يديه فيضطر المعسر إلى أن يدخل في المعاملات التي ظاهرها الجواز وباطنها المنع كالربا والسلف الذي يجر النفع فيجعل بيعا في الظاهر ويجري في الناس شرعا شائعا ويدين له العامة وينصبون هذه المعاملات متاجر وأصلها الشح بالأموال وحب الزخارف الدنيوية والشهوات العاجلة فإذا كان كذلك فالحري أن يصير ذلك ابتداعا في الدين وأن يجعل من أشراط الساعة
فإن قيل : هذا انتجاع من مكان بعيد وتكلف لا دليل عليه فالجواب : أنه لولا أن ذلك مفهوم من الشرع لما قبل به فقد روى أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم ]
ورواه أبو داود أيضا وقال فيه :
[ إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينتزعه حتى ترجعوا إلى دينكم ]
فتأملوا كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالأموال وهو معقول في نفسه فإن الرجل لا يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يجد من يسلفه أو من يعينه في حاجته إلا أن يكون سفيها لا عقل له
ويشهد لهذا المعنى ما خرجه أبو داود أيضا عن علي رضي الله عنه قال :
سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى : { وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين } وينشد شرار خلق الله يبايعون كل مضطر ألا أن بيع المضطر حرام : الكسلك أخو المسلم لا يظلمه ولا يخونه إن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكا إلى هلاكه
وهذه الأحاديث الثلاثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ مما يعضد بعضه بعضا وهو خبر حق في نفسه يشهد له الواقع قال بعضهم : عامة العينة إنما تقع من رجل يضطر إلى نفقة يضن عليه الموسر بالقرض إلا أن يربحه في المائة ما أحب فيبيعها ثمن المائة بضعفها أو نحو ذلك ففسر بيع المضطر ببيع العينة وبيع العينة إنما هو العين بأكثر منها إلى أجل ـ حسبما هو مبسوط في الفقهيات ـ فقد صار الشح إذا سببا في دخول هذه المفاسد في البيوع
فإن قيل : كلامنا في البدعة في فساد المعصية لأن هذه الأشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر لا كلام لنا فيه
فالجواب : أن مدخل البدعة ها هنا من باب الاحتيال الذي أجازه بعض الناس فقد عده العلماء من البدع المحدثات حتى قال ابن المبارك في كتاب وضع في الحيل : من وضع هذا فهو كافر ومن سمع به فرضي به فهو كافر ومن حمله من كورة فهو كافر ومن كان عنده فرضي به فهو كافر وذلك أنه وقع فيه الاحتيالات بأشياء منكرة حتى احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد
وقال إسحاق بن راهوية عن سفيان بن عبد الملك : أن ابن المبارك قال في قصة بنت أبي روح حيث أمرت بالإرتداد وذلك في أيام أبي غشان : فذكر شيئا ثم قال ابن المبارك وهو مغضب : أحدثوا في الإسلام ومن كان أمر بهذا فهو كافر ومن كان هذا الكتاب عنده أو في بيته ليأمر أو صوبه ولم يأمر به فهو كافر ثم قال ابن مبارك : ما أرى الشيطان يحسن مثل هذا حتى جاء هؤلاء فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ولو كان يحسنها لم يجد من يمضيها فيهم حتى جاء هؤلاء
وإنما وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم في أن يحتالوا للحرام حتى يصير حلالا وللواجب حتى يكون غير واجب وما أشبه ذلك من الأمور الخارجة عن نظام الدين كما أجازوا نكاح المحلل وهو احتيال على رد المطلقة ثلاثا لمن طلقها وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالهبة المستعارة وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الإشارة في الأحاديث المتقدمة المذكور فيها الشح وأنها تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصي جمة
وأما قبض الأمانة فعبارة عن شياع الخيانة وهي من سماة أهل النفاق ولكن يوجد في الناس بعض أنواعها تشريعا وحكيت عن قوم ممن ينتمي إلى العلم كما حكيت عن كثير من الأمراء فإن أهل الحيل المشار إليهم إنما بنوا في بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدا فأخفوه لتظهر صحته فإن بيعه الثوب بمائة وخمسين إلى أجل لكنهما أظهرا وساطة الثوب وأنه هو المبيع والمشتري وليس كذلك بدليل الواقع
وكذلك يهب ماله عند رأس الحول قائلا بلسان حاله ومقاله : انا غير محتاج إلى هذا المال وأنت أحوج إليه مني ثم يهبه فإذا جاء الحول الآخر قال الموهوب له للواهب مثل المقالة الأولى والجميع في الحالين بل في الحولين في تصريف المال سواء أليس هذا خلاف الأمانة ؟ والتكليف من أصله أمانة فيما بين العبد وربه فالعمل بخلاف خيانة
ومن ذلك أن بعض الناس كان [ يحفر الزينة ويرد من الكذب ] ومعنى الزينة التدليس بالعيوب وهذا خلاف الأمانة والنصح لكل مسلم وايضا فإن كثيرا من الأمراء يحتاجون أموال الناس اعتقادا منهم أنها لهم دون المسلمين ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك في الغنائم المأخوذة عنوة من الكفار فيجعلونها في بيت المال ويحرمون الغانمين من حظوظهم منها تأويلا على الشريعة بالعقول فوجه البدعة ها هنا ظاهر
وقد تقدم التنبيه على ذلك في تمثيل البدع الداخلة في الضروريات في الباب قبل هذا ويدخل تحت هذا النمط كون الغنائم تصير دولا وقوله :
[ سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونها ثم قال : أدوا إليهم حقهم وسلوا الله حقكم ]
وأما تحليل الدماء والربا والحرير والغناء والخمر فخرج أبو داود و أحمد وغيرهما عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ لبشرين ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها ] ـ زاد ابن ماجه ـ [ يعزف على رؤوسهم بالمعازف والقينات يخسف الله بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير ] وخرجه البخاري عن أبي عامر وأبي مالك الأشعري قال فيه :
[ ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والخمر والمعازف ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحة لهم يأتيهم رجل لحاجة فيقولون : ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ] وفي سنن أبي داود : [ ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير ] ـ وقال في آخره ـ [ يمسخ منهم آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ]
والخز هنا نوع من الحرير ليس الخز المأذون فيها المنسوج من حرير وغيره وقوله في الحديث : [ ولينزلن أقوام ] يعني ـ والله أعلم ـ من هؤلاء المستحلين والمعنى إن هؤلاء المستحلين ينزل منهم أقوام إلى جنب علم وهو الجبل فيواعدهم إلى الغد فيبيتهم الله ـ وهو أخذ العذاب ليلا ـ ويمسخ منهم آخرين كما في حديث أبي داود كما في الحديث قبل : يخسف الله بهم الأرض ويمسخ منهم قردة وخنازير وكأن الخسف ها هنا التبييت المذكور في الآخر
وهذا نص في أن هؤلاء الذين استحلوا هذه المحارم كانوا متأولين فيها حيث زعموا أن الشراب الذي شربوه ليس هو الخمر وإنما له اسم آخر إما النبيذ أو غيره وإنما الخمر عصير العنب النيء وهذا رأي طائفة من الكوفيين وقد ثبت أن كل مسكر خمر
قال بعضهم : وإنما أتى على هؤلاء حيث استحلوا المحرمات بما ظنوه من انتفاء الإسم ولم يلتفتوا إلى وجود المعنى المحرم وثبوته قال : وهذه بعينها شبهة اليهود في استحلالهم أخذ الحيتان يوم الأحد بما أوقعوها به يوم السبت في الشباك والحفائر من فعلهم يوم الجمعة حيث قالوا : ليس هذا بصيد ولا عمل يوم السبت وليس هذا باستباحة السبت
بل الذي يستحل الخمر زاعما أنه ليس خمرا مع علمه بأن معناه الخمر ومقصوده مقصود الخمر أفسد تأويلا من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا فلئن كان من القياس ما هو حق فإن قياس الخمر المنبوذة على الخمر العصيرة من القياس في معنى الأصل وهو من القياس الجلي إذ ليس بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر في التحريم
فإذا كان هؤلاء المذكورون في الحديث إنما شربوا الخمر استحلالا لها لما ظنوا أن المحرم مجرد ما وقع عليه اللفظ وظنوا أن لفظ الخمر لا يقع على غير عصير العنب النيء فشبهتهم في استحلال الحرير والمعازف أظهر بأنه أبيح الحرير للنساء مطلقا وللرجال في بعض الأحوال فكذلك الغناء والدف قد أبيح في العرس ونحو وابيح منه الحداء وغيره وليس في هذا النوع من دلائل التحريم ما في الخمر فظهر ذم الذين يخسف بهم ويمسخون إنما فعل ذلك بهم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به المحارم بطريق الحيلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته في تحريم هذه الأشياء
وقد خرج ابن بطة عن الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه و سلم قال [ يأتي على الناس زمان يستحلون فيه الربا بالبيع ] قال بعضهم : يعني العينة وروي في استحلال الربا حديث رواه إبراهيم الحربي عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ أول دينكم نبوة ورحمة ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض يستحل فيه الحر والخز ] يريد استحلال الفروج الحرام والحر بكسر الحاء المهملة والراء المخففة الفرج قالوا : ويشبه ـ والله أعلم ـ أن يراد بذلك ظهور استحلال نكاح المحلل ونحو ذلك مما يوجب استحلال الفروج المحرمة فإن الأمة لم يستحل أحد منها الزنا الصريح ولم يرد بالاستحلال مجرد الفعل فإن هذا لم يزل معمولا في الناس ثم لفظ الاستحلال إنما يستعمل في الأصل فيمن اعتقد الشيء حلالا والواقع كذلك فإن هذا الملك العضوض الذي كان بعد الملك والجبرية قد كان في أواخر عصر التابعين في تلك الأزمان صار في أولي الأمر من يفتي بنكاح المحلل ونحوه ولم يكن قبل ذلك من يفتي به أصلا
ويؤيد ذلك أنه في حديث ابن مسعود رضي الله عنه المشهور أن رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والمحلل والمحلل له ]
وروى أحمد عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ ما ظهر في قوم الربا والزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله ] فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا كما يشعر أن العينة من الربا وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا قال : [ يأتي على الناس زمان يستحل فيه خمسة أشياء : يستحلون الخمر بأسماء يسمونها بها والسحت بالهدية والقتل بالريبة والزنا بالنكاح والربا بالبيع ] فإن الثلاثة المذكورة أولا قد سنت وأما السحت الذي هو العطية للوالي والحاكم ونحوهما بإسم الهدية فهو ظاهر واستحلال القتل بإسم الإرهاب الذي يسميه ولاة الظلم سياسية وأبهة الملك ونحو ذلك فظاهر أيضا وهو نوع من أنواع شريعة القتل المخترعة
وقد وصف النبي صلى الله عليه و سلم الخوارج بهذا النوع من الخصال فقال : [ إن من ضئضىء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يتجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ولعل هؤلاء المرادون بقوله عليه الصلاة و السلام في حديث أبي هريرة رضي الله عته :
[ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا ] الحديث يدل عليه تفسير الحسن قال ك يصبح محرما لدم أحيه وعرضه ويمسي مستحلا إلى آخره
وقد وضع القتل شرعا معمولا به على غير سنة الله وسنة رسوله المتسمي بالمهدي المغربي الذي زعم أنه المبشر به في الأحاديث فجعل القتل عقابا في ثمانية عشر صنفا ذكروا منها : الكذب والمداهنة وأخذهم أيضا بالقتل في ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك وكان يعظهم في كل وقت ويذكرهم ومن لم يحضر أدب فإن تمادى قتل وكل من لم يتأدب بما أدب به ضرب بالسوط المرة والمرتين فإن ظهر منه عناد في ترك امتثال الأوامر قتل ومن داهن على أخيه أو أبيه أو من يكرم أو المقدم عليه قتل وكل من شك في عصمته قتل أو شك في أنه المهدي المبشر به وكل من خالف أمره أمر اصحابه فعروه فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ كما أنه كان من رأيه أن لا يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرا على الإمامة أو الخطابة وكذلك لبس الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حلالا ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلاة خلف خطيب أغمات بذلك السبب فقدم خطيب آخر في ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك الصلاة خلفه
وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية قال العلماء : وهو بدعة ظهرت في الشريعة بعد المائتين ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله
وذكر في كتاب الإمامة أنه هو الإمام وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم :
[ بدىء الإسلام غريبا وسيعود كما بديء فطوبى للغرباء ] وقال في الكتاب المذكور : جاء الله بالمهدي وطاعته صافية نقية لم ير مثلها قبل ولا بعد وأن به قامت السموات والأرض وبه تقوم ولا ضد له ولا مثل ولا ند انتهى وكذب فالمهدي عيس عليه السلام
وكان يأمرهم بلزوم الحزب بعد صلاة الصبح وبعد المغرب فأمر المؤذنين إذا طلع الفجر أن ينادوا : أصبح ولله الحمد إشعارا ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع لإلزام الطاعة ولحضور الجماعة وللغدو لكل ما يؤمرون به
وله اختراعات وابتداعات غير ما ذكرنا وجميع ذلك إلى أنه قائل برأيه في العبادات والعادات مع زعمه أنه قائل بالرأي وهو التناقض بعينه فقد ظهر إذن جريان تلك الأشياء على الابتداع
وأما كون الزكاة مغرما فالمغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات كان الولاة يلزمونها الناس بشيء معلوم من غير نظر إلى قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره بل يأخذونهم بها على كل حال إلى الموت وكون هذا بدعة ظاهر
وأما ارتفاع الأصوات في المساجد فناشىء عن بدعة الجدال في الدين فإن من عادة قراءة العلم وإقرائه وسماعه أن يكون في المساجد ومن آدابه أن لا ترفع فيه الأصوات في غير المساجد فما ظنك به في المساجد ؟ فالجدال فيه زيادة الهوى فإنه غير مشروع في الأصل فقد جعل العلماء من عقائد الإسلام ترك المراء والجدال في الدين وهو الكلام فيما لم يؤذن في الكلام فيه كالكلام في المتشابهات من الصفات والأفعال وغيرهما وكمتشابهات القرآن ولأجل ذلك جاء في الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها قلت : [ تلا رسول الله صلى الله عليه و سلم هذه الآية : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات } قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فأحذروهم ] وفي الحديث :
[ ما ضل قوم بعد هدى إلا أوتوا الجدل ] وجاء عنه عليه السلام أنه قال : [ لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر ] وعنه عليه السلام أنه قال : [ إن القرآن يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض ما علمتم منه فاقبلوه وما لم تعلموه فكلوه إلى عالمه ] وقال عليه السلام : [ اقرؤوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه ] وخرج ابن وهب عن معاوية بن قرة قال : إياكم والخصومات في الدين فإنها تحبط الأعمال
وقال النخعي في قوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء } قال : الجدال والخصومات في الدين
وقال معن بن عيسى : انصرف مالك يوما إلى المسجد وهو متكىء على يدي فلحقه رجل يقال له أبو الجديرة يتهم بالإرجاء فقال : يا أبا عبد الله ! اسمع مني شيئا أكلمك به وأحاجك برأيي فقال له : احذر أن اشهد عليك قال : والله ما اريد إلا الحق اسمع مني فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم قال : فإن غلبتني ؟ قال : اتبعني قال : فإن غلبتك ؟ قال : اتبعتك قال : فإن جاء رجل فكلمناه فغلبناه ؟ قال : اتبعنا فقال له مالك : يا عبد الله ! بعث الله محمدا بدين واحد وأراك تنتقل
وقال عمر بن عبد العزيز : من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل
وقال مالك : ليس الجدال في الدين بشيء
والكلام في ذم الجدال كثير فإذا كان مذموما فمن جعله محمودا وعده من العلوم النافعة بإطلاق فقد ابتدع في الدين ولما كان اتباع الهوى أصل الابتداع لم يعدم صاحب الجدال أن يماري ويطلب الغلبة وذلك مظنة رفع الأصوات
فإن قيل : عددت رفع الأصوات من فروع الجدال وخواصه وليس كذلك فرفع الأصوات قد يكون في العلم ولذلك كره رفع الأصوات في المسجد وإن كان في العلم أو في غير العلم
قال ابن القاسم في المبسوط : رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتهم في المسجد
وعلل ذلك محمد بن مسلمة بعلتين : إحداهما : أنه يحب أن ينزه المسجد عن مثل هذا لأنه أمر بتعظيمه وتوقيره والثانية : انه مبني للصلاة وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار فأن يلزم ذلك في موضعها المتخذ لها أولى
وروى مالك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنى رحبه بين ناحية المسجد تسمى البطيحاء وقال : من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إلى هذه الرحبة فإذا كان كذلك فمن أين يدل ذم رفع الصوت في المسجد على الجدل المنهي عنه ؟
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن رفع الصوت من خواص الجدل المذموم أعني في أكثر الأمر دون الفلتات لأن رفع الصوت والخروج عن الاعتدال فيه ناشىء عن الهوى في الشيء المتكلم فيه واقرب الكلام الخاص بالمسجد إلى رفع الصوت الكلام فيما لم ياذن فيه وهو الجدال الذي نبه عليه الحديث المتقدم
وأيضا لم يكثر الكلام جدا في نوع من أنواع العلم في الزمان المتقدم إلا في علم الكلام وإلى غرضه تصويب سهام النقد والذم فهو إذا هو وقد روي عن عميرة بن أبي ناجية المصري أنه رأى قوما يتعارون في المسجد وقد علت أصواتهم فقال : هؤلاء قوم قد ملوا العبادة وأقبلوا على الكلام اللهم أمت عميرة فمات من عامة ذلك في الحج فرأى رجل في النوم قائلا يقول : مات في هذه الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة فجاء موت عميرة هذا
والثاني : أنا لو سلمنا أن مجرد رفع الأصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عد كأنه من الجائز في جميع أنواع العلم فصار معمولا به لا نفي ولا يكف عنه فجرى مجرى البدع المحدثات
وأما تقديم الأحداث على غيرهم فمن قبيل ما تقدم في كثرة الجهال وقلة العلم كان ذلك التقديم في ريب العلم أو غيره لأن الحدث أبدا أو في غالب الأمر غر لم يتحنك ولم يرتض في صناعة رياضة تبلغه مبالغ الراسخين الأقدام في تلك الصناعة ولذلك قالوا في المثل :
( وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس )
هذا إن حملنا على حداثة السن وهو نص في ابن مسعود رضي الله عنه فإن حملناه على حدثان العهد بالصناعة ويحتمله قوله : [ وكان زعيم القوم أرذلهم ] وقوله : [ وساد القبيلة فاسقهم ] وقوله : [ إذا أسند الأمر إلى غير أهله ] فالمعنى فيها واحد فإن الحديث العهد بالشيء لا يبلغ مبالغ القديم العهد فيه
ولذلك يحكى عن الشيخ أبي مدين أنه سئل عن الأحداث الذين نهى شيوخ الصوفية عنهم فقال : الحدث الذي لم يستكمل الأمر بعد وإن كان ابن ثمانين سنة
فإذا تقديم الأحداث على غيرهم من باب تقديم الجهال على غيرهم ولذلك قال فيهم : [ سفهاء الأحلام ] وقال : [ يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ] إلى آخره وهو منزل على الحديث الآخر في الخوارج :
[ إن من ضئضيء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] إلى آخر الحديث يعني أنهم لم يتفقهوا فيه فهو في ألسنتهم لا في قلوبهم
وأما لعن آخر هذه الأمة أولها فظاهر مما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة فإن الكاملية من الشيعة كفرت الصحابة رضي الله عنهم حين لم يصرفوا الخلافة إلى علي رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم وكفرت عليا رضي الله عنه حين لم يأخذ بحقه فيها
قا ل مصعب الزبيري و ابن نافع : دخل هارون ( يعني الرشيد ) المسجد فركع ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه و سلم فسلم عليه ثم أتى مجلس مالك فقال : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ثم قال ل مالك : هل لمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في الفيء حق ؟ قال : لا ! ولا كرامة ولا مسرة قال : من أين قلت ذلك ؟ قال : قال الله عز و جل : { ليغيظ بهم الكفار } فمن عابهم فهو كافر ولا حق لكافر في الفيء
واحتج مرة أخرى في ذلك بقوله تعالى : { للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم } إلى آخر الآيات الثلاث قال : فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم الذين هاجروا معه وأنصاره { والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } فمن عدا هؤلاء فلا حق لهم فيه وفي فعل خواص الفرق من هذا المعنى كثير
وأما بعث الدجالين فقد كان ذلك جملة منهم من تقدم في زمان بني العباس وغيرهم ومنهم معد من العبيدية الذين ملكوا إفريقية فقد حكى عنه أنه جعل المؤذن يقول : أشهد أن معدا رسول الله عوضا من كلمة الحق أشهد أن محمدا رسول الله فهم المسلمون بقتله ثم رفعوه إلى معد ليروا هل هذا عن أمره ؟ فلما انتهى كلامهم إليه قال : أردد عليهم أذانهم لعنهم الله
ومن يدعي لنفسه العصمة فهو شبه من يدعي النبوة ومن يزعم أنه به قامت السموات والأرض فقد جاوز دعوى النبوة وهو المغربي المتسمي بالمهدي
وقد كان في الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة واستظهر عليها بأمور موهمة للكرامات والإخبار بالمغيبات ومخيلة لخوارق العادات تبعه على ذلك من العوام جملة ولقد سمعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس ـ وهو مالقة ـ آخذا ينظر في قوله تعالى : { وخاتم النبيين } وهل يمكن تأويله ؟ وجعل يطرق إليه الاحتمالات ليسوغ إمكان بعث نبي بعد محمد صلى الله عليه و سلم وكان مقتل هذا المفتري على يد شيخ شيوخنا أبي جعفر بن الزبير رحمه الله
ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال : حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب قال : لما أمر بالتأهب يوم قتله وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه جهر بتلاوة سورة يس فقال أحد الذعرة ممن جمع السجن بينهما : اقرأ قرآنك لي شيء تنفصل على قرآننا اليوم ؟ أو في معنى هذا فتركها مثلا بلوذعيته
وأما مفارقة الجماعة فبدعتها ظاهرة ولذلك يجازي مفارقتها بالميتة الجاهلية
وقد ظهر في الخوارج وغيرهم ممن سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم
فهذه ايضا من جملة ما اشتملت عليه تلك الأحاديث وباقي الخصال المذكورة عائد إلى نحو آخر ككثرة النساء وقلة الرجال وتطاول الناس في البنيان وتقارب الزمان
فالحاصل أن أكثر الحوادث التي أخبر بها النبي صلى الله عليه و سلم من أنها تقع وتظهر وتنتشر أمور مبتدعة على مضاهاة التشريع لكن من جهة التعبد لا من جهة كونها عادية وهو الفرق بين المعصية التي هي بدعة والمعصية التي هي ليست ببدعة
وأن العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة وحصل بذلك اتفاق القولين وصار المذهبان مذهبا واحدا وبالله التوفيق
فصل فإن قيل : أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع فإن قيل : أما الابتداع بمعنى أنه نوع من التشريع على وجه التعبد في العاديات من حيث هو توقيت معلوم معقول فإيجابه أو إجازته بالرأي ـ كما تقدم من أمثلة بدع الخوارج ومن داناهم من الفرق الخارجية عن الجادة ـ فظاهر
ومن ذلك القول بالتحسين والتقبيح العقلي والقول بترك العمل بخبر الواحد وما أشبه ذلك
فالقول بأنه بدعة قد تبين وجهه واتضح مغزاه وإنما يبقى وجه آخر يشبهه وليس به وهو أن المعاصي والمنكرات والمكروهات قد تظهر وتفشو ويجري العمل بها بين الناس على وجه لا يقع لها إنكار من خاص ولا عام فما كان منها هذا شأنه : هل يعد مثله بدعة أم لا ؟
فالجواب : أن مثل هذه المسألة لها نظران :
أحدهما : نظر من حيث وقوعها واعتقادا في الأصل فلا شك أنها مخالفة لا بدعة إذ ليس من شرط كون الممنوع والمكروه غير بدعة أن لا ينشرها ولا يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر بل لا تزول المخالفة ظهرت أو لا واشتهرت أم لا وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه لا يؤثر في واحدة منهما والمبتدع قد يقام عن بدعة والمخالف قد يدوم على مخالفته إلى الموت عياذا بالله
والثاني : نظر من جهة ما يقترن بها من خارج فالقرائن قد تقترن فتكون سببا في مفسدة حالية وفي مفسدة مالية كلاهما راجع إلى اعتقاد البدعة
أما الحالية فبأمرين :
الأول : أن يعمل بها الخواص من الناس عموما وخاصة العلماء خصوصا وتظهر من جهتهم وهذه مفسدة في الإسلام ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالها واستجازتها لأن العالم المنتصب مفتيا للناس بعمله كما هو مفت بقوله فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بمخالفته حصل في اعتقادهم جوازه ويقولون : لو كان ممنوعا أو مكروها لامتنع منه العالم
هذا وإن نص على منعه أو كراهته فإن عمله معارض لقوله فإما أن يقول العامي : إن العالم خالف بذلك ويجوز عليه مثل ذلك وهم عقلاء الناس وهم الأقلون
وإما أن يقول : إنه وجد فيه رخصة فإنه لو كان كما قال لم يأت به فيرجح بين قوله وفعله والفعل أغلب من القول في جهة التأسي ـ كما تبين في كتاب الموافقات ـ فيعمل العامي بعمل العالم تحسينا للظن به فيعتقده جائزا وهؤلاء هم الأكثرون
فقد صار عمل العالم عند العامي حجة كما كان قوله حجة على الإطلاق والعموم في الفتيا فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الجواز بشبهة دليل وهذا عين البدعة
بل لقد وقع مثل في طائفة ممن تميز عن العامة بانتصاب في رتبة العلماء فجعلوا العمل ببدعة الدعاء بهيئة الاجتماع في آثار الصلوات وقراءة الحزب حجة في جواز العمل بالبدع في الجملة وأن منها ما هو حسن وكان منهم من ارتسم في طريقة التصوف فأجاز التعبد لله بالعبادات المبتدعة واحتج بالحزب والدعاء بعد الصلاة كما تقدم
ومنهم من اعتقد أنه ما عمل به إلا لمستند فوضعه في كتاب وجعله فقها كبعض أماريد الرس ممن قيد على الأمة ابن زيد
وأصل جميع ذلك سكوت الخواص عن البيان والعمل به على الغفلة ومن هنا تسشنع زلة العالم فقد قالوا : ثلاث تهدم الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة ضالون
وكل ذلك عائد وباله على العالم وزلله المذكور عند العلماء يحتمل وجهين :
أحدهما : زلله في النظر حتى يفتي بما خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه وذلك الفتيا بالقول
والثاني : من قسمي المفسدة الحالية أن يعمل بها العوام وتشيع فيهم وتظهر فلا ينكرها الخواص ولا يرفعون لها رؤوسهم وهم قادرون على الإنكار فلم يفعلوا فالعامي من شأنه إذا رأى أمرا يجهل حكمه يعمل العامل به فلا ينكرها عليه اعتقد أنه جائز وأنه حسن أو أنه مشروع بخلاف ما إذا أنكر عليه فإنه يعتقد أنه عيب أو أنه غير مشروع أو أنه ليس من فعل المسلمين هذا أمر يلزم من ليس بعالم بالشريعة لأن مستنده الخواص واعلماء في الجائز مع غير الجائز
فإذا عدم الإنكار ممن شأنه الإنكار مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف المنكر ووجوده القدرة عليه فلم يفعل دل عند العوام على أنه فعل جائز لا حرج فيه فنشأ فيه هذا الاعتقاد الفاسد بتأويل يقنع بمثله من كان من العوام فصارت المخالفة بدعة كما في القسم الأول
وقد ثبت في الأصول أن العالم في الناس قائم مقام النبي عليه الصلاة و السلام والعلماء ورثة الأنبياء فكما أن النبي صلى الله عليه و سلم يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره كذلك وارثة يدل على الأحكام بقوله وفعله وإقراره واعتبر ذلك ببعض ما أحدث في المساجد من الأمور المنهي عنها فلم ينكرها العلماء أو عملوا بها فصارت بعد سننا ومشروعات كزيادتهم مع الآذان : اصبح ولله الحمد و الوضوء للصلاة و تأهبوا ودعاء المؤذنين بالليل في الصوامع وربما احتجوا على ذلك بما يفعله بعض الناس وبما وضع في نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه وقد قيدنا في ذلك جزءا مفردا فمن أراد الشفاء في المسألة فعليه به وبالله التوفيق
وخرج أبو داود عن [ أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال ] :
[ إهتم النبي صلى الله عليه و سلم للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل : انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا فلم يعجبه ذلك ـ قال ـ فذكر له القنع يعني الشبور وفي رواية شبور اليهود فلم يعجبه وقال : هو من أمر اليهود قال : فذكر له الناقوس فقال : هو من أمر النصارى فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم فأري الأذان في منامه ] إلى آخر الحديث
وفي مسلم عن أنس بن مالك أنه قال :
ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه فذكروا أن ينوروا نارا أو يضربوا ناقوسا فأمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة والقنع والشبور ـ هو البوق ـ وهو القرن الذي وقع في حديث ابن عمر رضي الله عنهما
فأنت ترى كيف كره النبي صلى الله عليه و سلم شأن الكفار فلم يعمل على موافقته فكان ينبغي لمن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك في المساجد إعلاما بالأوقات أو غير إعلام بها أما الراية فقد وضعت إعلاما بالأوقات وذلك شائع في بلاد المغرب حتى إن الأذان معها قد صار في حكم التبع
وأما البوق فهو العلم في رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الإفطار ثم هو علم أيضا بالمغرب والأندلس على وقت السحور ابتداء وانتهاء والحديث قد جعل علما لانتهاء نداء ابن أم مكتوم قال ابن شهاب : وكان ابن أم مكتوم رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت
وفي مسلم و أبي داود :
[ لا يمنعن أحدكم نداء بلال من سحوره فإنه يؤذن ليرجع قائمكم ويوقظ نائمكم ] الحديث فقد جعل أذان بلال لأن ينتبه النائم لما يحتاج إليه من سحوره وغيره فالبوق ما شأنه ؟ وقد كرهه عليه الصلاة و السلام ومثله النار التي ترفع دائما في أوقات الليل وبالعشاء والصبح في رمضان أيضا إعلاما بدخوله فتوقد في داخل المسجد ثم في وقت السحور ثم ترفع في المنار إعلاما بالوقت والنار شعار المجوس في الأصل
قال ابن العربي : أول من اتخذ البخور في المسجد بنو برمك يحيى بن خالد ومحمد بن خالد ـ ملكهما الوالي أمر الدين فكان محمد بن خالد حاجبا ويحيى وزيرا ثم ابنه جعفر بن يحيى ـ قال ـ وكانوا باطنية يعتقدون آراء الفلاسفة فأحيوا المجوسية واتخذوا البخور في المساجد ـ وإنما تطيب بالخلوق ـ فزادوا التجمير ويعمرونها بالنار منقولة حتى يجعلونها عند الأندلس ببخورها ثابتة انتهى
وحاصلة أن النار ليس إيقادها في المساجد من شأن السلف الصالح ولا كانت مما تزين بها المساجد البتة ثم أحدث التزيين بها حتى صارت من جملة ما يعظم به رمضان واعتقد العامة هذا كما اعتقدوا طلب البوق في رمضان في المساجد حتى لقد سأل بعض عنه : أهو سنة أم لا ؟ ولا يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه الأمور مشروعة على الجملة في المساجد وذلك بسبب ترك الخواص الإنكار عليهم
وكذلك أيضا لما لم يتخذ الناقوس للإعلام حاول الشيطان فيه بمكيدة أخرى فعلق بالمساجد واعتد به في جملة الالآت التي توقد عليها النيران وتزخرف بها المساجد زيادة إلى زخرفتها بغير ذلك كما تزخرف الكنائس والبيع
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ذكر النووي أنها من البدع القبيحة وأنها ضلالة فاحشة جمع فيها أنواع من القبائح منها إضاعة المال في غير وجهه ومنها إظهار شعائر المجوس ومنها اختلاط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ومنها تقديم دخول عرفة قبل وقتها المشروع ا هـ
وقد ذكر الطرطوشي في إيقاد المساجد في رمضان بعض هذه الأمور وذكر أيضا قبائح سواها فأين هذا كله من إنكار مالك لتنحنح المؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر أو وضع الرداء ؟ وهو أقرب مراما وأيسر خطبا من أن تنشأ بدع محدثات يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والخواص عن الإنكار وسبب عملهم بها
وأما المفسدة المالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملين بحكم المخالفة وأنها قد ينشأ الصغير على رؤيتها وظهورها ويدخل في الإسلام أحد ممن يراها شائعة ذائعة فيعتقدونها جائزة أو مشروعة لأن المخالفة إذا فشا في الناس فعلها من غير إنكار لم يكن عند الجاهل بها فرق بينها وبين سائر المباحات أو الطاعات
وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة في أسواق المسلمين لعملهم بالربا فكل من يراهم من العامة صيارف وتجارا في أسواقنا من غير إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك وأنت ترى مذهب مالك المعروف في بلادنا أن الحلي المصنوع من الذهب والفضة لا يجوز بيعه بجنسه إلا وزنا بوزن ولا اعتبار بقيمة الصياغة أصلا والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا قيمة الصياغة أو إجارتها ويعتقدون أن ذلك جائز لهم ولم يزل العلماء من السلف الصالح ومن بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الأشياء حتى كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو أشد من ترك السنن وأولى أن يتركوا المباحات أن لا يعتقد فيها أمر ليس بمشروع وقد مر بيان هذا في باب البيان من كتاب الموافقات فقد ذكروا أن عثمان رضي الله عنه كان لا يقصر في السفر فيقال له : أليس قد قصرت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فيقول : بلى ولكني إمام الناس فينظر إلي الأعراب وأهل البادية أصلي ركعتين فيقولون : هكذا فرضت
قال الطرطوشي : تأملوا رحمكم الله ! فإن في القصر قولين لأهل الإسلام :
منهم من يقول : فريضة ومن أتم فإنما يتم ويعيد أبدا
ومنهم من يقول : سنة يعيد من أتم في الوقت ثم اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لما خاف من سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان
وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون ( يعني أنهم لا يلتزمون الأضحية )
قال حذيفة بن أسد : شهدت أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة
وقال بلال : لا أبالي أن أضحي بكبشين أو بديك
وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يشتري لحما بدرهم يوم الأضحى ويقول لعكرمة : من سألك فقل هذه أضحية ابن عباس
وقال ابن مسعود : إني لأترك أضحيتي ـ وإني لمن أيسركم ـ مخافة أن يظن أنها واجبة
وقال طاوس : ما رأيت بيتا أكثر لحما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس يذبح وينحر كل يوم ثم لا يذبح يوم العيد وإنما يفعل ذلك لئلا يظن الناس أنها واجبة وكان إماما يقتدى به
قال الطرطوشي : والقول في هذا كالذي قبله وإن لأهل الإسلام قولين في الأضحية أحدهما سنة والثاني واجبة ثم اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرا من أن يضع الناس الأمر على غير وجهة فيعتقدونها فريضة
قال مالك في الموطأ في صيام ستة بعد الفطر من رمضان : إنه لم ير أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ـ قال ـ ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق أهل الجهالة والجفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم ورأوهم يقولون ذلك
فكلام مالك هنا ليس فيه دليل على أنه لم يحفظ الحديث كما توهم بعضهم بل لعل كلامه مشعر بأنه يعلمه لكنه لم ير العمل عليه وإن كان مستحبا في الأصل لئلا يكون ذريعة لما قال كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في الأضحية وعثمان في الإتمام في السفر
وحكى الماوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان الأصل فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا في الصحن من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب لأنه كان مفروشا فأمر زياد بإلقاء الحصا في صحن المسجد وقال : لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغير إذا نشأ أن مسح الجبهة من أثر السجود سنة في الصلاة وهذا في مباح فكيف به في المكروه أو الممنوع ؟
ولقد بلغني في هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالإسلام أنه قال في الخمر : ليست بحرام ولا عيب فيها وإنما العيب أن يفعل بها ما لا يصلح كالقتل وشبهه
وهذا الاعتقاد لو كان ممن نشأ في الإسلام كان كفرا لأنه إنكار لما علم من دين الأمة ضرورة وبسبب ذلك ترك الإنكار من الولاة على شاربها والتخلية بينهم وبين اقتنائها وشهرته بحارة أهل الذمة فيها وأشباه ذلك
ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا وليس بمشروع وهذا الحال متوقع أو واقع فقد حكى القرافي عن العجم ما يقتضي أن الستة الأيام من شوال ملحقة عندهم برمضان لإبقائهم حالة رمضان الخاصة به كما هي إلى تمام الستة الأيام وكذلك وقع عندنا مثله وقد مر في الباب الأول
وجميع هذا منوط إثمه بمن يترك الإنكار من العلماء أو غيرهم أو من يعمل ببعضها بمرآى من الناس أو في مواقعهم فإنهم الأصل في انتشار هذه الاعتقادات في المعاصي أو غيرها
وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه
أحدها : وهو أظهر الأقسام ـ أن يخترعها المبتدع
والثاني : أن يعمل بها العالم على وجه المخالفة فيفهمها الجاهل مشروعة
والثالث : أن يعمل بها الجاهل مع سكوت العالم عن الإنكار وهو قادر عليه فيفهم الجاهل أنها ليست بمخالفة
والرابع : من باب الذرائع وهي أن يكون العمل في أصله معروفا إلا أنه يبتدل الاعتقاد فيه مع طول العهد بالذكرى
إلا أن هذه الأقسام ليست على وزان واحد ولا يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ بل هي في القرب والبعد على تفاوت فالأول هو الحقيق باسم البدعة فإنها تؤخذ علة بالنص عليها ويليه القسم الثاني فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول بل قد يكون أبلغ منه في مواضع ـ كما تبين في الأصول ـ غير أنه لا ينزل ها هنا من كل وجه منزلة الدليل أن العالم قد يعمل وينص على قبح عمله ولذلك قالوا : لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله بصدقك وقال الخليل بن أحمد أو غيره :
( اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري )
ويليه القسم الثالث فإن ترك الإنكار ـ مع أن رتبة المنكر رتبة من بعد ذلك منه إقرارا ـ يقتضي أن الفعل غير منكر ولكن يتنزل منزلة ما قبله لأن الصوارف للقدرة
كثيرة قد يكون الترك لعذر بخلاف الفعل فإنه لا عذر في فعل الإنسان بالمخالفة مع علمه بكونه مخالفة
ويليه القسم الرابع لأن المحظور الحالي فيما تقدم غير واقع فيه بالعرض فلا تبلغ المفسدة المتوقعة أن تساوي رتبة الواقعة أصلا فلذلك كانت من باب الذرائع فهي إذا لم تبلغ أن تكون في الحال بدعة فلا تدخل بهذا النظر تحت حقيقة البدعة
وأما القسم الثاني والثالث فالمخالفة فيه بالذات والبدعة من خارج إلا أنها لازمة لزوما عاديا ولزوم الثاني أقوى من لزوم الثالث والله أعلم
الباب الثامن : في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والإستحسان هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ونسبوها إلى الصحابة والتابعين وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات وقم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضام على قارىء واحد
وأيضا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص
وإذا ثبت هذا فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا فاعتبار البدع المستحسنة حق لأنهما يجريان من واد واحد وإن لم يكن اعتبار البدع حقا لم يصح اعتبار المصالح المرسلة
وأيضا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل وذهب مالك إلى اعتبار ذلك وبنى الأحكام عليه على الإطلاق وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح لكن يشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني
وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله لكن بشرط قال : ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد واختلف قوله في الرتبة المتوسطة وهي رتبة الحاجي فرده في المستصفى وهو آخر قوليه وقبله في شفاء العليل كما قل ما قبله وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله فالأقوال خمسة فإذا الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاجتماع لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها لإجتماعهم عليها
وكذلك القول في الاستحسان فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل والنافي له لا يعد الاستحسان سببا فلا يعتبر في الأحكام البتة فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها
فلما كان هذا الموضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر بحول الله والله الموفق فنقول :
المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام :
أحدها : أن يشهد الشرع بقبوله فلا إشكال في صحته ولا خلاف في أعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها
والثاني : ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضي الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التسحين العقلي بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين
ومثال ما حكى الغزالي عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلاطين فسأله عن الوقاع في نهار رمضان فقال : عليك صيام شهرين متتابعين فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له : القادر على اعتاق الرقبة كيف يعدل له إلى الصوم والصوم وظيفة المعسرين وهذا الملك يملك عبيدا غير محصورين ؟ فقال لهم : لو قلت له عليك إعتاق رقبة لا ستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا فلا يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعين
فهذا المعنى مناسب لأن الكفارة مقصود الشرع منها الزجر والملك لا يزجره الإعتاق ويزجره الصيام وهذه الفتيا باطلة لأن العلماء بين قائلين : قائل بالتخيير وقائل بالترتيب فيقدم العتق على الصيام فتقديم الصيام بالنسبة إلى الغني لا قائل به على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا لكنه على صريح الفقه
قال يحيى بن بكير : حنث الرشيد في يمين فجمع العلماء فأجمعوا أن عليه عتق رقبة فسأل مالكا فقال : صيام ثلاثة أيام واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة
حكى ابن بشكوال أن الحكم أمير المؤمنين أرسل في الفقهاء وشاورهم في مسألة نزلت به فذكر لهم عن نفسه أنه عمد إلى إحدى كرائمه ووطئها في رمضان فأفتوا بالإطعام و إسحاق بن إبرهيم ساكت فقال له أمير المؤمنين : ما يقول الشيخ في فتوى أصحابه ؟ فقال له : لا أقول بقولهم وأقول بالصيام فقيل له : أليس مذهب مالك الإطعام ؟ فقال لهم : تحفظون مذهب مالك إلا أنكم تريدون مصانعة أمير المؤمنين إنما أمر بالإطعام لمن له مال وأمير المؤمنين لا مال له إنما هو مال بيت المسلمين فأخذ بقوله أمير المؤمنين وشكر له عليه ا هـ وهذا صحيح
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحمن بن الحكم مثل هذا في رمضان فسأل الفقهاء عن توبته من ذلك وكفارته فقال يحيى بن يحيى : يكفر ذلك صيام شهرين متتابعين فلما برز ذلك من يحيى سكت سائر الفقهاء حتى خرجوا من عنده فقالوا ليحيى : ما لك لم تفته بمذهبنا عن مالك من أنه مخير بين العتق والطعام والصيام ؟ فقال لهم : لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق رقبة ولكن حملته على أصعب الأمور لئلا يعود
فإن صح هذا عن يحيى بن يحيى رحمه الله وكان كلامه على ظاهره كان مخالفا للإجماع
والثالث : ما سكتت عنه الشواهد الخاصة فلم تشهد باعتباره ولا بإلغائه فهذا على وجهين :
أحدهما : أن يرد نص على وفق ذلك المعنى كتعليل منع القتل للميراث فالمعاملة بنقيض المقصود تقدير إن لم يرد نص على وفقه فإن هذه العلة لا عهد بها في تصرفات الشرع بالفرض ولا بملائمها بحيث يوجد لها جنس معتبر فلا يصح التعليل بها ولا بناء الحكم عليها باتفاق ومثل هذا تشريع من القائل به فلا يمكن قبوله
والثاني : أن يلائم تصرفات الشرع وهو أن يوجد لذلك المعنى جنس اعتبره الشارع في الجملة بغير دليل معين وهو الاستدلال المرسل المسمى بالمصالح المرسلة ولا بد من بسطه بالأمثلة حتى يتبين وجهه بحول الله
ولنقتصر على عشرة أمثلة :
ولنقتصر على عشر أمثلة للمصالح المرسلة أحدها : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اتفقوا على جمع المصحف
أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم اتفقوا على جمع المصحف وليس ثم نص على جمعه وكتبه أيضا بل قد قال بعضهم : كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : ارسل إلي أبو بكر رضي الله عنه [ بعد ] مقتل ( أهل ) اليمامة وإذا عنده عمر رضي الله عنه قال أبو بكر : ( إن عمر أتاني فقال ) : إن القتل قد استحر بقراء القرآن يوم اليمامة وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قال : فقلت له : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال لي : هو ـ والله ـ خير
فلم يزل عمر يراجعني في لذك حتى شرح الله صدري له ورأيت فيه الذي رأى عمر
قال زيد فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك قد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه و سلم فتتبع القرآن فاجمعه قال زيد : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي من ذلك فقلت : كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير فلم يزل يراجعني في ذلك حتى شرح الله صدري للذي شرح صدريهما فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاق والعسب واللخاف ومن صدور الرجال فهذا عمل لم ينقل فيه خلاف عن أحد من الصحابة
ثم روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق في فتح أرمينية وأذربيجان فأفزعه اختلافهم في القرآن فقال لعثمان : يا أمير المؤمنين ! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة : أرسلي إلي بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها عليك فأرسلت حفصة بها إلى عثمان فأرسل عثمان إلى زيد بن ثابت وغلى عبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فأمرهم أن ينسخوا الصحف في المصاحف ثم قال للرهط القرشيين الثلاثة : ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن ثابت فاكتبوه بلسان قريش فإنه نزل بلسانهم
قال : ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف بعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف التي نسخوها ثم أمر بما سوى ذلك من القراءة في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق
فهذا أيضا إجماع آخر في كتبه وجمع الناس على قراءة لم يحصل منها في الغالب اختلاف لأنهم لم يختلفوا إلا في القراءات ـ حسبما نقله العلماء المعتنون بهذا الشأن ـ فلم يخالف في المسألة إلا عبد الله بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة المخالفة لمصاحف عثمان وقال : يا أهل العراق ! ويا أهل الكوفة : اكتموا المصاحف التي عندكم وغلوها فإن الله يقول : { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وألقوا إليه بالمصاحف فتأمل كلامه فإنه لم يخالف في جمعه وإنما خالف أمرا آخر ومع ذلك فقد قال ابن هشام : بلغني أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم
ولم يرد نص عن النبي صلى الله عليه و سلم بما صنعوا من ذلك ولكنهم رأوه مصلحة تناسب تصرفات الشرع قطعا فإن ذلك راجع إلى حفظ الشريعة والأمر بحفظها معلوم وإلى منع الذريعة للإختلاف في أصلها الذي هو القرآن وقد علم النهي عن الإختلاف في ذلك بما لا مزيد عليه
وإذا استقام هذا الأصل فاحمل عليه كتب العلم من السنن وغيرها إذا خيف عليها الاندراس زيادة على ما جاء في الأحاديث من الأمر بكتب العلم
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلا جدا إلا من النقل الجلي كما نقل ابن وضاح أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه وإلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه فأخذت نفسي بالعناء فيه عسى أن ينتفع به واضعه وقارئه وناشره وكاتبه والمنتفع به وجميع المسلمين إنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته
المثال الثاني : اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على حد شارب الخمر
اتفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم على حد شارب الخمر ثمانين وإنما مستندهم فيه الرجوع إلى المصالح والتمسك بالاستدلال المرسل قال العلماء : لم يكن فيه في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم حد مقدر وإنما جرى الزجر فيه مجرى التعزير ولما انتهى الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه قرره على طريق النظر بأربعين ثم انتهى الأمر إلى عثمان رضي الله عنه فتتابع الناس فجمع الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم فقال علي رضي الله عنه : من سكر هذى ومن هذى افترى فأرى عليه حد المفتري
ووجه إجراء المسألة على الاستدلال المرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم الأسباب في بعض المواضع مقام المسببات والمظنة مقام الحكمة فقد جعل الإيلاج في أحكام كثيرة يجري مجرى الإنزال وجعل الحافر للبئر في محل العدوان وإن لم يكن ثم مرد كالمردي نفسه وحرم الخلوة بالأجنبية حذرا من الذريعة إلى الفساد إلى غير ذلك من الفساد فرأوا الشرب ذريعة إلى الإفتراء الذي تقتضيه كثرة الهذيان فإنه أول سابق إلى السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الأدلة على إسناد الأحكام إلى المعاني التي لا أصول لها ( يعني على الخصوص به ) وهو مقطوع من الصحابة رضي الله عنهم
المثال الثالث : إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع إن الخلفاء الراشدين قضوا بتضمين الصناع قال علي رضي الله عنه : لا يصلح الناس إلا ذاك ووجه المصلحة فيه أن الناس لهم حاجة إلى الصناع وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى أحد أمرين : إما ترك الاستصناع بالكلية وذلك شاق على الخلق وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ضلك بدعواهم الهلاك والضياع فتضيع الأموال ويقل الاحتراز وتتطرق الخيانة فكانت المصلحة التضمين
هذا معنى قوله : لا يصلح الناس إلا ذاك
ولا يقال : إن هذا نوع من الفساد وهو تضمين البريء إذ لعله ما أفسده ولا فرط فالتضمين مع ذلك كان نوعا من الفساد لأنا نقول : إذا تقابلت المصلحة والمضرة فشأن العقلاء النظر إلى التفاوت ووقع التلف من الصناع من غير تسبب ولا تفريط بعيد والغالب الفوت فوت الأموال وأنها لا تستند إلى التلف السماوي بل ترجع إلى صنع العباد على المباشرة أو التفريط
وفي الحديث :
[ لا ضرر ولا ضرار ] تشهد له الأصول من حيث الجملة فإن النبي صلى الله عليه و سلم نهى عن أن يبيع حاضر لباد وقال :
[ دع الناس يرزف الله بعضهم من بعض ] وقال : [ لا تلقوا الركبان بالبيع حتى يهبط بالسلع إلى الأسواق ] وهو من باب ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة فتضمين الصناع من ذلك القبيل
المثال الرابع : أن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم إن العلماء اختلفوا في الضرب بآلتهم وذهب مالك إلى جواز السجن في التهم وإن كان السجن نوعا من العذاب ونص أصحابه على جواز الضرب وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب إذ قد يتعذر إقامة البينة فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار
فإن قيل : هذا فتح باب التعذيب البريء قيل : ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعا من الظن فالتعذيب في الغالب لا يصادف البريء وإن أمكن مصادفته فتغتفر كما اغتفرت في تضمين الصناع
فإن قيل : لا فائدة في الضرب وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال فالجواب :
إحداهما : أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة لربه وهي فائدة ظاهرة
والثانية : أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام فتقل أنواع هذا الفساد
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو الإقرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال قالوا : وهو ضعيف فقد قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين } ولكن نزله سحنون على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به فالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخؤذ به وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به
قال الغزالي بعد ما حكى عن الشافعي : أنه لا يقول بذلك وعلى الجملة فالمسألة في محل الإجتهاد ـ قال ـ ولسنا نحكم بمذهب مالك على القطع فإذا وقع النظر في تعارض المصالح كان ذلك قريبا من النظر في تعارض الأقيسة المؤثرة
المثال الخامس : إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إلى تكثير الجنود لسد الثغور وحماية الملك المتسع الأقطار وخلا بيت المال وارتفعت حاجات الجند إلى ما لا يكفيهم فللإمام إذا كان عدلا أن يوظف على الأغنياء ما يراه كافيا لهم في الحال إلى أن يظهر مال بيت المال ثم إليه النظر في توظيف وذلك على الغلات والثمار وغير ذلك كيلا يؤدي تخصيص الناس به إلى إيحاش القلوب وذلك يقع قليلا من كثير بحيث لا يحجف بأحد ولا يحصل المقصود
وإنما لم ينقل مثل هذا عن الأولين لاتساع مال بيت المال في زمانهم بخلاف زماننا فإن القضية فيه أحرى ووجه المصلحة هنا ظاهر فإنه لو لم يفعل الإمام ذلك النظام بطلب شوكة الإمام وصارت ديارنا عرضة لاستيلاء الكفار
وإنما النظام ذلك كله شوكة الإمام بعدله فالذين يحذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة يستحقرون بالإضافة إليها أموالهم كلها فضلا عن اليسير منها فإذا عورض هذا الضرر العظيم بالضرر اللاحق لهم يأخذ البعض من أموالهم فلا يتمارى في ترجيح الثاني عن الأول وهو مما يعلم من مقصود الشرع قبل النظر في الشواهد
والملائمة الأخرى أن الأب في طفله أن الوصي في يتيمه أو الكافل فيمن يكفله مأمور برعاية الأصلح له وهو يصرف ماله إلى وجوه من النفقات أو المؤن المحتاج إليها وكل ما يراه سببا لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل المال في تحصيله ومصلحة الإسلام عامة لا تتقاصر عن مصلحة طفل ولا نظر إمام المسلمين يتقاعد عن نظر واحد من الآحاد في حق محجوره
ولو وطىء الكفار أرض الإسلام لوجب القيام بالنصرة وإذا دعاهم الإمام وجبت الإجابة وفيه إتعاب النفوس وتعريضها إلى الهلكة زيادة إلى إنفاق المال وليس ذلك إلا لحماية الدين ومصلحة المسلمين
فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الكفار الذين يخاف من جهتهم فلا يؤمن من انفتاح باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت وتوقع الفساد عتيد فلا بد من الحراس
فإذا قدرنا انعدام الكفار الذين يخاف من جهتهم فلا يؤمن من انفتاج باب الفتن بين المسلمين فالمسألة على حالها كما كانت وتوقع الفساد عتيد فلا بد من الحراس
فهذه ملائمة صحيحة إلا أنها في محل ضرورة فتقدر بقدرها فلا يصح هذا الحكم إلا مع وجودها والاستقراض في الأزمات إنما يكون حيث يرجى لبيت المال دخل ينتظر أو يرتجي وأما إذا لم ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بحديث لا يغني كبير شيء فلا بد من جريان حكم التوظيف
وهذه المسألة نص عليها الغزالي في مواضع من كتبه وتلاه في صحيحها ابن العربي في أحكام القرآن له وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة الإمام وإيقاع التصرف في أخذ المال وإعطائه على الوجه المشروع
المثال السادس : أن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال إن الإمام لو أراد أن يعاقب بأخذ المال على بعض الجنايات فاختلف العلماء في ذلك حسبما ذكره الغزالي على أن الطحاوي حكى أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخ فأجمع العلماء على منعه
فأما الغزالي فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي لا عهد به في الإسلام ولا يلائم تصرفات الشرع مع هذه العقوبة الخاصة لم تتعين لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيرهما ـ قال ـ فإن قيل : فقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاطر خالد ين الوليد في ماله حتى أخذ رسوله فرد نعله وشطر عمامته قلنا : المظنون من عمر أنه لم يبتدع العقاب بأخذ المال على خلاف المألوف من الشرع وإنما ذلك لعلم عمر باختلاط ماله بالمال المستفاد من الولاية وإحاطته بتوسعته فلعله ضمن المال فرآى شطر ماله من فوائد الولاية فيكون استرجاعا للحق لا عقوبة في المال لأن هذا من الغريب الذي لا يلائم قواعد الشرع هذا ما قال ولما فعل عمر وجه آخر غير هذا ولكنه لا دليل فيه على العقوبة بالمال كما قال الغزالي
وأما مذهب مالك فإن العقوبة في المال عنده ضربان :
أحدهما : كما صوره الغزالي فلا مرية في أنه غير صحيح على أن ابن العطار في رقائقه صغى إلى إجازة ذلك فقال : في إجازة أعوان القاضي إذا لم يكن بيت مال أنها على الطالب فإن أدى المطلوب كانت الإجازة عليه ومال إليه ابن رشد ورده عليه ابن النجار القرطبي وقال : إن ذلك من باب العقوبة في المال وذلك لا يجوز على حال
والثاني : أن تكون جناية في نفس ذلك المال أو في عوضه فالعقوبة فيه عنده ثابتة فإنه قال في الزعفران المغشوش إذا وجد بيد الذي غشه : إنه يتصدق به على المساكين قل أو كثر
وذهب ابن القاسم و مطرف و ابن الماجشون إلى أنه يتصدق بما قل منه دون ما كثر وذلك محكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه أراق اللبن المغشوش بالماء ووجه ذلك التأديب للغاش وهذا التأديب لا نص يشهد له لكن من باب الحكم على الخاصة لأجل العامة وقد تقدم نظيره في مسألة تضمين الصناع
على أن أبا الحسن اللخمي قد وضع له أصلا شرعيا وذلك :
أنه عليه الصلاة و السلام أمر بإكفاء القدور التي أغليت بلحوم الحمر قبل أن تقسم
وحديث العتق بالمثلة أيضا من ذلك
ومن مسائل مالك في المسألة : إذا اشترى مسلم من نصراني خمرا فإنه يكسر على المسلم ويتصدق بالثمن أدبا للنصراني إن كان النصراني لم يقبضه وعلى هذا المعنى فرع أصحابه في مذهبه وهو كله من العقوبة في المال إلا أن وجهة ما تقدم
المثال السابع : أنه إذا طبق الحرام الأرض أنه لو طبق الحرام الأرض أو ناحية من الأرض يعسر الانتقال منها وانسدت طرق المكاسب الطيبة ومست الحاجة إلى الزيادة على سد الرمق فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة ويرتقي إلى قدر الحاجة في القوت والملبس والمسكن إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت المكاسب والأشغال ولم يزال الناس في مقاسات ذلك إلى أن يهلكوا وفي ذلك خراب الدين ولكنه لا ينتهي إلى الترفه والتنعم كما لا يقتصر على مقدار الضرورة
وهذا ملائم لتصرفات الشرع وإن لم ينص على عينه فإنه قد أجاز أكل الميتة للمضطر والدم ولحم الخنزير وغير ذلك من الخبائث المحرمات
وحكى ابن العربي الاتفاق على جواز الشبع عند توالي المخمصة وإنما اختلفوا إذا لم تتوال هل يجوز له الشبع أم لا ؟ وايضا فقد أجاوزا أخذ مال الغير عند الضرورة أيضا فما نحن فيه لا يقصر عن ذلك
وقد بسط الغزالي هذه المسألة في الإحياء بسطا شافيا جدا وذكرها في كتبه الأصولية كـ المنخول و شفاء العليل
المثال الثامن : أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد أنه يجوز قتل الجماعة بالواحد والمستند فيه المصلحة المرسلة إذ لا نص على عين المسألة ولكنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مذهب مالك و الشافعي ووجه المصلحة أن القتيل معصوم وقد قتل عمدا فإهداره داع أنه إلى خرم أصل القصاص واتخاذ الإستعانة والإشتراك ذريعة إلى السعي بالقتل إذا علم أنه لا قصاص فيه وليس أصله قتل المنفرد فإنه قاتل تحقيقا والمشترك ليس بقاتل تحقيقا
فإن قيل : هذا أمر بديع في الشرع وهو قتل غير القاتل : قلنا : ليس كذلك بل لم يقتل إلا القاتل وهم الجماعة من حيث الاجتماع عند مالك و الشافعي فهو مضاف إليهم تحقيقا إضافته إلى الشخص الواحد وإنما التعيين في تنزيل الأشخاص منزلة الشخص الواحد وقد دعت إليه المصلحة فلم يكن مبتدعا مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع في حقن الدماء وعليه يجري عند مالك قطع الأيدي باليد الواحدة وقطع الأيدي في النصاب الواجب
المثال التاسع : أن العلماء نقلوا الإتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقدإلا لمن نال رتبة الإجتهاد
إن العلماء نقلوا الاتفاق على أن الإمامة الكبرى لا تنعقد إلا لمن نال رتبة الإجتهاد والفتوى في علوم الشرع كما أنهم اتفقوا أيضا ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاة بين الناس لا يحصل إلا لمن رقي في رتبة الإجتهاد وهذا صحيح على الجملة ولكن إذا فرض خلو الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس وافتقروا إلى إمام يقدمونه لجريان الأحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء المسلمين وأموالهم فلا بد من إقامة الأمثل ممن ليس بمجتهد لأنا بين أمرين إما أن يترك الناس فوضى وهو عين الفساد والهرج وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ولا يبقى إلا فوت الإجتهاد والتقليد كاف بحسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل الإمامة وهو مقطوع به بحيث لا يفتقر في صحته وملائمته إلى شاهد
هذا وإن كان ظاهره مخالفا لما نقلوا من الإجماع في الحقيقة إنما انعقد على فرض أن لا يخلو الزمان من مجتهد فصار مثل هذه المسألة مما لم ينص عليه فصح الإعتماد فيه على المصلحة
المثال العاشر : أن الغزالي قال ببيعة المفضول مع وجود الأفضل إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل : إن رددنا في مبدأ التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها فيتعين تقديم المجتهد لأن اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره فالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها
أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد المنفك عن رتبة الإجتهاد وقامت له الشوكة وأذعنت له الرقاب بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع الشرائط وجب الإستمرار
وإن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضه لإثارة فتن واضطراب أمور لم يجز لهم خلعه والإستبدال به بل تجب عليهم الطاعة له والحكم بنفوذ ولايته وصحة إمامته لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت الإمامة تحصيلا لمزيد المصلحة في الإستقلال بالنظر والإستغناء عن التقليد وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئه الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة وتشويش النظام وتفويت أصل المصلحة في الحال ؟ تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد
قال : وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه والإستبدال به أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة
هذا ما قال وهو متجه بحسب النظر المصلحي وهو ملائم لتصرفات الشرع وإن لم يعضده نص على التعيين
وما قرره هو أصل مذهب مالك : قيل ليحيى بن يحيى : البيعة مكروهة ؟ قال : لا قيل له : فإن كانوا أئمة جور ؟ فقال : قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان وبالسيف أخذ الملك أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه
قال يحيى : والبيعة خير من الفرقة
قال : ولقد أتى مالكا العمري فقال له : يا أبا عبد الله بايعني أهل الحرمين وأنت ترى سيرة أبي جعفر فما ترى ؟ فقال له مالك : أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا ؟ فقال العمري : لا أدري قال مالك لكني أنا أدري إنما كانت البيعة ليزيد بعده فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن يكون ليزيد بد من القيام فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح فالمصلحة في الترك
وروى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول :
[ ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة ] وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه
قال ابن العربي : وقد قال ابن الخياط : إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها وأين يزيد من من ابن عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى فخلع يزيد لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه تعرض للفتنة فكيف ولا يعلم ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء الله
فصل فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي في المصالح المرسلة وتبين لك اعتبار أمور :
أحدها : الملائمة لمقاصد الشرع بحيث لا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله
والثاني : أن عامة النظر فيها إنما هو فيما غفل منها وجرى على دون المناسبات المعقولة التي إذا عرضت على العقول تلقتها بالقبول فلا مدخل لها في التعبدات ولا ما جرى مجراها من الأمور الشرعية لأن عامة التعبدات لا يعقل لها معنى على التفصيل كالوضوء والصلاة في زمان مخصوص دون غيره والحج ونحو ذلك
فيتأمل الناظر الموفق كيف وضعت على التحكم المخص المنافي للمناسبات التفصيلية
ألا ترى أن الطهارات ـ على اختلاف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مخالف جدا لما يظهر لبادي الرأي ؟ فإن البول والغائط خارجان نجسان يجب بهما تطهير أعضاء الوضوء دون المخرجين فقط ودون جميع الجسد فإذا خرج المني أو دم الحيض وجب غسل جميع الجسد دون المخرج فقط ودون أعضاء الوضوء
ثم إن التطهير واجب مع نظافة الأعضاء وغير واجب مع قذارتها بالأوساخ والأدران إذا فرض أنه لم يحدث
ثم التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الماء الذي من شأنه التنظيف
ثم نظرنا في أوقات الصلوات فلم نجد فيها مناسبة لإقامة الصلوات فيها لاستواء الأوقات في ذلك
وشرع للإعلام بها أذكار مخصوصة لا يزاد فيها ولا ينقص منها فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار أيضا ثم شرعت ركعاتها مختلفة باختلاف الأوقات وكل ركعة لها ركوع واحد وسجودان دون العكس إلا صلاة خسوف الشمس فإنها على غير ذلك ثم كانت خمس صلوات دون أربع أو ست وغير ذلك من الأعداد فإذا دخل المتطهر المسجد أمر بتحيته بركعتين دون واحدة كالموتر أو أربع كالظهر فإذا سها في صلاة سجد سجدتين دون سجدة واحدة وإذا قرأ آية سجدة سجد واحدة دون اثنتين
ثم أمر بصلاة النوافل ونهى عن الصلاة في أوقات مخصوصة وعلل النهي بأمر غير معقول المعنى
ثم شرعت الجماعة في بعض النوافل كالعيدين والخسوف والاستسقاء دون صلاة الليل ورواتب النوافل
فإذا صرنا إلى غسل الميت وجدناه لا معنى له معقولا فإنه غير مكلف ثم أمرنا بالصلاة عليه بالتكبير دون ركوع أو سجود أو تشهد والتكبير أربع تكبيرات دون اثنتين أو ست أو سبع أو غيرها من الأعداد
فإذا صرنا إلى الصيام وجدنا فيه من التعبدات غير المعقولة كثيرا كإمساك النهار دون الليل والإمساك عن المأكولات والمشروبات دون الملبوسات والمركوبات والنظر والمشي والكلام وأشباه ذلك وكان الجماع ـ وهو راجع إلى الإخراج ـ كالمأكول ـ وهو راجع إلى الضد وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ولم يكن أيام الجمع وإن كانت خير أيام طلعت عليها الشمس أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ثم الحج أكثر تعبدا من الجميع
وهكذا تجد عامة التعبدات في كل باب من أبواب الفقه ما عملوا ( ؟ ) إن في هذا الاستقراء معنى يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونحى نحوه واعتبرت جهته وهو أن ما كان من التكاليف من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الاجتهادي جملة وأن يوكل إلى واضعه ويسلم له فيه وسواء علينا أقلنا : إن التكاليف معللة بمصالح العباد أم لم نقله : اللهم إلا قليلا من مسائلها ظهر فيها معنى فهمناه من الشرع فاعتبرنا به أو شهدنا في بعضها بعدم الفرق بين المنصوص عليه والمسكوت عنه فلا حرج حينئذ فإن أشكل الأمر فلا بد من الرجوع إلى ذلك الأصل فهو العروة الوثقى للمتفقه في لاشريعة والوزر الأحمى
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي الله عنه : كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا فاتقوا الله يا معشر القراء وخذوا بطريق من كان قبلكم ونحوه لابن مسعود أيضا وقد تقدم من ذلك كثير
ولذلك التزم مالك في العبادات عدم الالتفات إلى المعاني وإن ظهرت لبادي الرأي وقوفا مع ما فهم من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه فلم يلتفت في إزالة الأخباث ورفع الأحداث إلى مطلق النظافة التي اعتبرها غيره حتى اشترط في رفع الأحداث النية ولم يقم غير الماء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حتى يكون بالماء المطلق وامتنع من إقامة التكبير والقراءة بالعربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء ومنع من إخراج القيم في الزكاة واختصر في الكفارات على مراعاة العدد وما أشبه ذلك
ودورانه في ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معنى مناسب ـ إن تصور ـ لقلة ذلك في التعبدات وندوره بخلاف قسم العادات الذي هو جار على المعنى المناسب الظاهر للعقول فإنه استرسل فيه استرسال المدل العريق في فهم المعاني المصلحية نعم مع مراعاة مقصود الشارع أن لا يخرج عنه ولا يناقض أصلا من أصوله حتى لقد استشنع العلماء كثيرا من وجوه استرساله زاعمين أنه خلع الربقة وفتح باب التشريع وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحمه الله بل هو الذي رضي لنفسه في فقهه بالاتباع بحيث يخيل لبعض أنه مقلد لمن قبله بل هو صاحب البصيرة في دين الله ـ حسبما بين أصحابه في كتاب سيره ـ
بل حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال : إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع وهذه غاية في الشهادة بالاتباع
وقال أبو داود : أخشى عليه البدعة ( يعني المبغض ل مالك )
وقال ابن المهدي : إذا رأيت الحجازي يحب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة وإذا رأيت أحدا يتناوله فاعلم أنه على خلاف السنة
وقال إبراهيم بن يحيى بن هشام : ما سمعت ابا داود لعن أحدا قط إلا رجلين : أحدهما : رجل ذكر له أنه لعن مالكا والآخر : بشر المريسي
وعلى الجملة فغير مالك أيضا موافق له في أن أصل العبادات عدم معقولية المعنى وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فالأصل متفق عليه عند الأمة ما عدا الظاهرية فإنهم لا يفرقون بين العبادات والعادات بل الكل غير معقول المعنى فهم أحرى بأن لا يقولوا بأصل المصالح فضلا عن أن يعتقدوا المصالح المرسلة
والثالث : أن حاصل المصالح المرسلة يرجع إلى حفظ أمر ضروري ورفع حرج لازم في الدين وأيضا مرجعها إلى حفظ الضروري من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهي إذا من الوسائل لا من المقاصد ورجوعها إلى رفع الحرج راجع إلى باب التخفيف لا إلى التشديد
أما رجوعها إلى ضروري فقد ظهر من الأمثلة المذكورة
وكذلك رجوعها إلى رفع حرج لازم وهو إما لاحق بالضروري وإما من الحاجي وعلى كل تقدير فليس فيها ما يرجع إلى التقبيح والتزيين البتة فإن جاء من ذلك شيء : فإما من باب آخر منها كقيام رمضان في المساجد جماعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود من قبيل البدع التي أنكرها السلف الصالح ـ كزخرفة المساجد والتثويب بالصلاة ـ وهو من قبيل ما يلائم
وأما كونها في الضروري من قبيل الوسائل و ما لا يتم الواجب إلا به إن نص على اشتراطه فهو شرط شرعي فلا مدخل له في هذا الباب لأن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه
وإن لم ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي فلا يلزم أن يكون شرعيا كما أنه لا يلزم أن يكون على كيفية معلومة فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغير كتب مطردا لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية يصح لنا حفظها كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة الإمامة الكبرى بغير إمام على تقدير عدم النص بها لصح ذلك وكذلك سائر المصالح الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ لم يصح أن يستنبط من بابها شيء من المقاصد الدينية التي ليست بوسائل
وأما كونها في الحاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا وهو أقوى في الدليل الرافع للحرج فليس فيه ما يدل على تشديد ولا زيادة تكليف والأمثلة مبينة لهذا الأصل أيضا
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالمضادة للمصالح المرسلة لأن موضوع المصالح المرسلة ما عقل معناه على التفصيل والتعبدات من حقيقتها أن لا يعقل معناها على التفصيل وقد مر أن العادات إذا دخل فيها الابتداع فإنما يدخلها من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق
وأيضا فإن البدع في عامة أمرها لا تلائم مقاصد الشرع بل إنما تتصور على أحد وجهين : إما منقاضة لمقصوده ـ كما تقدم في مسألة المفتي بصيام شهرين متتابعين ـ وإما مسكوتا عنه فيه كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به
وقد تقدم نقل الإجماع على اطراح القسمين وعدم اعتبارهما ولا يقال : إن المسكوت عنه يلحق بالمأذون فيه إذ يلزم من ذلك خرق الإجماع لعدم الملاءمة ولأن العبادات ليس حكمها حكم العادات في أن المسكوت عنه كالمأذون فيه إن قيل بذلك فهي تفارقها إذ لا يقدم على استنباط عبادة لا أصل لها لأنها مخصوصة بحكم الإذن المصرح به بخلاف العادات والفرق بينهما ما تقدم من اهتداء العقول للعاديات في الجملة وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إلى الله تعالى وقد أشير إلى هذا المعنى في كتاب الموافقات وإلى هذا
فإذا ثبت أن المصالح المرسلة ترجع إلى حفظ ضروري من باب الوسائل أو إلى التخفيف فلا يمكن إحداث البدع من جهتها ولا الزيادة في المندوبات لأن البدع من باب الوسائل لأنها متعبد بها بالفرض ولأنها زيادة في التكليف وهو مضادة للتخفيف
فحصل من هذا كله أن لا تعلق للمبتدع بباب المصالح المرسلة إلا القسم الملغى باتفاق العلماء وحسبك به متعلقا والله الموفق
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه لم يكل شيئا من التعبدات إلى آراء العباد فلم يبق إلا الوقوف عند ما حده والزيادة عليه بدعة كما أن النقصان منه بدعة وقد مر لهما أمثلة كثيرة وسيأتي أخيرا في إثناء الكتاب بحول الله
فصل : وأما الإستحسان فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به وأما الاستحسان فلأن لأهل البدع أيضا تعلقا به فإن الاستحسان لا يكون إلا بمستحسن وهو إما العقل أو الشرع
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما لأن الأدلة اقتضت ذلك فلا فائدة لتسميته استحسانا ولا لوضع ترجمة له زائدة على الكتاب والسنة والإجماع وما ينشأ عنها من القياس والاستدلال فلم يبق إلا العقل هو المستحسن فإن كان بدليل فلا فائدة لهذه التسمية لرجوعه إلى الأدلة لا إلى غيرها وإن كان بغير دليل فذلك هو البدعة التي تستحسن
ويشهد لذلك قول من قال في الاستحسان : إنه ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه قالوا : وهو عند هؤلاء من جنس ما يستحسن في العوائد وتميل إليه الطباع فيجوز الحكم بمقتضاه إذا لم يوجد في الشرع ما ينافي هذا الكلام ما بين أن ثم من التعبدات ما لا يكون عليه دليل وهو الذي سمى بالبدعة فلا بد أن ينقسم إلى حسن وقبيح إذ ليس كل استحسان حقا
وأيضا فقد يجري على التأويل الثاني للأصوليين في الاستحسان وهو أن المراد به دليل ينقدح في نفس المجتهد لا تساعده العبارة عنه ولا يقدر على إظهاره وهذا التأويل فالاستحسان لبعده في مجاري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غير شبهة دليل ينقدح له بل عامة البدع لا بد لصاحبها من متعلق دليل شرعي لكن قد يمكنه إظهاره وقد لا يمكنه ـ وهو الأغلب ـ فهذا مما يحتجون به
وربما ينقدح لهذا المعنى وجه بالأدلة التي استدل بها أهل التأويل الأولون وقد أتو بثلاثة أدلة :
أحدها : قول الله سبحانه : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقوله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث } وقوله تعالى : { فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } هو ما تستحسنه عقولهم
والثاني : قوله عليه الصلاة و السلام :
[ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ] وإنما يعني بذلك ما رأوه بعقولهم وإلا لو كان حسنة بالدليل الشرعي لم يكن من حسن ما يرون إذ لا مجال للعقول في التشريع على ما زعمتم فلم يكن للحديث فائدة فدل على أن المراد ما رأوه برأيهم
والثالث : أن الأمة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل ولا سبب لذلك إلا ان المشاحة في مثله قبيحة في العادة فاستحسن الناس تركه مع أنا نقطع أن الإجارة المجهولة أو مدة الاستئجار أو مقدار المشترى إذا جهل فإنه ممنوع وقد استحسنت إجارته مع مخالفة الدليل فأولى أن يجوز إذا لم يخالف دليلا
فأنت ترى أن هذا الموضع مزلة قدم أيضا لمن أراد أن يبتدع فله أن يقول : إن استحسنت كذا وكذا فغيري من العلماء استحسن وإذا كان كذلك فلا بد من فضل اعتناء بهذا الفصل حتى لا يغتر به جاهل أو زاعم أنه عالم وبالله التوفيق فنقول :
إن الاستحسان يراه معتبرا في الأحكام مالك و أبو حنيفة بخلاف الشافعي فإنه منكر له جدا حتى قال : من استحسن فقد شرع والذي يستقرىء من مذهبها أنه يرجع إلى العمل بأقوى الدليلين هكذا قال ابن العربي ـ قال ـ فالعموم إذا استمر والقياس إذا اطرد فإن مالكا و أبا حنيفة يريان تخصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معنى ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يخص بالمصلحة ويستحسن أبو حنيفة أن يخص بقول الواحد من الصحابة الوارد بخلاف القياس ـ قال ـ ويريان معا تخصيص القياس ونقص العلة ولا يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تخصيصا
هذا ما قال ابن العربي ويشعر بذلك تفسير الكرخي أنه العدول عن الحكم في المسألة بحكم نظائرها إلى خلافه لوجه أقوى
وقال بعض الحنفية : إنه القياس الذي يجب العمل به لأن العلة كانت علة بأثرها : سموا الضعيف الأثر قياسا والقوي الأثر استحسانا أي قياسا مستحسنا وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسين وهو يظهر من استقراء مسائلهم في الاستحسان بحسب النوازل الفقهية
بل قد جاء عن مالك أن الاستحسان تسعة أعشار العلم رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك قال أصبغ في الاستحسان : قد يكون أغلب من القياس وجاء عن مالك : إن المفرق في القياس يكاد يفارقه السنة
وهذا الكلام لا يمكن أن يكون بالمعنى الذي تقدم قبل وأنه ما يستحسنه المجتهد بعقله أو أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد تعسر عبارته عنه فإن مثل هذا لا يكون تسعة أعشار العلم ولا أغلب من القياس الذي هو أحد الأدلة
وقال ابن العربي في موضع آخر : الاستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الاستثناء والترخص لمعارضة ما يعارض به في بعض مقتضياته وقسمه أقساما عد منها أربعة اقسام وهي ترك الدليل للعرف وتركه للمصلحة وتركه لليسير وتركه لرفع المشقة وإيثار التوسعة
وحده غير ابن العربي من أهل المذهب بأنه عند مالك : استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ـ قال ـ فهو تقديم الاستدلال المرسل على القياس
وعرفه ابن رشد فقال : الإستحسان الذي يكثر استعماله حتى يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون طرحا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الموضع
وهذه تعريفات قريب بعضها من بعض
وإذا كان هذا معناه عن مالك و أبي حنيفة فليس بخارج عن الأدلة البتة لأن الأدلة يقيد بعضها ويخصص بعضها بعضا كما في الأدلة السنية مع القرآنية ولا يرد الشافعي مثل هذا أصلا فلا حجة في تسميته استحسانا لمبتدع على حال
ولا بد من الإتيان بأمثلة تبي المقصود بحول الله ويقتصر على عشرة أمثلة :
أحدها : أن يعدل بالمسألة عن نظائرنا بدليل الكتاب كقوله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها } فظاهر اللفظ العموم في جميع ما يتمول به وهو مخصوص في الشرع بالأموال الزكوية خاصة فلو قال قائل : مالي صدقة فظاهر لفظه يعم كل مال ولكنا نحمله على مال الزكاة لكونه ثبت الحمل عليه في الكتاب قال العلماء : وكأن هذا يرجع إلى تخصيص العموم بعادة فهم خطاب القرآن وهذا المثال أورده الكرخي تمثيلا لما قاله في الاستحسان
والثاني : أن يقول الحنفي : سؤر سباع الطير نجس قياسا على سباع البهائم وهذا ظاهر الأثر ولكنه ظاهر استحسانا لأن السبع ليس بنجس العين ولكن لضرورة تحريم لحمه فثبتت نجاسته بمجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطير لأنه يشرب بمنقاره وهو طاهر بنفسه فوجب الحكم بطهارة سؤره لأن هذا أثر قوي وإن خفي فترجع على الأول وإن كان أمره جليا والأخذ بأقوى القياسين متفق عليه
والثالث : أن أبا حنيفة قال : إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عين كل واحد غير الجهة التي عينها ( الآخر ) فالقياس أن لا يحد ولكن استحسن حده ووجه ذلك أنه لا يحد إلا من شهد عليه أربعة فإذا عين كل واحد دارا فلم يأت على كل مرتبة بأربعة لامتناع اجتماعهم على رتبة واحدة فإذا عين كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ويمكن التزاحف
فإذا قال : القياس أن لا يحد فمعناه أن الظاهر أنه لم يجتمع الأربعة على زنا واحد ولكنه يؤول في المصير إلى الأمر الظاهر تفسيق العدول فإنه إن لم يكن محدودا صار الشهود فسقه ولا سبيل إلى التفسيق ما وجدنا إلى العدول عنه سبيلا فيكون حمل الشهود على مقتضى العدالة عند الإمكان يجر ذلك الإمكان البعيد فليس هذا حكما بالقياس وإنما هو تمسك باحتمال تلقي الحكم من القرآن وهذا يرجع ـ في الحقيقة ـ إلى تحيقي مناطه
والرابع : أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف فإنه رد الأيمان إلى العرف مع أن اللغة تقتضي في ألفاظها غير ما يقتضيه العرف كقوله : والله لا دخلت مع فلان بيتأ : فهو يحنث بدخول كل موضع يسمى بيتا في اللغة والمسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك إلا أن عرف الناس أن لا يطلقوا هذا اللفظ عليه فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فلا يحنث
والخامس : ترك الدليل لمصلحة كما في تضمين الأجير المشترك وإن لم يكن صانعا فإن مذهب مالك في هذه المسألة على قولين كتضمين صاحب الحمام الثياب وتضمين صاحب السفينة وتضمين السماسرة المشتركين وكذلك حمال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ولاحق عنده بالصناع والسبب في ذلك بعد السبب في تضمين الصناع
فإن قيل : فهذا من باب المصالح المرسلة لا من باب الاستحسان قلنا : نعم ! إلا أنهم صوروا الاستحسان بصورة الاستثناء من القواعد بخلاف المصالح المرسلة ومثل ذلك يتصور في مسألة التضمين فإن الإجراء مؤتمنون بالدليل لا بالبراءة الأصلية فصار تضمينهم في حيز المستثنى من ذلك الدليل فدخلت تحت معنى الاستحسان بذلك النظر
والسادس : أنهم يحكون الإجماع على إيجاب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي يريدون غرم قيمة الدابة لا قيمة النقص الحاصل فيها ووجه ذلك ظاهر فإن بغلة القاضي لا يحتاج إليها إلا للركوب وقد امتنع ركوبه لها بسبب فحش ذلك العيب حتى صارت بالنسبة إلى ركوب مثله في حكم العدم فألزموا الفاعل غرم قيمة الجميع
وهو متجه بحسب الغرض الخاص وكان الأصل أن لا يغرم إلا قيمة ما نقصها القطع خاصة لكن استحسنوا ما تقدم
وهذا الإجماع مما ينظر فيه فإن المسألة ذات قولين في المذهب وغيره ولكن الأشهر في المذهب المالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب
والسابع : ترك مقتضى الدليل في اليسير لتفاهته ونزارته لرفع المشقة وإيثار التوسعة على الخلق فقد أجازوا التفاصيل اليسير في المراطلة الكثيرة وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدهما تابعا للآخر وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنزارة ما بينهما بينهما والأصل المنع في الجميع لما في الحديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلا بمثل سواء بسواء ولأن من زاد أو ازداد فقد أربى ووجه ذلك أن التافه في حكم العدم ولذلك لا تنصرف إليه الأغراض في الغالب وأن المشاحة في اليسير قد تؤدي إلى الحرج والمشقة وهما مرفوعان عن المكلف
والثامن : أن في العتبية من سماع أصبغ في الشريكين يطآن الأمة في طهر واحد فتأتي فتأتي بولد فينكر أحدهما الولد دون الآخر أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به فإن كان في صفته ما يمكن معه الإنزال لم يلتفت إلى إنكاره وكان كما لو اشتركا فيه وإن كان يدعي العزل من الوطء الذي أقر به فقال أصبغ : إني أستحسن ها هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا سواء فلعله غلب ولا يدري
وقد قال عمرو بن العاص في نحو هذا : إن الوكاء قد ينقلب ـ قال ـ والاستحسان ها هنا أن ألحقه بالآخر والقياس أن يكونا في العلم قد يكون أغلب من القياس ( ؟ ) ـ ثم حكى عن مالك ما تقدم ووجه ذلك ابن رشد بأن الأصل : من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لحق به وإن كان له منكرا وجب على قياس ذلك إذا كانت بين رجلين فوطئاها جميعا في طهر واحد وعزل أحدهما عنها فأنكر الولد وادعاه الآخر الذي لم يعزل عنها أن يكون الحكم في ذلك بمنزلة ما إذا كانا جميعا يعزلان أو ينزلان والاستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينزل وتبرأ منه الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل لأن الولد يكون مع الإنزال غالبا ولا يكون مع العزل إلا نادرا فيغلب على الظن أن الولد إنما هو للذي ادعاه وكان ينزل لا الذي أنكره وهو يعزل والحكم بغلبة الظن أصل في الأحكام وله في هذا الحكم تأثير فوجب أن يصار إليه استحسانا ـ كما قال أصبغ ـ وهو ظاهر فيما نحن فيه
والتاسع : ما تقدم أولا من أن الأمة استسحنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة ولا تقدير مدة اللبث ولا تقدير الماء المستعمل والأصل في هذا المنع إلا أنهم أجازوا لا كما قال المحتجون على البدع بل لأمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بخارج عن الأدلة فأما تقدير العوض فالعرف هو الذي قدره فلا حاجة إلى التقدير وأما مدة اللبث وقدر الماء المستعمل فإن لم يكن ذلك مقدرا بالعرف أيضا فإنه يسقط للضرورة إليه
وذلك لقاعدة فقهية وهي أن نفي جميع الغرر في العقود لا يقدر عليه وهو يضيق أبواب المعاملات وهو تحسيم ابواب المفاوضات ( ؟ ) ونفي الضرر إنما يطلب تكميلا ورفعا لما عسى أن يقع من نزاع فهو من الأمور المكملة والتكميلات إذا أفضى اعتبارها إلى إبطال المكملات سقطت جملة تحصيلا للمهم ـ حسبما تبين في الأصول ـ فوجب أن يسامح في بعض أنواع الغرر التي لا ينفك عنها إذ يشق طلب الانفكاك عنها فسومح المكلف بيسير الغرر لضيق الاحتراز مع تفاهة ما يحصل من الغرر ولم يسامح في كثيرة إذ ليس في محل الضرورة ولعظيم ما يترتب عليه من الخطر لكن الفرق بين القليل والكثير غير منصوص عليه في جميع الأمور وإنما نهى عن بعض أنواعه مما يعظم فيه الغرر فجعلت أصولا يقاس عليها غير القليل أصلا في عدم الاعتبار وفي الجواز وصار الكثير في حكم المنع ودار في الأصلين فروع تتجاذب العلماء النظر فيها فإذا قل الغرر وسهل الأمر وقل النزاع ومست الحاجة إلى المسامحة فلا بد من القول بها ومن هذا القبيل مسألة التقدير في ماء الحمام ومدة اللبث
قال العلماء : ولقد بالغ مالك في هذا الباب وأمعن فيه فيجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وإن كان لا ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم المشاحة وفرق بين تطرق يسير الغرر إلى الأجل فأجازه وبين تطرقه للثمن فمنعه فقال : يجوز للانسان أن يشتري سلعة إلى الحصاد أو إلى الجذاذ وإن كان اليوم بعينه لا ينضبط ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه لم يجز والسبب في التفرقة المضايقة في تعيين الأثمان وتقديرها ليست في العرف ولا مضايقة في الأجل إذ قد يسامح البائع في التقاضي الأيام ولا يسامح في مقدار الثمن على حال
ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة و السلام أمر بشراء الإبل إلى خروج المصدق وذلك لا يضبط يومه ولا يعين ساعته ولكنه على التقريب والتسهيل
فتأملوا كيف وجه الاستثناء من الإصول الثابتة بالحرج والمشقة
وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بحسب العوائد فقط ؟ فتبين لك بون ما بين المنزلتين
العاشر : أنهم قالوا : إن من جملة أنواع الإستحسان مراعاة خلاف العلماء وهو أصل في مذهب مالك ينبني عليه مسائل كثيرة
منها : أن الماء اليسير إذا حلت فيه النجاسة اليسيرة ولم تغير أحد أوصافه أنه لا يتوضأ به بل يتيمم ويتركه فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام في الوقت ولم يعد بعد الوقت وإنما قال : يعيد في الوقت مراعاة لقول من يقول : إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء وكان قياس هذا القول أن يعيد أبدا إذ لم يتوضأ إلا بماء يصح له تركه والانتقال عنه إلى التيمم
ومنها : قولهم في النكاح الفاسد الذي يجب فسخه : إن لم يتفق على فساده فيفسخ بطلاق ويكون فيه الميراث ويلزم فيه الطلاق على حده في النكاح الصحيح فإن اتفق العلماء على فساده فسخ بغير طلاق ولا يكون فيه ميراث ولا يلزم فيه طلاق
ومنها : مسألة من نسي تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وكان مع الإمام وجب أن يتمادى لقول من قال : إن ذلك يجزئه فإذا سلم الإمام أعاد هذا المأموم
وهذا المعنى كثير جدا في المذهب ووجهه أنه راعى دليل المخالف في بعض الأحوال لأنه ترجح عنده ولم يترجح عنده في بعضها فلم يراعه
ولقد كتبت في مسألة مراعاة الخلاف إلى بلاد المغرب وإلى بلاد أفريقية لإشكال عرض فيها من وجهين : أحدهما مما يخص هذا الموضع على فرض صحتها وهو ما أصلها من الشريعة وعلام تبنى من قواعد أصول الفقه ؟ فإن الذي يظهر الآن أن الدليل هو المتبع فحيثما صار صير إليه ومتى رجح للمجتهد أحد الدليلين على الآخر ـ ولو بأدنى وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه على ما هو مقرر في الأصول فإذا رجوعه ـ أعني المجتهد ـ إلى قول الغير إعمال لدليله المرجوح عنده وإهمال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلاف القواعد
فأجابني بعضهم بأجوبة منها الأقرب والأبعد إلا أني راجعت بعضهم بالبحث وهو أخي ومفيدي أبو العباس بن القباب رحمه الله عليه فكتب إلي بما نصه :
وتضمن الكتاب المذكور عودة السؤال في مسألة مراعاة الخلاف وقلتم إن رجحان إحدى الأمارتين على الأخرى أن تقديمها على الأخرى اقتضى ذلك عدم المرجوحة مطلقا واستشنعتم أن يقول المفتي هذا لا يجوز ابتداء وبعد الوقوع يقول بجوازه لأنه يصير الممنوع إذا فعل جائزا وقلتم : إنه إنما يتصور الجمع في هذا النحو في منع التنزيه لا منع التحريم إلى غير ذلك مما أوردتم في المسألة
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قريحة قياسية منكرة لطريقة الاستحسان وإلى هذه الطريقة ميل فحول من الأئمة والنظار حتى قال الإمام أبو عبد الله الشافعي : من استحسن فقد شرع
ولقد ضاقت العبارة عن معنى أصل الاستحسان ـ كما في علمكم ـ حتى قالوا : أصح عبارة فيه أنه معنى ينقدح في نفس المجتهد تعسر العبارة عنه فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه فكيف ما يبنى عليه ؟ فلا بد أن تكون العبارة عنها أضيق
ولقد كنت أقول بمثل ما قال هؤلاء الأعلام في طرح الاستحسان وما بنى عليه ولولا أنه أعتضد وتقوى لوجدانه كثيرا في فتاوى الخلفاء وأعلام الصحابة وجمهورهم مع عدم النكير فتقوى ذلك عندي غاية وسكنت إليه النفس وانشرح إليه الصدر ووثق به القلب فلأمر باتباعهم والاقتداء بهم رضي الله عنهم
فمن ذلك المرأة يتزوجها رجلان ولا يعلم الآخر بتقدم نكاح غيره إلا بعد البناء فأبانها عليه بذلك عمر ومعاوية والحسن رضي الله عنهم وكل ما أوردتم في قضية السؤال وأرد عليه فإنه إذا تحقق أن الذي لم يبن هو الأول فدخول الثاني بها دخول بزوج غيره وكيف يكون غلطة على زوج غيره مبيحا على الدوام ومصححا لعقده الذي لم يصادف محلا ومبطلا لعقد نكاح مجمع على صحته لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا ؟ وإنما المناسب أن الغلط يرفع عن الغالط الإثم والعقوبة لا إباحة زوج غيره دائما ومنع زوجها منها
ومثل ذلك ما قاله العلماء في مسألة امرأة المفقود : أنه إن قدم المفقود قبل نكاحها فهو أحق بها وإن كان بعد نكاحها والدخول بها بانت وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولان فإنه يقال : الحكم لها بالعدة من الأول إن كان قطعا لعصمته فلا حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها أو ليس بقاطع للعصمة فكيف تباح لغيره في عصمة المفقود ؟
وما روي عن عمر وعثمان في ذلك أغرب وهو أنهما قالا : إذا قدم المفقود يخير بين امرأته أو صداقها فإن اختار صداقها بقيت للثاني فأين هذا من القياس ؟ وقد صحح ابن عبد البر هذا النقل عن الخليفتين عمر وعثمان رضي الله عنهما ونقل عن علي رضي اله عنه أنه قال بمثل ذلك أو أمضى الحكم به وإن كان الأشهر عنه خلافه ومثله في قضايا الصحابة كثير من ذلك
قال ابن المعدل لو أن رجلين حضرهما وقت الصلاة فقام أحدهما فأوقع الصلاة بثوب نجس مجانا ( ؟ ) وقعد الآخر حتى خرج الوقت ولا يقاربه ( ؟ ) مع نقل غير واحد من الأشياخ الإجماع على وجوب النجاسة ( ؟ ) عامدا جمع الناس أنه لا يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلاة وممن نقله اللخمي و المازري وصححه الباجي وعليه مضى عبد الوهاب في تلقينه
وعلى الطريقة التي أوردتم أن المنهي عنه ابتداء غير معتبر ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلين بعكس ما قال ابن المعدل لأن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه والآخر لم يعمل كما أمر ولا قضى شيئا وليس كل منهي عنه ابتداء غير معتبر بعد وقوعه
وقد صحح الدارقطني حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها فإن الزانية هي التي تزوج نفسها ] وأخرج أيضا من حديث عائشة رضي الله عنها : [ أيما امرأة نكحت بغيرإذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلاث مرات ـ فإن دخل بها فالمهر لها بما أصاب منها ] فحكم أولا ببطلان العقد وأكده بالتكرار ثلاثا وسماه زنا وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جملة لكنه صلى الله عليه و سلم عقبة بما اقتضى اعتباره بعد الوقوع بقوله : [ ولها مهرها بما أصاب منها ومهر البغي حرام ]
وقد قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } فعلل النهي عن استحلاله بابتغائهم فضل الله ورضوانه مع كفرهم بالله تعالى الذي لا يصح معه عبادة ولا يقبل عمل وإن كان هذا الحكم الآن منسوخا فذلك لا يمنع الاستدلال به في هذا المعنى
ومن ذلك قول الصديق رضي الله عنه : وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له ولهذا لا يسبى الراهب وترك له ماله أو ما قل منه على الخلاف في ذلك وغيره ممن لا يقاتل يسبى ويملك وإنما ذلك لما زعم أنه حبس نفسه له وهي عبادة الله تعالى وإن كانت عبادته أبطل الباطل فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي لا يقطع بخطأ فيه وإن كان يظن ذلك ظنا وتتبع مثل هذا يطول
وقد اختلف فيما تحقق فيه نهي من الشارع : هل يقتضي فساد المنهي عنه ؟ وفيه بين الفقهاء والأصوليين ما لا يخفى عليكم فكيف بهذا ؟
وإذا خرجت المسألة المخلف فيها إلى أصل مختلف فيه فقد خرجت عن حيز الإشكال ولم يبق إلا الترجيح لبعض تلك المسائل ويرجح كل أحد ما ظهر له بحسب ما وفق له ولنكتف بهذا القدر في هذه المسألة
انتهى ما كتب لي به وهو بسط أدلة شاهدة لأصل الاستحسان فلا يمكن مع هذا التقرير كله أن يتمسك به من أراد أن يستحسن بغير دليل أصلا
فصل : فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به فإذا تقرر هذا فلنرجع إلى ما احتجوا به أولا : فأما من حد الاستحسان بأنه : ما يستحسنه المجتهد بعقله ويميل إليه برأيه فكان هؤلاء يرون هذا النوع من جملة أدلة الأحكام ولا شك أن العقل يجوز أن يرد الشرع بذلك بل يجوز أن يرد بأن ما سبق إلى أوهام العوام ـ مثلا ـ فهو حكم الله عليهم فيلزمهم العمل بمقتضاه ولكن لم يقع مثل هذا ولم يعرف التعبد به لا بضرورة ولا بنظر ولا بدليل من الشرع قاطع ولا مظنون فلا يجوز إسناده لحكم الله لأنه ابتداء تشريع من جهة العقل
وأيضا فإنا نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم حصروا نظرهم في الوقائع التي لا نصوص فيها في الاستنباط والرد إلى ما فهموا من الأصول الثابتة ولم يقل أحد منهم : إني حكمت في هذا بكذا لأن طبعي مال إليه أو لأنه يوافق محبتي ورضائي ولو قال ذلك لاشتد عليه التكبير وقيل له : من أين لك أن تحكم على عبادة الله بمحض ميل النفس وهوى القلب ؟ هذا مقطوع ببطلانه
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ويحصرون ضوابط الشرع
وأيضا فلو رجع الحكم إلى مجرد الاستحسان لم يكن للمناظرة فائدة لأن الناس تختلف أهواؤهم وأغراضهم في الأطعمة والأشربة واللباس وغير ذلك ولا يحتاجون إلى مناظرة بعضهم بعضا : لم كان هذا الماء أشهى عندك من الآخر ؟ والشريعة ليست كذلك
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدا ولا يفاتحون عالما ولا غيره فيما يبتغون خوفا من الفضيحة أن لا يجدوا مستندا شرعيا وإنما شأنهم إذا وجدوا عالما أو لقوة أن يصانعوا وإذا وجدوا جاهلا عاميا ألقوا عليه في الشريعة الطاهرة إشكالات حتى يزلزلوهم ويخلطوا عليهم ويلبسوا دينهم فإذا عرفوا منهم الحيرة والالتباس ألقوا إليهم من بدعهم على التدريج شيئا فشيئا وذموا أهل العلم بأنهم أهل الدنيا المكبون عليها وأن هذه الطائفة هم أهل الله وخاصيته وربما أوردوا عليهم من كلام غلاة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم حتى يهووا بهم في نار جهنم وأما أن يأتوا الأمر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخين فلا
وتأمل ما نقله الغزالي في استدراج الباطنية غيرهم إلى مذهبهم تجدهم لا يعتمدون إلا على خديعة الناس من غير تقرير علم والتحيل عليهم بأنواع الحيل حتى يخرجونهم من السنة أو عن الدين جملة ولولا الإطالة لأتيت بكلامه فطالعه في كتابه فضائح الباطنية
وأما الحد الثاني فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الحجج وادعى كل من شاء ما شاء واكتفى بمجرد القول فألجأ الخصم إلى الإبطال وهذا يجر فسادا لا خفاء له وإن سلم فذلك الدليل إن كان فاسدا فلا عبرة به وإن كان صحيحا فهو راجع إلى الأدلة الشرعية فلا ضرر فيه
وأما الدليل الأول فلا متعلق به فإن أحسن الاتباع إلينا اتباع الأدلة الشرعية وخصوصا القرآن فإن الله تعالى يقول ك { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } وجاء في صحيح الحديث ـ خرجه مسلم ـ [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال في خطبته : أما بعد فأحسن الحديث كتاب الله ] فيفتقر أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس مما أنزل إلينا فضلا عن أن يقول من أحسنه
وقوله تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } الآية يحتاج إلى بيان أن ميل النفوس يسمى قولا وحينئذ ينظر إلى كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد
ثم إنا نعارض هذا الاستحسان بأن عقولنا تميل إلى إبطاله وأنه ليس بحجة وإنما الحجة الأدلة الشرعية المتلقاة من الشرع
وأيضا فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر إذا فرض أن الحكم يتبع مجرد ميل النفوس وهوى الطباع وذلك محال للعمل بأن ذلك مضاد للشريعة فضلا عن أن يكون من أدلتها
وأما الدليل الثاني فلا حجة فيه من أوجه :
أحدها : أن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن والأمة لا تجتمع على باطل فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا لأن الإجتماع يتضمن دليلا شرعيا فالحديث دليل عليكم لا لكم
والثاني : أنه خبر واحد في مسألة قطعية فلا يسمع
والثالث : أنه إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام وهو باطل بإجماع لا يقال : إن المراد استحسان أهل الاجتهاد لأنا نقول : هذا ترك للظاهر فيبطل الاستدلال ثم إنه لا فائدة في اشتراط الاجتهاد لأن المستحسن بالفرض لا ينحصر في الأدلة فأي حاجة إلى اشتراط الاجتهاد ؟
فإن قيل : إنما يشترط حذرا من مخالفة الأدلة فإن العامي لا يعرفها قيل : بل المراد استحسان ينشأ عن الأدلة بدليل أن الصحابة رضي الله عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الأدلة وفهم مقاصد الشرع
فالحاصل إن تعلق المبتدعة بمثل هذه الأمور تعلق بما لا يغنيهم ولا ينفعهم البتة لكن ربما يتعلقون في آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر في مواضعها إن شاء الله ومنها ما قد مضى
فصل : فإن قيل : أفليس في الأحاديث فإن قيل : أفليس في الأحاديث ما يدل على الرجوع إلى ما يقع في القلب ويجري في النفس وإن لم يكن ثم دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ولا غير صريح ؟ فقد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه كان يقول : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة ]
وخرج مسلم [ عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : البر حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه ] وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال : [ قال رجل يا رسول الله ما الإيمان ؟ قال : إذا سرتك حسناتك وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن قال : يا رسول الله ! فما الإثم ؟ قال : إذا حاك شيء في صدرك فدعه ] وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] و [ عن وابصة رضي الله عنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه و سلم عن البر والإثم فقال : يا وابصة ! استفت قلبك واستفت نفسك البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك ] وخرج البغوي في معجمه عن عبد الرحمن بن معاوية :
[ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ! ما يحل لي مما يحرم علي ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم فرد عليه ثلاث مرات كل ذلك يسكت رسول الله صلى الله عليه و سلم ثم قال : أين السائل ؟ فقال : أنا ذا يا رسول الله فقال : ـ ونقر بأصبعه ـ : ما أنكر قلبك فدعه ]
وعن عبد الله قال : الإثم حواز القلوب فما حاك من شيء في قلبك فدعه وكل شيء فيه نظرة فإن للشيطان فيه مطمعا وقال أيضا : الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وعن أبي الدرداء رضي الله عنه : أن الخير طمأنينة وأن الشر ريبة فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال شريح : دع ما يريبك إلى ما يريبك فوالله ما وجدت فقد شيء تركته ابتغاء وجه الله
فهذه ظهر من معناها الرجوع في جملة من الأحكام الشرعية إلى ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس ويعرض بالخاطر وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالإقدم عليه صحيح وإذا توقفت أو ارتابت فالإقدام عليه محظور وهو عين ما وقع إنكاره من الرجوع إلى الاستحسان الذي يقع بالقلب ويميل إليه الخاطر وإن لم يكن ثم دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيدا بالأدلة الشرعية لم يحل به على ما في النفوس ولا على ما يقع بالقلوب مع أنه عندكم عبث وغير مفيد كمن يحيل بالأحكام الشرعية على الأمور الوفاقية أو الأفعال التي لا ارتباط بينها وبين شرعية الأحكام فدل ذلك على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثرا في شرعية الأحكام وهو المطلوب
والجواب : أن هذه الأحاديث وما كان في معناها قد زعم الطبري في تهذيب الآثار أن جماعة من السلف قالوا بتصحيحها والعمل بما دل عليه ظاهرها وأتى بالآثار المتقدمة عن عمر وابن مسعود وغيرهما ثم ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها
وكلامه وترتيبه بالنسبة إلى ما نحن فيه لائق أن يؤتى به على وجهه فأتيت به على تحري معناه دون لفظه لطوله فحكى عن جماعة أنهم قالوا : لا شيء من أمر الدين إلا وقد بينه الله تعالى بنص عليه بمعناه فإن كان حلالا فعلى العامل به إذا كان عالما تحليله أو حراما فعليه تحريمه أو مكروها غير حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنزيها
فأما العامل بحديث النفس والعارض في القلب فلا فإن الله حظر ذلك على نبيه فقال : { إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله } فأمره بالحكم بما أراه الله لا بما رآه وحدثته به نفسه فغيره من الشرك أولى أن يكون ذلك محظورا عليه وأما إن كان جاهلا فعليه مسألة العلماء دون ما حدثته نفسه
ونقل عن عمر رضي الله عنه أنه خطب فقال : إيها الناس ! قد سنت لكم السنن وفرضت لكم الفرائض وتركتم على الواضحة ان تضلوا بالناس يمينا وشمالا
وعن ابن عباس رضي الله عنهما : ما كان في القرآن من خلال أو حرام فهو كذلك وما سكت عنه فهو مما عفي عنه
وقال مالك : قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم وقد تم هذا الأمر واستكمل فينبغي أن تتبع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولا ينبع الرأي فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى في الرأي منه فاتبعه فكلما غلبه رجل اتبعه أرى أن هذا بعد لم يتم
واعملوا من الآثار بما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : [ قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به : كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ]
وروي عن عمرو بن [ شعيب عن أبيه عن جده ] ـ [ خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما وهم يجادلون في القرآن فخرج و وجهه أحمر كالدم فقال : يا قوم ! على هذا هلك من كان قبلكم جادلوا في القرآن وضربوا بعضه ببعض فما كان من حلال فاعملوا به وما كان من حرام فانتهوا عنه وما كان من متشابه فآمنوا به ]
و [ عن أبي الدرداء رضي الله عنه يرفعه قال : ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فيه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته فإن الله لم يكن لينسى شيئا : { وما كان ربك نسيا } ]
قالوا : فهذه الأخبار وردت بالعمل بما في كتاب الله والإعلام بأن العامل به لن يضل ولم يأذن لأحد في العمل بمعنى ثالث غير ما في الكتاب والسنة ولو كان ثم ثالث لم يدع بيانه فعدل على أن لا ثالث ومن ادعاه فهو مبطل
قالوا : فإن قيل : فإنه عليه السلام قد سن لأمته وجها ثالثا وهو قوله : [ استفت قلبك ] وقوله : [ الإثم حواز القلوب ] إلى غير ذلك قلنا : لو صحت هذه الأخبار لكان ذلك إبطالا لأمره بالعمل بالكتاب والسنة إذ صحا معا لأن أحكام الله ورسوله لم ترد بما استحسنته النفوس واستقبحته وإنما كان يكون وجها ثالثا لو خرج شيء من الدين عنهما وليس بخارج فلا ثالث يجب العمل به
فإن قيل : قد يكون قوله : [ استفت قلبك ] ونحوه أمرا لمن في مسألته نص من كتاب ولا سنة واختلفت فيه الأمة فيعد وجها ثالثا قلنا : لا يجوز ذلك لأمور :
أحدها : أن كل ما لا نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دلالة فلو كان فتوى القلب ونحوه دليلا لم يكن لنصت الدلالة الشرعية عليه معنى فيكون عبثا وهو باطل
والثاني : أن الله تعالى قال : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } فأمر المتنازعين بالرجوع إلى الله والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب
والثالث : أن الله تعالى قال : { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } فأمرهم بمسألة أهل الذكر ليخبروهم بالحق فيما اختلفوا فيه من أمر محمد صلى الله عليه و سلم ولم يأمرهم أن يستفتوا في ذلك أنفسهم
والرابع : أن الله تعالى قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } إلى آخرها فأمرهم بالإعتبار بعبرته والإستدلال بأدلته على صحة ما جاءهم به ولم يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ويصدوا عما اطمأنت إليه قلوبهم وقد وضع الأعلام والأدلة فالواجب في كل ما وضع الله عليه الدلالة أن يستدل بأدلته على ما دلت دون فتوى النفوس وسكون القلوب من أهل الجهل بأحكام الله
وهذا ما حكاه الطبري عمن تقدم ثم اختار إعمال تلك الأحاديث إما لأنها صحت عنده أو صح منها عنده ما تدل عليه معانيها كحديث :
[ الحلال بين والحرام بين ] إلى آخر الحديث فإنه صحيح خرجه الإمامان ولكنه لم يعملها في كل من أبواب الفقه إذ لا يمكن ذلك في تشريع الأعمال وإحداث التعبدات فلا يقال بالنسبة إلى إحداث الأعمال : إذا اطمأنت نفسك إلى هذا العمل فهو بر أو : استفت قلبك في إحداث هذا العمل فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإلا فلا
وكذلك في النسبة إلى التشريع التركي لا يتأتى تنزيل معاني الأحاديث عليه بأن يقال : إن اطمأنت نفسك إلى ترك العمل الفلاني فاتركه وإلا فدعه أي فدع الترك واعمل به وإنما يستقيم إعمال الأحاديث المذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلاة و السلام : [ الحلال بين والحرام بين ] الحديث
وما كان من قبيل العادات من استعمال الماء والطعام والشراب والنكاح واللباس وغير ذلك مما في هذا المعنى فمنه ما هو بين الحلية وما هو بين التحريم وما فيه إشكال وهو الأمر المشتبه الذي لا يدرى أحلال هو أم حرام ؟ فإن ترك الإقدام أولى من الإقدام مع جهلة بحاله نظير قوله عليه السلام : [ إني لأجد التمرة ساقطة على فراشي فلولا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها ] فهذه التمرة لا شك أنها لم تخرج من إحدى الحالين : إما من الصدقة وهي حرام عليه وإما من غيرها وهي حلال له فترك أكلها حذرا من أن تكون من الصدقة في نفس الأمر
قال الطبري : فكذلك حق الله على العبد فيما اشتبه عليه مما هو سعة من تركه والعمل به أو مما هو غير واجب ـ أن يدع ما يريبه إلى ما لا يريبه إذ يزول بذلك عن نفسه الشك كمن يريد خطبة امرأة فتخبره امرأة أنها قد أرضعته وإياها ولا يعلم صدقها من كذبها فإن تركها أزال عن نفسه الريبة اللاحقة له بسبب إخبار المرأة وليس تزوجه إياها بواجب بخلاف ما لو أقدم فإن النفس لا تطمئن إلى حلية تلك الزوجة
وكذلك قول عمر إنما هو فيما أشكل أمره في البيوع فلم يدر حلال هو أم حرام ؟ ففي تركه سكون النفس وطمأنينة القلب كما في الإقدام شك : هل هو آثم أم لا ؟ وهو معنى قوله عليه السلام للنواس ووابصة رضي الله عنهما ودل على ذلك حديث المشتبهات لا ما ظن أولئك من أنه أمر للجهال أن يعلموا بما رأته أنفسهم ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم
قال الطبري فإن قيل : إذا قال الرجل لامرأته : أنت علي حرام فسأل العلماء فاختلفوا عليه فقال بعضهم : قد بانت منك بالثلاث : وقال بعضهم : إنها حلال غير أن عليك كفارة يمين وقال بعضهم : ذلك إلى نيته إن أراد الطلاق فهو طلاق أو الظهار فهو ظهار أو يمينا فهو يمين وإن لم ينو شيئا فليس بشيء : أيكون هذا اختلافا في الحكم كإخبار المرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق كما يؤمر هناك أن لا يتزوجها خوفا من الوقوع في المحظور أو لا ؟ قيل : حكمه في مسألة العلماء أن يبحث عن أحوالهم وأمانتهم ونصيحتهم ثم يقلد الأرجح فهذا ممكن والحزازة مرتفعة بهذا البحث بخلاف ما إذا بحث مثلا عن أحوال المرأة فإن الحزازة لا تزول وإن أظهر البحث أن أحوالها غير حميدة فهما على هذا مختلفان وقد يتفقان في الحكم إذا بحث عن العلماء فاستوت أحوالهم عنده لم يثبت له ترجيح لأحدهم فيكون العمل المأمور به من الاجتناب كالمعمول به في مسألة المخبرة بالرضاع سواء إذ لا فرق بينهما على هذا التقدير انتهى معنى كلام الطبري
وقد أثبت في مسألة اختلاف العلماء على المستفتي أنه غير مخير بل حكمه حكم من التبس عليه الأمر فلم يدر أحلال هو أم حرام ؟ فلا خلاص له من الشبهة إلا باتباع أفضلهم والعمل بما أفتى به وإلا فالترك إذ لا تطمئن النفس إلا بذلك حسبما اقتضته الأدلة المتقدمة
فصل ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال ثم يبقى في هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد وهو الذي رآه الطبري وذك أن حاصل الأمر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس معتبر في الأحكام الشرعية وهو التشريع بعينه فإن طمأنينة النفس القلب مجردا عن الدليل إما أن تكون معتبرة أو غير معتبرة شرعا فإن لم تكن معتبرة فهو خلاف ما دلت عليه تلك الأخبار وقد تقدم أنها معتبرة بتلك الأدلة وإن كانت معتبرة فقد صار ثم قسم ثالث غير الكتاب والسنة وهو غير ما نفاه الطبري وغيره
وإن قيل : إنها تعتبر في الإحجام دون الإقدام لم تخرج تلك عن الإشكال الأول لأن كل واحد من الإقدام والإحجام فعل لا بد أن يتعلق به حكم شرعي وهو الجواز وعدمه وقد علق ذلك بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها فإن كان ذلك عن دليل فهو ذلك الأول بعينه باق على كل تقدير
والجواب : أن الكلام الأول صحيح وإنما النظر في تحقيقه
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إلى نظرين : تظر في دليل الحكم ونظر في مناطه فأما النظر في دليل الحكم لا يمكن أن يكون إلا من الكتاب والسنة أو ما يرجع إليهما عن إجماع أو قياس أو غيرهما ولا يعتبر فيه طمأنينة النفس ولا نفي ريب القلب إلا من جهة اعتقاد كون الدليل دليلا أو غير دليل ولا يقول أحد ( ؟ ) إلا أهل البدع الذين يستحسنون الأمر بأشياء لا دليل عليها أو يستقبحون كذلك من غير دليل إلا طمأنينة النفس ( ؟ ) أن الأمر كما زعموا وهو مخالف لإجماع المسلمين أ
وأما النظر في مناط الحكم فإن المناط لا يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط بل يثبت بدليل غير شرعي أو بغير دليل فلا يشترط فيه بلوغ درجة الاجتهاد بل لا يشترط فيه العلم فضلا : عن درجة الاجتهاد : ألا ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة إذا فعله المصلي : هل تبطل به الصلاة أم لا ؟ فقال العامي : إن كان يسيرا فمغتفر وإن كان كثيرا فمبطل لم يغتفر في ا لسير إلى أن يحققه له العالم بل العاقل يفرق بين الفعل اليسير والكثير فقد انبنى ها هنا الحكم ـ وهو البطلان أو عدمه ـ على ما يقع بنفس
العامي وليس واحدا من الكتاب أو السنة لأنه ليس ما وقع بقلبه دليلا على الحكم وإنما هو مناط الحكم فإذا تحقق له المناط بأي وجه تحقق فهو الملطوب فيقع عليه الحكم بدليله الشرعي
وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور في الطهارة وفرقنا بين اليسير والكثير في التفريق الحاصل أثناء الطهارة فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه في اليسير أو الكثير فتبطل طهارته أو تصح بناء على ذلك الواقع في القلب لأنه نظر في مناط الحكم
فإذا ثبت هذا فمن ملك لحم شاة ذكية حل له أكله لأن حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط الحلية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه : أو ملك لحم شاة ميتة لم يحل له أكله لأن تحريمه ظاهر من جهة فقده شرط الحلية فتحقق مناطها بالنسبة إليه وكل واحد من المناطين راجع إلى ما وقع بقلبه واطمأنت إليه نفسه لا بحسب الأمر في نفسه الا ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد واحد حليته بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه ويعتقد آخر تحريمه بناء على ما تحقق له من مناطه بحسبه فيأكل أحدهما حلالا ويجب على الآخر الاجتناب لأنه حرام ؟ ولو كان ما يقع بالقلب يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي لم يصح هذا المثال وكان محالا لأن أدلة الشرع لا تناقض أبدا فإذا فرضنا لحما أشكل على المالك تحقيق مناطه لم ينصرف إلى إحدى الجهتين كاختلاط الميتة بالذكية واختلاط الزوجة بالأجنبية
فها هنا قد وقع الريب والشك والإشكال والشبهة
وهذا المناط محتاج إلى دليل شرعي يبين حكمه وهي تلك الأحاديث المتقدمة كقوله : [ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ] وقوله : [ البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك ] كأنه يقول : إذا اعتبرنا باصطلاحنا ما تحققت مناطه في الحلية أو الحرمة فالحكم فيه من الشرع بين
وما أشكل عليك تحقيقه فاتركه وإياك والتلبس به وهو معنى قوله ـ إن صح ـ : [ استفت قلبك ] وإن أفتوك فإن تحقيك لمناط مسألتك أخص بك من تحقيق غيرك له إذا كان مثلك
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك المناط ولم يشكل على غيرك لأنه لم يعرض له ما عرض لك
وليس المراد بقوله : [ وإن أفتوك ] أي إن نقلوا إليك الحكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك فإن هذا باطل وتقول على التشريع الحق وإنما المراد ما يرجع إلى تحقيق المناط
نعم قد لا يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه لك غيرك وتقلده فيه وهذه الصورة خارجة عن الحديث كما أنه قد يكون تحقيق المناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع كحد الغنى الموجب للزكاة فإنه يختلف باختلاف الأحوال فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائتي درهم وأشباه ذلك وإنما النظر هنا فيما وكل تحقيقه إلى المكلف
فقد ظهر معنى المسألة وأن الأحاديث لم تتعرض لاقتناص الأحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل القلب كما أورده السائل المستشكل وهو تحقيق بالغ والحمد لله الذي بنعته تتم الصالحات
الباب التاسع في السبب الذي لأجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين
فاعلموا رحمكم الله أن الآيات الدالة على ذم البدعة وكثيرا من الأحاديث أشعرت بوصف لأهل البدعة وهو الفرقة الحاصلة حتى يكونوا بسببها شيعا متفرقة لا ينتظم شملهم بالإسلام وإن كانوا من أهله وحكم لهم بحكمه
ألا ترى أن قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وقوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } الآية وقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } إلى غير ذلك من الآيات الدالة على وصف التفرق ؟
وفي الحديث :
[ ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] والتفرق ناشىء عن الاختلاف في المذاهب والآراء إن جعلنا التفرق معناه بالأبدان ـ وهو الحقيقة ـ وإن جعلنا معنى التفرق في المذاهب فهو الاختلاف كقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا }
للإختلاف سببان : كسبي وغير كسبي فلا بد من النظر في هذا الاختلاف ما سببه ؟ وله سببان ( أحدهما ) : لا كسب للعبادة فيه وهو الراجع إلى سابق القدر والآخر هو الكسبي وهو المقصود بالكلام عليه في هذا الباب إلا أن نجعل السبب الأول مقدمة فإن فيها معنى أصيلا يجب التثبت له على من أراد التفقه في البدع فنقول والله الموفق للصواب :
آية ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة وتفسيرها
قال الله تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } فأخبر سبحانه أنهم لا يزالون مختلفين أبدا مع أنه إنما خلقهم للاختلاف وهو قول جماعة من المفسرين في الآية وأن قوله : { ولذلك خلقهم } معناه : وللاختلاف خلقهم وهو مروي عن مالك بن أنس قال : خلقهم ليكونوا فريقا في الجنة وفريقا في السعير ونحوه عن الحسن فالضمير في خلقهم عائد على الناس فلا يمكن أن يقع منهم إلا ما سبق في العلم وليس المراد ها هنا الاختلاف في الصور كالحسن والقبيح والطويل والقصير ولا في الألوان كالأحمر والأسود ولا في أصل الخلقة كالتام الخلق والأعمى والبصير والأصم والسميع ولا في الخلق كالشجاع والجبان والجواد والبخيل ولا فيما أشبه ذلك من الأوصاف التي هم مختلفون فيها
وإنما المراد اختلاف آخر وهو الاختلاف الذي بعث الله النبيين ليحكموا فيه بين المختلفين كما قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه } الآية وذلك الاختلاف في الآراء والنحل والأديان والمعتقدات المتعلقة بما يسعد الإنسان به أو يشقى في الآخرة والدنيا
هذا هو المراد من الآيات التي كرر فيها الاختلاف الحاصل بين الخلق أن هذا الاختلاف الواقع بينهم على أوجه :
فصل أحدها : الاختلاف في أصل النحلة وهو قول جماعة من المفسرين منهم عطاء قال : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } قال قال : اليهود والنصارى والمجوس والحنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ الحنيفية خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي في الآية المذكورة
وأصل هذا الاختلاف هو في التوحيد والتوجه للواحد الحق سبحانه فإن الناس في عامة الأمر لم يختلفوا في أن لهم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم إلا أنهم اختلفوا في تعيينه على آراء مختلفة من قائل بالاثنين وبالخمسة وبالطبيعة أو الدهر أو بالكواكب إلى أن قالوا بالآدميين وبالشجر وبالحجارة وما ينحتون بأيديهم
ومنهم من أقر بواجب الوجود الحق لكن على آراء مختلفة أيضا إلى أن بعث الله الأنبياء مبينين لأممهم حق ما اختلفوا فيه من باطله فعرفوا بالحق على ما ينبغي ونزهوا رب الأرباب عما لا يليق بجلاله من نسبة الشركاء والأنداد وإضافة الصاحبة والأولاد فأقر بذلك من أقر به وهم الداخلون تحت مقتضى قوله : { إلا من رحم ربك } وأنكر من أنكر فصار إلى مقتضى قوله : { لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين } وإنما دخل الأولون تحت وصف الرحمة لأنهم خرجوا عن وصف الاختلاف إلى وصف الوفاق والألفة وهو قوله : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وهو منقول عن جماعة من المفسرين
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال في قوله : { ولذلك خلقهم } خلق أهل الرحمة أن لا يختلفوا وهو معنى ما نقل عن مالك و طاوس في جامعه وبقي الآخرون على وصف الاختلاف إذ خالفوا الحق الصريح ونبذوا الدين الصحيح
وعن مالك أيضا قال : الذين رحمهم لم يختلفوا وقول الله تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } ومعنى : { كان الناس أمة واحدة } فاختلفوا { فبعث الله النبيين } فأخبر في الآية أنهم اختلفوا ولم يتفقوا فبعث النبيين ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الاختلاف
وفي الحديث الصحيح :
[ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع فاليهود غدا والنصارى بعد غد ]
وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } فهذا يوم أخذ ميثاقهم لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم { فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } إلى قوله : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه }
وختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت واتخذ النصارى يوم الأحد فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم ليوم الجمعة
واختلفوا في القبلة فاستقبلت النصارى المشرق واستقبلت اليهود بيت المقدس وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للقبلة
واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ومنهم من يسجد ولا يركع ومنهم من يصلي ولا يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي وهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للحق من ذلك
واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود كان يهوديا وقالت النصارى نصرانيا وجعله الله حنيفا مسلما فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للحق من ذلك
واختلفوا في عيسى عليه السلام فكفرت به اليهود وقالوا لأمه بهتانا عظيما وجعلته النصارى إلها وولدا وجعله اللخ روحه وكلمته فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه و سلم للحق من ذلك
ثم إن هؤلاء المتفقين قد يعرض لهم الاختلاف بحسب القصد الثاني لا القصد الأول فإن الله حكم بحكمته أن تكون فروع هذه الملة قابلة للأنظار ومجالا للظنون وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف لكن في الفروع دون الأصول وفب الجزئيات دون الكليات فلذلك لا يضر هذا الاختلاف
وقد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافا يضرهم يعني لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها بقطع العذر بل لهم فيه أعظم العذر ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع أتى فيه بأصل يرجع إليه وهو قول الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يرد إلى الله وذلك رده إلى كتابه وإلى رسول الله صلى الله عليه و سلم وذلك رده إليه إذا كان حيا وإلى سنته بعد موته وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين } أم لا ؟ والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكورين مباينون لأهل الرحمة لقوله : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } فإنها اقتضت قسمين : أهل الاختلاف والمرحومين فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف وإلا كان قسم الشيء قسيما له ولم يستقم معنى الاستثناء
والثاني : أنه قال فيها : { ولا يزالون مختلفين } فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت وأهل الرحمة مبرؤون من ذلك لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريا لقصد الشارع فيها حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول فلم يكن وصف الاختلاف لازما ولا ثابتا فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والاتقطاع أليق في الموضع
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم بحيث لا يصح إدخالهم في قسم المختلفين بوجه فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودا من أهل الاختلاف ـ ولو بوجه ما ـ لم يصح إطلاق القول في حقه : انه من أهل الرحمة وذلك باطل بإجماع أهل السنة
والرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربا من ضروب الرحمة وإذا كان من جملة الرحمة فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحمة
وبيان كون الاختلاف المذكور رحمة ما روي عن القاسم بن محمد قال : لقد نفع الله باختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم في العمل لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة وعن ضمرة بن رجاء قال : اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد فجعلا يتذاكرن الحديث ـ قال ـ فجعل عمر يجيء بالشيء يخالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك عليه حتى يتبين ذلك فيه فقال له عمر : لا تفعل ! فما يسرني باختلافهم حمر النعم وروى ابن وهب عن القاسم أيضا قال : لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز : ما أحب أن أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم لا يختلفون لأنه لو كان قولا واحدا لكان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة
ومعنى هذا أنهم فتحوا للناس باب الاجتهاد وجواز الاختلاف فيه لأنهم لو لم يفتحوه لكان المجتهدون في ضيق لأن مجال الاجتهاد ومجالات الظنون لا تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيضير أهل الاجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونهم مكلفين باتباع خلافهم وهو نوع من تكليف ما لا يطاق وذلك من أعظم الضيق فوسع الله على الأمة بوجود الخلاف الفروعي فيهم فكان فتح باب الأمة للدخول في هذه الرحمة فكيف لا يدخلون في قسم من رحم ربك ؟ ! فاختلافهم في الفروع كاتفاقهم فيها والحمد لله
وبين هذين الطريقين واسطة أدنى من الرتبة الأولى وأعلى من الرتبة الثانية وهي أن يقع الاتفاق في أصل الدين ويقع الاختلاف في بعض قواعده الكلية وهو المؤدي إلى التفرق شيعا
فيمكن أن تكون الآية تنتظم هذا القسم من الاختلاف ولذلك صح عنه صلى الله عليه و سلم : [ أن أمته تفترق على بضع و سبعين فرقة ] وأخبر :
[ أن هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع ] وشمل ذلك الاختلاف الواقع في الأمم قبلنا ويرشحه وصف أهل البدع بالضلالة وإيعادهم بالنار وذلك بعيد من تمام الرحمة
ولقد كان عليه الصلاة و السلام حريصا على ألفتنا وهدايتنا حتى ثبت من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : [ لما حضر النبي صلى الله عليه و سلم ـ قال وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ـ فقال : هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده فقال عمر : إن النبي صلى الله عليه و سلم غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول : قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتابا لن تضلوا بعده ومنهم من يقول كما قال عمر فلما كثر اللغط والإختلاف عند النبي صلى الله عليه و سلم قال : قوموا عني فكان ابن عباس يقول : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه و سلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم ]
فكان ذلك ـ والله أعلم ـ وحيا أوحى الله إليه أنه إن كتب لهم ذلك الكتاب لم يضلوا بعده البتة فتخرج الأمة عن مقتضى قوله : { ولا يزالون مختلفين } بدخولها تحت قوله : { إلا من رحم ربك } فأبى الله إلا ما سبق به علمه من اختلافهم كما اختلف غيرهم رضينا بقضاء الله وقدره ونسأله أن يثبتنا على الكتاب والسنة ويميتنا على ذلك بفضله
وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أن المراد بالمختلفين في الآية أهل البدع وأن من رحم ربك أهل السنة ولكن لهذا الكتاب أصل يرجع إلى سابق القدر لا مطلقا بل مع إنزال القرآن محتمل العبارة للتأويل وهذا لا بد من بسطه
فاعلموا أن الاختلاف في بعض القواعد الكلية لا يقع في العاديات الجارية بين المتبحرين في علم الشريعة الخائضين في لجتها العظمى العالمين بمواردها ومصادرها
والدليل على ذلك اتفاق العصر الأول وعامة العصر الثاني على ذلك وإنما وقع اختلافهم في القسم المفروغ منه آنفا بل كل على الوصف المذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلاثة قد تجتمع وقد تفترق :
أحدها : أن يعتقد الإنسان في نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والاجتهاد في الدين ـ ولم يبلغ تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ويعد رأيه رأيا وخلافه خلافا ولكن تارة يكون ذلك في جزئي وفرع من الفروع وتارة يكون في كل أصل من أصول الدين ـ كان من الأصول الاعتقادية أو من الأصول العملية ـ فتارة آخذا ببعض جزئيات الشريعة في هدم كلياتها حتى يصير منها ما ظهر له بادىء رأيه من غير إحاطة بمعانيها ولا رسوخ في فهم مقاصدها وهذا هو المبتدع وعليه نبه الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا يقبض الله العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم إتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ]
قال بعض أهل العلم : تقدير هذا الحديث يدل على أنه لا يؤتى الناس قط من قبل علمائهم وإنما يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفتى من ليس بعالم فيؤتى الناس من قبله وقد صرف هذا المعنى تصريفا فقيل : ما خان أمين قط ولكنه ائتمن غير أمين فخان قال ونحن نقول : ما ابتدع عالم قط ولكنه استفتى من ليس بعالم
قال مالك بن أنس : بكى ربيعة يوما بكاء شديدا فقيل له : مصيبة نزلت بك ؟ فقال لا ! ولكن استفتى من لا علم عنده
وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ قبل الساعة سنون خداعا يصدق فيهن الكاذب ويكذب فيهن الصادق ويخون فيهن الأمين ويؤتمن الخائن وينطق فيهن الرويبضة ] قالوا : هو الرجل التافة الحقير ينطق في أمور العامة كأنه ليس بأهل أن يتكلم في أمور العامة فيتكلم
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قد علمت متى يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل الصغير عليه الكبير وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم من أكابرهم فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا
واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار فقال ابن المبارك : هم أهل البدع وهو موافق لأن أن أهل البدع أصاغر في العلم ولأجل ذلك صاروا أهل بدع
وقال الباجي : يحتمل أن يكون الأصاغر من لا علم عنده قال : وقد كان عمر يستشير الصغار وكان القراء أهل مشاورته كهولا وشبانا قال : ويحتمل أن يريد بالأصاغر من لا قدر له ولا حال ولا يكون ذلك إلا بنبذ الدين والمروءة فأما من التزمهما فلا بد أن سمو أمره ويعظم قدره
ومما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن الحسن قال : العامل على غير علم كالسائر على غير طريق والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح فاطلبوا العلم طلبا لا يضر بترك العبادة واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بترك العلم فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه و سلم ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا ـ يعني الخوارج ـ والله أعلم لأنهم قرؤوا القرآن ولم يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الحديث
[ يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ]
وروي عن مكحول أنه قال : تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا وتفقه السفلة فساد الدين
وقال الفريابي : كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلاء النبط يكتبون العلم تغير وجهه فقلت : يا أبا عبد الله ! أراك إذا رأيت هؤلاء يكتبون العلم يشتد عليك قال : كان العلم في العرب وفي سادات الناس وإذا خرج عنهم وصار إلى هؤلاء النبط والسفلة غير الدين
وهذه الآثار أيضا إذا حملت على تأويل المتقدم استدت واستقامت لأن ظواهرها مشكلة ولعلك إذا استقريت أهل البدع من المتكلمين أو أكثرهم وجدتهم من أبناء سبايا الأمم ومن ليس له أصالة في اللسان العربي فعما قريب يفهم كتاب الله على غير وجهه كما أن من لم يتفقه في مقاصد الشريعة فهمها على غير وجهها
والثاني من أسباب الخلاف إتباع الهوى ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها والتعويل عليها حتى يصدروا عنها بل قدموا أهوءاهم واعتمدوا على آرائهم ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم ويدخل في غمارهم من كان منهم يخشى السلاطين لنيل ما عندهم أو طلبا للرياسة فلا بد أن يميل مع الناس بهواهم ويتأول عليهم فيما أرادوا حسبما ذكره العلماء ونقله من مصاحبي السلاطين
فالأولون ردوا كثيرا من الأحاديث الصحيحة بعقلوهم وأساؤوا الظن بما صح عن النبي صلى الله عليه و سلم وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة حتى ردوا كثيرا من أمور الآخرة وأحوالها من الصراط والميزان وحشر الأجساد والنعيم والعذاب الجسمي وأنكروا رؤية الباري وأشباه ذلك بل صيروا العقل شارعا جاء الشرع أو لا بل إن جاء فهو كاشف لمقتضى ما حكم به العقل إلى غير ذلك من الشناعات
والآخرون خرجوا عن الجادة إلى البينات وإن كانت مخالفة لطلب الشريعة حرصا على أن يغلب عدوه أو يفيد وليه أو يجر إلى نفسه نفعا كما ذكروا عن محمد بن يحيى بن لبابة أخي الشيخ ابن لبابة المشهور فإنه عزل عن قضاء ألبيرة ثم عزل عن الشورى لأشياء نقمت عليه وسجل بسخطته القاضي حبيب بن زيادة وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته وأن لا يفتي أحدا
ثم إن الناصر احتاج إلى شراء مجشر من أحباس المرضى بقرطبة بعدوة النهر فشكا إلى القاضي ابن بقي ضرورته إليه لمقابلته منزهة وتأذية برؤيتهم أو أن تطلعه من علالية فقال له ابن بقي : لا حيلة عندي فيه وهو أولى أن يحاط بحرمة الحبس فقال له : تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبتي وما أجزله من أضعاف القيمة فيه فلعلهم أن يجدوا لي في ذلك رخصة فتكلم ابن بقي معهم فلم يجدوا إليه سبيلا فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إلى القصر وتوبيخهم فجرت بينهم وبين بعض الوزراء مكالمة ولم يصل الناصر معهم إلى مقصوده
وبلغ ابن لبابة هذا الخبر فدفع إلى الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ويقول : إنهم حجروا عليه واسعا ولو كان حاضرا لأفتاه بجواز المعارضة وتقلد حقا وناظر أصحابه فيها فوقع الأمر بنفس الناصر وأمر بإعادة محمد بن لبابة إلى الشورى على حالته الأولى ثم أمر القاضي بإعادة المشورة في المسألة فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم من أجلها وغبطة المعارضة
فقال جميعهم بقولهم الأول من المنع من تغيير الحبس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له القاضي : ما تقول أنت يا أبا عبد الله ؟ قال : أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا الفقهاء وأما أهل العراق فإنهم لا يجيزون الحبس أصلا وهم علماء أعلام يقتدى بهم أكثر الأمة وإذا بأمير المؤمنين من الحاجة إلى هذا المجشر ما به فما ينبغي أن يرد عنه وله في السنة فسحة وأنا أقول بقول أهل العراق وأتقلد ذلك رأيا
فقال له الفقهاء : سبحان الله ! تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد عنهم بوجه وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه ؟ فقال لهم محمد بن يحيى : ناشدتكم الله العظيم ! ألم تنزل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذتم فيها بغير قول مالك في خاصة أنفسكم وأرخصتم لأنفسكم في ذلك ؟ قالوا : بلى ! قال : فأمير المؤمنين أولى بذلك فخذوا به مأخذكم وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة فسكتوا فقال للقاضي : أنه إلى أمير المؤمنين فتياي
فكتب القاضي إلى أمير المؤمنين بصورة المجلس وبقي مع أصحابه بمكانهم إلى أن أتى الجواب بأن يؤخذ له بفتيا محمد بن لبابة وينفذ ذلك ويعوض المرضى من هذا المجشر بأملاك ثمينة عجيبة وكانت عظيمة القدر جدا تزيد أضعافا على المجشر ثم جيء بكتاب من عند أمير المؤمنين منه إلى ابن لبابة بولاية خطة الوثائق ليكون هو المتولي لعقد هذه المعارضة فهنىء بالولاية وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إلى أن مات سنة 336 ست وثلاثين وثلاثمائة
قال القاضي عياض : ذاكرت بعض مشايخنا مرة بهذا الخبر فقال : ينبغي أن يضاف هذا الخبر الذي حل سجل السخطة إلى سجل السخطة فهو أولى وأشد في السخطة مما تضمنه ـ أو كما قال
فتأملوا كيف اتباع الهوى وأولى أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا لا يحل أصلا من وجهين :
احدهما : أنه لم يتحقق المذهب الذي حكم به لأن أهل العراق لا يبطلون الإحباس هكذا على الإطلاق ومن حكى عنهم ذلك فإما على غير تثبيت وإما أنه كان قولا لهم رجعوا عنه بل مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور في كتب الحنفية
والثاني : أنه إن سلمنا فلا يصح للحاكم أن يرجع في حكمه في أحد القولين بالمحبة والإمارة أو قضاء الحاجة إنما الترجيح بالوجوه المعتبرة شرعا وهذا متفق عليه بين العلماء فكل من اعتمد على تقليد قول غير محقق أو رجح بغير معنى فقد خلع الربقة واستند إلى غير شرع عافانا الله من ذلك بفضله
فهذه الطريقة في الفتيا من جملة البدع المحدثات في دين الله تعالى كما أن تحكيم العقل على الدين مطلقا محدث وسيأتي بيان ذلك بعد إن شاء الله
وقد ثبت بهذا وجه اتباع الهوى وهو أصل الزيغ عن الصراط المستقيم قال الله تعالى : { هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ } ـ أي ميل عن الحق ـ { فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } وقد تقدم معنى الآية فمن شأنهم أن يتركوا الواضح ويتبعوا المتشابه عكس ما عليه الحق في نفسه
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما ـ وذكرت الخوارج وما يلقون في القرآن فقال : يؤمنون بمحكمه ويهلكون عند متشابهه وقرأ ابن عباس الآية خرجه ابن وهب
وقد دل على ذمة القرآن في قوله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } الآية ولم يأت في القرآن ذكر الهوى إلا في معرض الذم حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال : ما ذكر الله هوى في القرآن إلا ذمه وقال : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } إلى غير ذلك من الآيات وحكى أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي أن رجلا سأل إبراهيم النخعي عن الأهواء : أيها خير ؟ فقال : ما جعل الله في شيء منها مثقال ذرة من خير وما هي إلا زينة الشيطان وما الأمر إلا الأمر الأول يعني ما كان عليه السلف الصالح
وخرج عن الثوري أن رجلا أتى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : أنا على هواك فقال له ابن عباس : الهوى كله ضلالة : أي شيء انا على هواك ؟
والثالث من أسباب الخلاف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مخالفة للحق
وهو إتباع ما كان عليه الآباء والأشياخ وأشباه ذلك وهو التقليد المذموم فإن الله ذم بذلك في كتابه بقوله : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } الآية ثم قال : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون } وقوله : { هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون } فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بمجرد تقليد الآباء فقالوا : { بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } وهو مقتضى الحديث المتقدم أيضا في قوله :
[ اتخذ الناس رؤساء جهالا ] إلى آخره فإنه يشير إلى الاستنان بالرجال كيف كان
وفيما يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إياكم والاستنان بالرجال فإن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فينقلب لعلم الله فيعمل بعمل أهل الجنة فيموت وهو من أهل الجنة فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء فهو إشارة إلى الأخذ بالاحتياط في الدين وأن الإنسان لا ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة حتى يتثبت فيه ويسأل عن حكمه إذ لعل المعتمد على عمله يعمل على خلاف السنة ولذلك قيل : لا تنظر إلى عمل العالم ولكن سله يصدقك وقالوا : ضعف الروية أن يكون رأى فلانا يعمل مثله ولعله فعله ساهيا وليس من هذا القبيل عمل أهل المدينة وما أشبه ذلك لأنه دليل ثابت عند جماعة من العلماء على وجه ليس مما نحن فيه
وقول علي رضي الله عنه : فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات نكتة في الموضع
يعني الصحابة ومن جرى مجراهم ممن يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه وأما غيرهم ممن لم يحل ذلك المحل فلا كأن يرى الإنسان رجلا يحسن اعتقاده فيه فيفعل فعلا محتملا أن يكون مشروعا أو غير مشروع فيقتدى به على الإطلاق ويعتمد عليه في التعبد ويجعله حجة في دين الله فهذا هو الضلال بعينه وما لم يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل ممن هو أهل الفتوى
وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر المتأخرين من عوام المبتدعة إذا اتفق أن ينضاف إلى شيخ جاهل أو لم يبلغ مبلغ العلماء فيراه يعمل عملا فيظنه عبادة فيقتدى به كائنا ما كان ذلك العمل موافقا للشرع أو مخالفا ويحتج به على من يرشده ويقول : كان الشيخ فلان من الأولياء وكان يفعله وهو أولى أن يقتدى به علماء الظاهر فهو في الحقيقة راجع إلى تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب كالذين قلدوا آباءهم سواء وإنما قصارى هؤلاء أن يقولوا : إن آباءنا أو شيوخنا لم يكونوا ينتحلون مثل هذه الأمور سدى
وما هي إلا مقصودة بالدلائل والبراهين مع أنهم يرون أن لا دليل عليها ولا برهان يقود إلى القول بها
فصل هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد هذه الأسباب الثلاثة راجعة في التحصيل إلى وجه واحد : وهو الجهل بمقاصد الشريعة والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت أو الأخذ فيها بالنظر الأول ولا يكون ذلك من راسخ في العلم ألا ترى إلى أن الخوارج كيف خرجوا عن الدين كما يخرج السهم من الصيد المرمي ؟ لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم وصفهم :
بأنهم يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم يعني ـ والله أعلم ـ أنهم لا يتفقهون به حتى يصل إلى قولبهم لأن الفهم راجع إلى القلب فإذا لم يصل إلى القلب لم يحصل فيه فهم على حال وإنما يقف عند محل الأصوات والحروف فقط وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن لا يفهم وما تقدم أيضا من قوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] إلى آخره
وقد وقع لابن عباس تفسير ذلك على معنى ما نحن فيه فخرج أبو عبيد في فضائل القرآن و سعيد بن منصور في تفسيره عن إبراهيم التميمي قال : خلا عمر رضي الله عنه ذات يوم فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ؟ فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابها واحد ـ قال فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين : إنما أنزل علينا القرآن فقرأناه وعلمنا فيما أنزل وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيما نزل فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا وقال سعيد : فيكون لكل قوم رأي فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره علي فانصرف ابن عباس ونظر عمر فيما قال فعرفه فأرسل إليه وقال : أعد علي ما قلته فأعاد عليه فعرف عمر قوله وأعجبه
وما قاله ابن عباس رضي الله عنهما هو الحق فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الآية أو السورة عرف مخرجها وتأويلها وما قصد بها فلم يتعد ذلك فيها وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها فذهب كل إنسان مذهبا لا يذهب إليه الآخر وليس عندهم من الرسوخ في العلم ما يهديهم إلى الصواب أو يقف بهم دون اقتحام حمى المشكلات فلم يكن بد من الأخذ ببادىء الرأي أو التأويل بالتخرص الذي لا يغني من الحق شيئا إذ لا دليل عليه من الشريعة فضلوا وأضلوا
ومما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكير أنه سأل نافعا : كيف رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين فسر سعيد بن جبير من ذلك فقال : مما يتبع الحرورية من المتشابه قول الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ويقرنون معها : { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا : قد كفر ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك فهؤلاء مشركون خرجوا على الأمة يقتلون ما يرونه مخالفا لهم لأنهم يتأولون هذه الآية فهذا معنى الرأي الذي نبه عليه ابن عباس وهو الناشىء عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن
فإن قيل : فرضت الاختلاف المتكلم عنه في واسطة بين طرفين فكان من الواجب أن تردد النظر فيه عليهما فلم تفعل بل رددته إلى الطرف الأول في الذم والضلال ولم تعتبره بجانب الاختلاف الذي لا يضير وهو الاختلاف في الفروع
فالجواب عن ذلك : أن كون ذلك القسم واسطة بين الطرفين لا يحتاج إلى بيانه إلا من الجهة التي ذكرنا أما الجهة الأخرى فإن عدم ذكرهم في هذه الآمة وإدخالهم فيها أوضح أن هذا الاختلاف لم يلحقهم بالقسم الأول وإلا فلو كان ملحقا لهم به لم يقع في الأمة اختلاف ولا فرقة ولا أخبر الشارع به ولا نبه السلف الصالح عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق الخلق على الملة بعد [ ما ] كانوا مفارقين لها لم نقل : اتفقت الأمة بعد اختلافها كذلك لا نقول : اختلفت الأمة وافترقت الأمة بعد اتفاقها أو خرج بعضهم إلى الكفر بعد الإسلام وإنما يقال : افترقت وتفترق الأمة إذا كان الافتراق واقعا فيها مع بقاء اسم الأمة هذا هو الحقيقة ولذلك [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخوارج : يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ثم قال : [ وتتمارى في الفوق ] وفي رواية :
[ فينظر الرامي إلى سهمه إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة : هل علق بها من الدم شيء ] و [ التمارى في الفوق ] فيه هل فيه فرث ودم أم لا ؟ شك بحسب التمثيل : هل خرجوا من الإسلام حقيقة ؟ وهذه العبارة لا يعبر بها عمن خرج من الإسلام بالارتداد مثلا
وقد اختلفت الأمة في تكفير هؤلاء الفرق أصحاب البدع العظمى ولكن الذي يقوى في النظر وبحسب الأثر عدم القطع بتكفيرهم والدليل عليه عمل السلف الصالح فيهم ألا ترى إلى صنع علي رضي الله عنه في الخوارج ؟ وكونه عاملهم في قتالهم معاملة أهل الإسلام على مقتضى قول الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } فإنه لما اجتمعت الحرورية وفارقت الجماعة لم يهيجهم علي ولا قاتلهم ولو كانوا بخروجهم مرتدين لم يتركهم لقوله عليه الصلاة و السلام :
[ من بدل دينه فاقتلوه ] ولأن أبا بكر رضي الله عنه خرج لقتال أهل الردة ولم يتركهم فدل ذلك على اختلاف ما بين المسألتين
وأيضا فحين ظهر معبد الجهني وغيره من أهل القدر لم يكن من السلف الصالح لهم إلا الطرد والإبعاد والعداوة والهجران ولو كانوا خرجوا إلى كفر محض لأقاموا عليهم الحد المقام على المرتدين وعمر بن عبد العزيز أيضا لما خرج في زمانه الحرورية بالموصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به علي رضي الله عنه ولم يعاملهم معاملة المرتدين
ومن جهة المعنى ! إنا وإن قلنا : إنهم متبعون الهوى ولما تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله فإنهم ليسوا بمتبعين للهوى بإطلاق ولا متبعين لما تشابه من الكتاب من كل وجه ولو فرضنا أنهم كذلك لكانوا كفارا إذ لا يتأتى ذلك من أحد في الشريعة إلا مع رد محكماتها عنادا وهو كفر وأما من صدق الشريعة ومن جاء بها وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه مبتع للدليل يمثله لا يقال : إنه صاحب هوى بإطلاق بل هو متبع للشرع في نظره لكن بحيث يمازجه الهوى في مطالبه من جهة إدخال الشبه في المحكمات بسبب اعتبار المتشابهات فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما دل عليه الدليل على الجملة
وأيضا فقد ظهر منهم اتحاد القصد مع أهل السنة على الجماعة من مطلب واحد وهو الانتساب إلى الشريعة ومن أشد مسائل الخلاف ـ مثلا ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها فإنا إذا نظرنا إلى مقاصد الفريقين وجدنا كل واحد منهما حائما حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث وهو مطلوب الأدلة وإنما وقع اختلافهم في الطريق وذلك لا يخل بهذا القصد في الطرفين معا فحصل في هذا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف الواقع في الفروع ؟
وأيضا فقد يعرض الدليل على المخالف منهم فيرجع إلى الوفاق لظهوره عنده كما رجع من الحرورية الخارجين على علي رضي الله عنه ألفان وإن كان الغالب عدم الرجوع كما تقدم في أن المبتدع ليس له توبة
حكى ابن عبد البر بسند يرفعه إلى ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما اجتمعت الحرورية يخرجون على علي جعل يأتيه الرجل فيقول : يا أمير المؤمنين ! إن القوم خارجون عليك قال : دعهم حتى يخرجوا فلما كان ذات يوم قلت : يا أمير المؤمنين ! أبرد بالصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم ـ قال ـ فدخلت عليهم وهو قائلون فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر قد أثر السجود في جباههم كأن أيديهم ثفن الإبل عليهم قمص مرخصة فقالوا : ما جاء بك با بن عباس ؟ وما هذه الحلة عليك ؟ ـ قال ـ قلت : ما تعيبون من ذلك ؟ فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم وعليه أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ ثم قرأت هذه الآية : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } فقالوا : ما جاء بك ؟ قال : جئتكم من عند أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم وليس فيكم منهم أحد ومن عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه و سلم وعليهم نزل القرآن وهم أعلم بتأويله جئت لأبلغكم عنهم وأبلغكم عنكم فقال بعضهم : لا تخاصموا قريشا فإن الله يقول : { بل هم قوم خصمون } فقال بعضهم : بلى ! فلنكلمه ـ قال ـ فكلمني منهم رجلان أو ثلاثة ـ قال ـ قلت ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا : ثلاثا فقلت : ما هن ؟ قالوا : حكم الرجال في أمر الله وقال الله تعالى : { إن الحكم إلا لله } ـ قال ـ هذه واحدة ماذا أيضا ؟ قالوا : فإنه قاتل فلم سب ولم يغنم فلئن كانوا مؤمنين ما حل قتالهم ولئن كانوا كافرين لقد حل قتالهم وسبيهم ـ قال ـ قلت : وماذا أيضا ؟ قالوا : ومحا نفسه من إمرة المؤمنين فإن لم يكن امير المؤمنين فهو أمير الكافرين ـ قال ـ قلت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب الله وسنة رسوله بما ينقض قولكم هذا أترجعون ؟ قالوا : وما لنا لا نرجع ؟
قال ـ قلت ـ أما قولكم حكم الرجال في أمر الله فإن الله قال في كتابه : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم } وقال في المرأة وزوجها : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } فصير الله ذلك إلى حكم الرجال فناشدتكم الله ! أتعلمون حكم الرجال في دماء المسلمين وفي إصلاح ذات بينهم أفضل أو في دم أرنب ثمنه ربع درهم ؟ وفي بضع امرأة ؟ قالوا : بلى ! هذا أفضل : قال : أخرجتم من هذه ؟ قالوا : نعم !
قال وأما قولكم : قاتل ولم سب ولم يغنم أتسبون أمكم عائشة ؟ فإن قلتم نسبيها فنستحل منها ما نستحل من غيرها فقد كفرتم وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرتم فأنتم ترددون بين ضلالتين اخرجتم من هذه ؟ قالوا : بلى !
قال : وأما قولكم : محا نفسه من إمرة المؤمنين فأنا آتيكم بمن ترضون [ إن نبي الله يوم الحديبية حين صالح أبا سفيان وسهيل بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : اكتب يا علي : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو : ما نعلم أنك رسول الله ولو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك قال رسول الله : اللهم إنك تعلم أني رسولك يا علي اكتب : هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال : فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم فخرجوا فقتلوا أجمعون ]
فصل حديث تفرق الأمة صح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ] وخرجه الترمذي هكذا
وفي رواية أبي داود قال :
[ افترق اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ]
وفي الترمذي تفسير هذا ولكن بإسناد غريب عن غير أبي هريرة رضي الله عنه فقال في حديث :
[ وإن بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين فرقة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة قالوا : ومن هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي ]
وفي سنن أبي داود :
[ وأن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعين في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة ] وهي بمعنى الرواية التي قبلها إلا أن هنا زيادة في بعض الروايات : [ وأنه سيخرج من أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ]
وفي رواية عن ابن أبي غالب موقوفا عليه :
[ إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة وإن هذه الأمة تزيد عليهم فرقة كلها في النار إلا السواد الأعظم ] وفي رواية مرفوعا :
[ ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ]
وهذا الحديث بهذه الرواية الأخيرة قدح فيه ابن عبد البر لأن ابن معين قال : إنه حديث باطل لا أصل له شبه فيه على نعيم حماد قال بعض المتأخرين : إن الحديث قد روي عن جماعة من الثقات ثم تكلم في إسناده بما يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد البر ثم قال : وفي الجملة فإسناده في الظاهر جيد إلا أن يكون ـ يعني ابن معين ـ قد اطلع منه على علة خفية
وأغرب من هذا كله رواية رأيتها في جامع ابن وهب
[ إن بني إسرائيل تفرقت إحدى وثمانين ملة وستفترق أمتي على اثنتين وثمانين ملة كلها في النار إلا واحدة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : ـ الجماعة ]
فإذا تقرر هذا تصدى النظر في الحديث في مسائل :
المسالة الأولى في حقيقة هذا الإفتراق وهو يحتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ويحتمل أم يكون مع زيادة قيد لا يقتضيه اللفظ بإطلاقه ولكن يحتمله كما كان لفظ الرقبة بمطلقها لا يشعر بكونها مؤمنة أو غير مؤمنة لكن اللفظ يقبله فلا يصح أن يراد مطلق الافتراق بحيث يطلق صور لفظ الاختلاف على معنى واحد لأنه يلزم أن يكون المختلفون في مسائل الفروع داخلين تحت إطلاق اللفظ وذلك باطل بالإجماع فإن الخلاف من زمان الصحابة إلى الآن واقع في المسائل الاجتهادية وأول ما وقع الخلاف في زمان الخلفاء الراشدين المهديين ثم في سائر الصحابة ثم التابعين ولم يعب أحد ذلك منهم وبالصحابة اقتدى من بعدهم في توسيع الخلاف فكيف أن يكون الافتراق في المذاهب مما يقتضيه الحديث ؟ وإنما يراد افتراق مقيد وإن لم يكن في الحديث نص عليه ففي الآيات مما يدل عليه قوله تعالى : { ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } وقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وما أشبه ذلك الآيات الدالة على التفرق الذي صاروا به شيعا ومعنى صاروا شيعا أي جماعات بعضهم قد فارق البعض ليسوا على تآلف ولا تعاضد ولا تناصر بل على ضد ذلك فإن الإسلام واحد وأمره واحد فاقتضى أن يكون حكمه على الائتلاف التام لا على الاختلاف
وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب المشعر بالعداوة والبغضاء ولذلك قال :
{ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } فبين أن التأليف إنما يحصل عند الاتئلاف على التعلق بمعنى واحد وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلا بد من التفرق وهو معنى قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الحديث واستقام معناه والله أعلم
المسألة الثانية إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العدواة والبغضاء فإما أن يكون راجعا إلى أمر هو معصية غير بدعة
إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع في العدواة والبغضاء فإما أن يكون راجعا إلى أمر هو معصية غير بدعة ومثاله أن يقع بين أهل الإسلام افتراق بسبب دنيوي كما يختلف مثلا أهل قرية مع قرية أخرى بسبب تعد في مال أو دم حتى تقع بينهم العدواة فيصيروا حزبين أو يختلفون في تقديم وال أو غير ذلك فيفترقون ومثل هذا محتمل وقد يشعر به
[ من فارق الجماعة قيد شبر فميتته جاهلية ] وفي مثل هذا جاء في الحديث :
[ إذا بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما ] وجاء في القرآن الكريم : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } إلى آخر القصة
وأما أن يرجع إلى أمر هو بدعة كما افترق الخوارج من الأمة ببدعهم التي ينوا عليها في الفرقة وكالمهدي المغربي الخارج عن الأمة نصرا للحق في زعمه فابتدع أمورا سياسية وغيرها خرج بها عن السنة ـ كما تقدمت الإشارة إليه قبل ـ وهذا هو الذي تشير إليه الآيات المتقدمة والأحاديث لمطابقتها لمعنى الحديث وأما أن يراد المعنيان معا
فأما الأول فلا أعلم قائلا به وإن كان ممكنا في نفسه إذ لم أر أحدا خص هذه بما إذا افترقت الأمة بسبب أمر دنيوي لا بسبب بدعة وليس ثم دليل يدل على التخصيص لأن قوله عليه الصلاة و السلام : [ من فارق الجماعة قيد شبر ] الحديث لا يدل على الحصر وكذلك : [ إذ بويع الخليفتان فاقتلوا الآخر منهما ] وقد اختلف الفرقة في المراد بالجماعة المذكورة في الحديث حسبما يأتي فلم يكن منهم قائل بأن الفرقة المضادة للجماعة هي فرقة المعاصي غير البدع على الخصوص
وأما الثاني : وهو أن يراد المعنيان معا فلذلك أيضا ممكن إذ الفرقة المنبه عليها قد تحصل بسبب أمر دنيوي لا مدخل فيها للبدع وإنما هي معاص ومخالفات كسائر المعاضي وإلى هذا المعنى يرشد قول الطبري في تفسير الجماعة ـ حسبما يأتي بحول الله ـ ويعضده حديث الترمذي :
[ ليأتين على أمتي من يصنع ذلك ] ( ؟ ) فجعل الغاية في اتباعهم ما هو معصية كما ترى
وكذلك في الحديث الآخر :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم ـ إلى قوله ـ حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لاتبعتموهم ] فجعل الغاية ما ليس ببدعة
وفي معجم البغوي عن جابر رضي الله عنه [ أن النبي صلى الله عليه و سلم قال لكعب بن عجرة رضي الله عنه : أعاذك الله يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء ـ قال : وما إمارة السفهاء ؟ ـ قال أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون علي الحوض ومن لم يصدقهم على كذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم ويردون علي الحوض ] الحديث
وكل من لم يهتد بهيده ولا يستن بسنته فإما إلى بدعة أو معصية فلا اختصاص بأحدهما غير أن الأكثر في نقل أرباب الكلام وغيرهم أن الفرقة المذكورة إنما هي بسبب الابتداع في الشرع على الخصوص وعلى ذلك حمل الحديث من تكلم عليه من العلماء ولم يعدوا منها المفترقين بسبب المعاصي التي ليست بدع وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء الله
المسألة الثالثة : إن هذه الفرق يحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة
إن هذه الفرقة تحتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجين عن الملة بسبب ما أحدثوا
فهم قد فارقوا أهل الإسلام بإطلاق وليس ذلك إلا لكفر إذ ليس بين المنزلتين منزلة ثالثة تتصور
ويدل على هذا الاحتمال ظواهر من القرآن والسنة كقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } وهي آية نزلت ـ عند المفسرين ـ في أهل البدع ويوضحه من قرأ : { إن الذين فرقوا دينهم } والمفارقة للدين بحسب الظاهر إنما هي الخروج عنه وقوله : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } الآية وهي عند العلماء منزلة في أهل القبلة وهم أهل البدع وهذا كالنص إلى غير ذلك من الآيات
وأما الحديث فقوله عليه الصلاة و السلام : [ لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ] وهذا نص في كفر من قبل ذلك فيه وفسره الحسن بما تقدم في قوله
[ ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا ] الحديث وقوله عليه الصلاة و السلام في الخوارج :
[ دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء ـ وهو القدح ـ ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء من الفرث والدم ] فانظر إلى قوله : [ من الفرث والدم ] فهو الشاهد على أنهم دخلوا في الإسلام فلا يتعلق بهم منه شيء
وفي رواية أبي ذر رضي الله عنه :
[ سيكون بعدي من أمتي قوم يقرؤون القرآن لا يجاوز حلاقيمهم يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه هم شر الخلق والخليقة ] إلى غير ذلك من الأحاديث إنما هي قوم بأعيانهم فلا حجة فيها على غيرهم لأن العلماء استدلوا بها على جميع أهل الأهواء كما استدلوا بالآيات
وأيضا فالآيات إن دلت بصيغ عمومها فالأحاديث تدل بمعانيها لاجتماع الجميع في العلة
فإن قيل : الحكم بالكفر والإيمان راجع إلى حكم الآخرة والقياس لا يجري فيها فالجواب : إن كلا منا في الأحكام الدنيوية وهل يحكم لهم بحكم المرتدين أم لا ؟ وإنما أمر الآخرة لله لقوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون }
ويحتمل أن لا يكونوا خارجين عن الإسلام جملة وإن كانوا قد خرجوا عن جملة من شرائعه وأصوله
ويدل على ذلك جميع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل فلا فائدة في الإعادة
ويحتمل وجها ثالثا وهو أن يكون منهم من فارق الإسلام لكن مقالته كفر وتؤدي معنى الكفر الصريح ومنهم من لم يفارقه بل انسحب عليه حكم الإسلام وإن عظم مقالة وشنع مذهبه لكنه لم يبلغ به مبلغ الخروج إلى الكفر المحض والتبديل الصريح
ويدل على ذلك الدليل بحسب كل نازلة وبحسب كل بدعة إذ لا شك في أن البدع يصح أن يكون منها ما هو كفر كاتخاذ الأصنام لتقربهم إلى الله زلفى ومنها ما ليس بكفر كالقول بالجهة عند جماعة وإنكار الإجماع وإنكار القياس وما أشبه ذلك
ولقد فصل بعض المتأخرين في التكفير تفصيلا في هذه الفرق فقال : ما كان من البدع راجعا إلى اعتقاد وجود إله مع الله كقوله السبئية في علي رضي الله عنه إنه إله أو خلق الإله في بعض أشخاص الناس كقول الجناحية : إن الله تعالى له روح يحل في بعض بني آدم ويتوارث أو إنكار رسالة محمد صلى الله عليه و سلم كقول الغرابية : إن جبريل غلط في الرسالة فأذاها إلى محمد صلى الله عليه و سلم وعلي كان صاحبها أو استباحة المحرمات وإسقاط الواجبات وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر الغلا ة من الشيعة مما لا يختلف المسلمون في التكفير به وما سوى ذلك من المقالات فلا يبعد أن يكونوا معتقدها غير كافر
واستدل على ذلك بأمور كثيرة لا حاجة إلى إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب المحققين من أهل الأصول إن الكفر بالمآل ليس بكفر في الحال كيف والكافر ينكر ذلك المآل أشد الإنكار ويرمي مخالفة به تبني له وجه لزوم الكفر من مقالته لم يقل بها على حال
وإذا تقرر نقل الخلاف فلنرجع إلى ما يقتضيه الحديث الذي نحن بصدده من هذه المقالات
أما ما صح منه فلا دليل على شيء لأنه ليس فيه إلا تعديد الفرق خاصة وأما على رواية من قال في حديثه :
[ كلها في النار إلا واحدة ] فإنما يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ويبقى الخلود وعدمه مسكوتا عنه فلا دليل فيه على شيء مما أردنا إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة المؤمنين كما يتعلق بالكفار على الجملة وإن تباينا في التخليد وعدمه
المسألة الرابعة إن هذه الأقوال المذكورة آنفا مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة
إن هذه الأقوال المذكورة آنفا مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص كالجبرية والقدرية والمرجئة وغيرها وهو مما ينظر فيه فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص وهو رأي الطرطوشي إفلا ترى إلى قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } و ما في قوله تعالى : { ما تشابه } لا تعطى خصوصا في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها بل الصيغة تشمل ذلك كله فالتخصيص تحكم
وكذلك قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء } فجعل ذلك التفريق في الدين ولفظ الدين ويشمل العقائد وغيرها وقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم وشبه ما تقدم في السورة من تحريم ما ذبح لغير الله لغير الله وتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيره وإيجاب الزكاة كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق
ثم قال تعالى : { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا } فذكر أشياء من القواعد وغيرها فابتدأ بالنهي عن الإشتراك ثم الأمر ببر الوالدين ثم النهي عن قتل الأولاد ثم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ثم عن قتل النفس بإطلاق ثم عن أكل مال اليتيم ثم الأمر بتوفية الكيل والوزن ثم العدل في القول ثم الوفاء بالعهد
ثم ختم ذلك بقوله : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
فأشار إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية ولم يخص ذلك بالعقائد فدل على أن إشارة الحديث لا تختص بها دون غيرها
وفي حديث الخوارج ما يدل عليه أيضا فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالهم وقال في جملة ما ذمهم به :
[ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات كما قالوا : حكم الرجال في دين الله والله بقول : { إن الحكم إلا لله }
وقال أيضا :
[ ويقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] فذمهم بعكس ما عليه الشرع لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد
فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص فيما رواه نعيم بن حماد في هذا الحديث :
[ أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] وهذا نص في أن ذلك العدد لا يختص بما قالوا من العقائد
واستدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسار العلماء من تسيتهم الأقوال والأفعال بدعا إذا خالفت الشريعة ثم أتى بآثار كثيرة كالذي رواه مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا لنداء بالصلاة يعني بالناس الصحابة وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ورآها مخالفة لأفعال الصحابة
وكذلك أبو الدراداء سأله رجل فقال : رحمك الله لو أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا هلة ينكر شيئا مما نحن عليه ؟ فغضب واشتد غضبه ثم قال : وهل يعرف شيئا مما أنتم عليه ؟
وفي البخاري عن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدرداء مغضبا فقلت له : ما لك ؟ فقال : والله ما اعرف منهم من أمر محمد أنهم يصلون جميعا وذكر جملة من أقاويلهم في هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة في الأفعال قد ظهرت
وفي مسلم قال مجاهد : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة وإذا ناس في المسجد يصلون الضحى فقلنا : ما هذه الصلاة ؟ فقال : بدعة
قال الطرطوشي : فحمله عندنا على أحد وجهين : إنا أنهم يصلونها جماعة وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماء على أنها بدع فصح أن البدع لا تختص بالعقائد وقد تقررت هذه المسألة في كتاب الموافقات بنوع آخر من التقرير
نعم ثم معنى آخر ينبغي أن يذكر هنا وهي :
المسألة الخامسة أن هذه الفرق إنما تصير فرقا لخلافها للفرقة الناجية وذلك أن هذه الفرق إنما تصير فرقا بخلافها للفرقة الناجية في معنى كلي في الدين وقاعدة من قواعد الشريعة لا في جزئي من الجزئيات إذ الجزئي والفرع الشاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعا وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكلية لأن الكليات تقتضي عددا من الجزئيات غير قليل وشاذها في الغالب أن لا يختص بمحل دون محل ولا بباب دون باب
واعتبر ذلك بمسألة التحسين العقلي فإن المخالفة فيها أنشأت بين المخالفين خلافا في فروع لا تنحصر ما بين فروع عقائد وفروع أعمال
ويجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضا وأما الجزئي فبخلاف ذلك بل بعد وقوع ذلك من المبتدع له كالزلة والفلتة وإن كانت زلة العالم مما يهدم الدين حيث قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون ولكن إذا قرب موقع الزلة لم يحصل بسببها تفرق في الغالب ولا هدم للدين بخلاف الكليات
فأنت ترى موقع اتباع المتشابهات كيف هو في الدين إذا كان اتباعا مخلا بالواضحات وهي أم الكتاب وكذلك عدم تفهم القرآن موقع في الإخلال بكلياته وجزئياته
وقد ثبت أيضا للكفار بدع فرعية ولكنها في الضروريات وما قاربها كجعلهم لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا ولشركائهم نصيبا ثم فرعوا عليه أن ما كان لشركائهم فلا يصل إلى اله وما كان لله وصل إلى شركائهم وتحريمهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وقتلهم أولادهم سفها بغير علم وترك العدل في القصاص والميراث والحيف في النكاح والطلاق وأكل مال اليتيم على نوع من الحيل إلى أشباه ذلك مما نبه عليه الشرع وذكره العلماء حتى صار التشريع ديدنا لهم وتغيير ملة إبراهيم عليه السلام سهلا عليهم فأنشأ ذلك أصلا مضافا إليهم وقاعدة رضوا بها وهي التشريع المطلع لا الهوى ولذلك لما نبههم الله تعالى على إقامة الحجة عليهم بقوله تعالى : { قل آلذكرين حرم أم الأنثيين } قال فيها : { نبئوني بعلم إن كنتم صادقين } فطالبهم بالعلم الذي شأنه أن لا يشرع إلا حقا وهو علم الشريعة لا غيره ثم قال تعالى : { أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا } تنبيها لهم على أن هذا ليس مما شرعه في ملة إبراهيم : ثم قال : { فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم } فثبت أن هذه الفرق إنما افترقت بحسب أمور كلية اختلفوا فيها والله أعلم
المسألة السادسة إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار ـ على قول من قال به ـ أو ينقسمون إلى كافر وغيره فكيف يعدون من الأمة ؟ وظاهر الحديث يقتضي أن ذلك الافتراق إنما هو مع كونهم من الأمة وإلا فلو خرجوا من الأمة إلى الكفر لم يعدوا منها البتة ـ كما تبين :
وكذلك الظاهر في فرق اليهود والنصارى إن التفرق فيهم حاصل مع كونهم هودا ونصارى ؟
فيقال في الجواب عن هذا السؤال : إنه يحتمل أمرين :
أحدهما : أنا نأخذ الحديث على ظاهره في كون هذه الفرق من الأمة ومن أهل القبلة ومن قيل بكفره منهم فإما أن يسلم فيهم هذا القول فلا يجعلهم من الأمة أصلا ولا أنهم مما يعدون في الفرق وإنما نعد منهم من لا تخرجه بدعته إلى كفر فإن قال بتكفيرهم جميعا فلا يسلم أنهم المرادون بالحديث على ذلك التقدير وليس في حديث الخوارج نص على أنهم من الفرق الداخلة في الحديث بل نقول : المراد بالحديث فرق لا تخرجهم بدعهم عن الإسلام فليبحث عنهم
وإما أن لا نتبع المكفر في إطلاق القول بالتكفير ونفصل الأمر إلى نحو مما فصله صاحب القول الثالث ويخرج من العدد من حكمنا بكفره ولا يدخل تحت عمومه إلا ما سواه مع غيره ممن لم يذكر في تلك العدة
والإحتمال الثاني : أن نعدهم من الأمة على طريقة لعلها تتمشى في المواضع وذلك أن كل فرقة تدعي الشريعة وأنها على صوبها وأنها المتبعة للمتبعة لها وتتمسك بأدلتها وتعمل على ما ظهر لها من طريقها ! وهي تناصب العداوة من نسبتها إلى الخروج عنها وترمي بالجهل وعدم العلم من ناقضها لأنها تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط المستقيم دون غيره وبذلك يخالفون من خرج عن الإسلام لأن المرتد إذا نسبته إلى الارتداد أقر به ورضيه ولم يسخطه ولم يعادل لتلك النسبة كسائر اليهود والنصارى وأرباب النحل المخالفة للإسلام
بخلاف هؤلاء الفرق فإنهم مدعون الموالفة للشارع والرسوخ في اتباع شريعة محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم فإنما وقعت العداوة بينهم وبين أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الخروج عن السنة ولذلك تجدهم مبالغين في العمل والعبادة حتى بعض أشد الناس عبادة مفتون
والشاهد لهذا كله ـ مع اعتبار الواقع ـ حديث الخوارج فإنه قال عليه الصلاة و السلام : [ تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم ] وفي رواية :
[ يخرج من أمتي قوم يقرؤون القرآن ليست قراءتكم من قراءتهم بشيء ولا صلاتكم من صلاتهم بشيء ] وهذه شدة المثابرة على العمل به ومن ذلك قولهم كيف يحكم الرجال والله يقول : { إن الحكم إلا لله } ؟ ففي ظنهم أن الرجال لا يحكمون بهذا الدليل ثم قال عليه الصلاة و السلام : [ يقرؤون القرآن يحسبون أنه لهم وهو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ]
فقوله عليه الصلاة و السلام : [ يحسبون أنه لهم ] واضح فيما قلنا ثم إنهم يطلبون اتباعه بتلك الأعمال ليكونوا من أهله وليكون حجة لهم فحين ابتغوا تأويله وخرجوا عن الجادة كان عليهم لا لهم
وفي معنى ذلك من قول [ ابن مسعود قال : وستجدون أقواما يزعمون أنهم يدعون إلى كتاب الله وقد نبذوه وراء ظهورهم عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق عليكم بالعتيق ] فقوله : [ يزعمون ] كذا دليل على أنهم على الشرع فيما يزعمون
ومن الشواهد أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج إلى المقبرة فقال : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ! وإنا إن شاء الله بكم لاحقون وددت أني قد رأيت إخواننا ـ قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ؟ ـ قال : بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد وأنا فرطكم على الحوض قالوا : يا رسول الله كيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك ؟ قال : أرأيت لو كان لأحدكم خيل غر محجلة في خيل دهم بهم ألا يعرف خيله ؟ قالوا : بلى يا رسول الله قال : فإنهم يأتون يوم القيامة غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض فيذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال أناديهم : ألا هلم ألا هلم ! فيقال قد بدلوا بعدك فأقول : فسحقا فسحقا فسحقا ]
فوجه الدليل من الحديث أن قوله : [ فيلذادن رجال عن حوضي ] إلى قوله : [ أناديهم ألا هلم ] مشعر بأنهم من أمته وأنه عرفهم وقد بين أنهم يعرفون بالغرر والتحجيل فدل على أن هؤلاء الذين دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتحجيل وذلك من خاصية هذه الأمة فبأن أنهم معدودن من الأمة ولو حكم لهم بالخروج من الأمة لم يعرفهم رسول الله صلى الله عليه و سلم بغرة أو تحجيل لعدمه عندهم
ولا علينا أقلنا : إنهم خرجوا ببدعتهم عن الأمة أو لا إذ أثبتنا لهم وصف الأنحياش إليها
وفي الحديث الآخر :
[ فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال فأقول : يا رب أصحابي ! قال : فيقال : لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول كما قال العبد الصالح : { وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } إلى قوله : { العزيز الحكيم } ـ قال ـ فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ]
فإن كان المراد بالصحابة الأمة فالحديث موافق لما قبله :
[ بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ] فلا بد من تأويله على أن الأصحاب يعني بهم من آمن بي في حياته وإن لم يره ويصدق لفظ المرتدين على أعقابهم بعد موته أو مانعي الزكاة تأويلا على أن أخذها إنما كان لرسول الله صلى الله عليه و سلم وحده فإن عامة أصحابه رأوه وأخذوا عنه براءة من ذلك
المسألة السابعة في تعيين هذه الفرق وهي مسألة ـ كما قال الطرطوشي ـ طاشت فيها أحلام الخلق فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها لكن في الطرائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أصولها ثمانية فقال : كبار الفرق الإسلامية ثمانية : ( 1 ) المعتزلة و ( 2 ) الشيعة و ( 3 ) الخوارج و ( 4 ) المرجئة و ( 5 ) النجارية و ( 6 ) الجبرية و ( 7 ) المشبهة و ( 8 ) الناجية
فأما المعتزلة فافترقوا إلى عشرين فرقة وهم : الواصلية والعمرية والهذيلية والنظامية والأسوارية والإسكافية والجعفرية والبشرية والمزدارية والهشامية والصالحية والخطابية والحدبية والمعمرية والثمامية والخياطية والجاحظية والكعبية والجبائية والبهشمية
وأما الشيعة فانقمسوا أولا ثلاث فرق : غلاة وزيدية وإمامية
فالغلاة ثمان عشرة فرقة وهم : السبئية والكاملية والبيانية والمغيرية والجناحية والمنصورية والخطابية والغرابية والذمية والهشامية والزرارية واليونسية والشيطانية والرزامية والمفوضة والبدائية والنصيرية والإسماعيلية وهم : الباطنية والقرمطية والخرمية والسبعية والبابكية والحمدية
وأما الزيدية فهم ثلاث فرق : الجارودية والسليمانية والبتيرية
وأما الإمامية ففرقة واحدة فالجميع اثنتان وأربعون فرقة
وأما الخوارج فسبع فرق وهم : المحكمة والبيهسية والأزارقة والنجدات والعبدية والأباضية وهم أربع فرق : الحفصية واليزيدية والحارثية والمطيعية
وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم : الميمونة والشعيبية والحازمية والحمزية والمعلومية والمجهولية والصلتية والثعلبية أربع فرق وهم : الأخنسية والمعبدية والشيبانية والمكرمية فالجميع اثنتان وستون
وأما المرجئة فخمس وهم : العبيدية واليونسية والغسانية والثوبانية والثومنية
وأما النجارية فثلاث فرق وهم : البرغوثية والزعفرانية والمستدركة
وأما الجبرية ففرقة واحدة وكذلك المشبهة
فالجميع اثنتان وسبعون فرقة فإذا أصبغت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثا وسبعين فرقة
وهذا التعديد بحسب ما اعطته المنة في تكلف المطابقة للحديث الصحيح لا على القطع بأنه المراد إذ ليس على ذلك دليل شرعي ولا دل العقل أيضا على إنحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع وقال جماعة من العلماء : أصول البدع أربعة وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا وهم : الخوارج والرواقض والقدرية والمرجئة
قال يوسف بن أسباط : ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة : فتلك اثنتان وسبعون فرقة والثالثة والسبعون هي الناجية
وهذا التقدير نحو الأول ويرد عليه من الإشكال ما ورد على الأول
فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه الله شرحا يقرب الأمر فقال : لم يرد علماؤنا بهذا التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الأربع تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى تحملت تلك العدة لأن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن قال : وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى ولا شعبة من شعبها بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل
ثم بين ذلك بالمثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى
ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر فقال أكثرهم : لا يكون فعل بين فعلين مخلوقين على التولد أحال مثله بين القديم والمحدث
ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة كاختلافهم في الصلاح والأصلح : فقال البغداديون منهم : يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعباده في دينهم
ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم ويجب عليه إكمال عقولهم وإقدارهم وإزاحة عللهم
وقال البصريون منهم : لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف
وقال البغداديون منهم : يجب على الله ـ تعالى عن قولهم ـ عقاب العصاة إذا لم يتوبوا والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر
وأما المضربون منهم ذلك
أحد الموطنين اللذين يجوز فيهما ذكر الفرق بأسمائها وابتدع جعفر بن مبشر من استصر ( ؟ ) امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك وخالفه في ذلك سلفه
وقال ثمامة بن أشرس : إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة لا يعذبهم ولا يعرضهم
وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها وبدعا لا تعلق لها بها
فإن كان رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد بتفرق أمته أصول البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع والمعاقد للفروع لعلهم ـ والعلم عند الله ـ ما بلغن هذا العدد إلى الآن غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع ؟
وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لأجناس أو كانت متغايرة الأصول والمباني
فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة و السلام ـ والعلم عند الله ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين
ووجه تصحيح الحديث على هذا أن تخرج من الحساب غلاة أهل البدع ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة كنفاة الأعراض من القدرية لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة
هذا ما قال الطرطوشي رحمه الله تعالى وهو حسن من التقرير غير أنه يبقى للنظر في كلامه مجلان :
أحدهما : أن ما اختار من ليس المراد الأجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية فمشكل لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدع كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة فلا تقف في مائة ولا مائتين فضلا عن وقوعها في اثنتين وسبعين وأن البدع ـ كما قال ـ لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة
وقد مر من النقل ما يشعر بهذا المعنى وهو قول ابن عباس : ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة حتى تحيا البدع وتموت السنن وهذا موجود في الواقع فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها لكان الذي يبقى أكثر من اثنتين وسبعين فما قاله ـ والله أعلم ـ غير مخلص
والثاني : أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد بخلاف القول المتقدم وهو أصح في النظر لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل والعقل لا يقتضيه وأيضا فالمنازع له أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الأشعرية في قواعد العقائد فرقا يسميها ويبرىء نفسه وفرقته عن ذلك المحظور فالأولى ما قاله من عدم التعيين وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغي التعيين
أما أولا : فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث مرجى وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة و السلام في الخوارج :
[ إن من ضئضىء هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] الحديث مع أنه عليه الصلاة و السلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق وهذا الفصل مبسوط في كتاب الموافقات والحمد لله
وأما ثانيا : فلأن عدم التعيين هو الذين ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة وكذلك في شأن قربانهم : فإنهم كانوا إذا قربوا لله قربانا فإن كان مقبولا عند الله نزلت نار من السماء فأكلته وإن لم يكن مقبولا لم تأكله النار وفي ذلك افتضاح المذنب ومثل ذلك في الغنائم أيضا فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها
وأيضا فللستر حكمة أخرى وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها حيث قال تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وقال تعالى : { فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم } وقال تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وفي الحديث :
[ لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ] وأمر عليه الصلاة و السلام بإصلاح ذات البين وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى
وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة قال :
[ كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة فيقولون : قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان ! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى : أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه و سلم خطب فقال : أيما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنما بعثني الله رحمة للعالمين إجعلها عليهم صلاة يوم القيامة فوالله لتنتهين أو أكتبن إلى عمر ]
فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي الله عنه ! وهو جار في مسألتنا فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول : هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان ! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده اللهم إلا في موطنين :
أحدهما : حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ويجري مجراهم من سلك سبيلهم فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي المغربي فإنه ظهر فيهم الأمران اللذان عرف النبي صلى الله عليه و سلم بهما في الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ولا عرفوا مقاصده ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على الوجه الذي ينبغي وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم
فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيرهم حتى لقد روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الأذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة ـ صنف من الخوارج ـ فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله ؟ قال : ما أنتم يا إخوتي ؟ قالوا : أنت أخو الشيطان لنقتلنك قال ما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالوا : وأي شيء رضي به منك ؟ قال : أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله فخلى عني ـ قال ـ فأخذوه فقتلوه
وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه وقد جاء في القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ]
وعن حذيفة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة و السلام قال :
ثاني الموطنين اللذين يجوز فيهما ذكر الفرق بأسمائها [ لكل أمة مجوس ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر من مات منهم فلا تشهدوا جنازتهم ومن مرض منهم فلا تعودوه وهم شيعة الدجال وحق على الله أن يلحقهم بالدجال ] وهذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل قال صاحب المغني : لم يصح في ذلك شيء نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أ ن القول بالقدر قد ظهر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني ثم استدل :
بحديث جبريل ـ صحيح لا إشكال في صحته
خرج أبو داود أيضا من حديث عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم ] ولم يصح أيضا
وخرج ابن وهب عن زيد بن علي قال :
[ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام يوم القيامة : المرجئة والقدرية ] و [ عن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا آخرهم محمد صلى الله عليه و سلم ] وعن مجاهد بن جبر :
[ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : سيكون من أمتي قدرية وزنديقية أولئك مجوس ]
وعن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام ـ لرجل من أهل الشام ـ فقال عبد الله : بلغني أنه قد أحدث حدثا فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه السلام سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية ]
وعن ابن الديلمي قال : اتينا أبي كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لدخلت النار قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال لي مثل ذلك قال : ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك وفي بعض الحديث :
[ لا تكلموا في القدر فإنه سر الله ] وهذا كله أيضا غير صحيح
وجاء في المرجئة والجهمية شيء لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم فلا تعديل عليه
نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى : { يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر * إنا كل شيء خلقناه بقدر } نزل في أهل القدر فروى عبد بن حميد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :
أتى مشركوا قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ولكن إن صح ففيه دليل وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق وكلامنا فيه
والثاني : حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس وهم من شياطين الإنس فلا بد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره فروى عاصم الأحوال قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال منه فقلت : أبا الخطاب : ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض ؟ فقال : يا أحول أو لا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد وما رأيت من نسكه وهديه فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله فقلت : سبحان الله ! تحك آية من كتاب الله ؟ قال إني سأعيدها قال : فتركته حتى حكها فقلت له : أعدها فقال : لا أستطيع
فمثل هؤلاء لا بد من ذكرهم والتشريد بهم لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعدواة ولا شك أن التفرق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم ـ إذا أقيم ـ عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم وإذا تعارض الضرران يركتب أخفهما وأسهلهما وبعض الشر أهون من جميعه كقطع اليد المتآكلة إتلافها أسهل من إتلاف النفس وهذا شأن الشرع أبدا : يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل
فإذا فقد الأمران فلا ينبغي أن يذكروا لأن يعنيوا وإن وجدوا لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء ومتى حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ولم يره أنه خارج من السنة بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة فهو الحج وبهذه الطريقة دعي الخلق أولا إلى الله تعالى حتى إذا عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك
قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستفزا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل
هذا ما قال وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك والله أعلم
المسألة الثامنة أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها وهي على قسمين : علامات إجمالية وعلامات تفصيلية فأما الإجمالية فثلاث إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا
أنه لما تبين أنهم لا يتعينون فلهم خواص وعلامات يعرفون بها وهي على قسمين :
علامات إجمالية وعلامات تفصيلية
فأما العلامات الإجمالية فثلاث
إحداها : الفرقة التي نبه عليها قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } وقوله تعالى : { وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة } روى ابن وهب عن إبراهيم النخعي أنه قال : هي الجدال والخصومات في الدين وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا } وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وصدق الحديث ]
وهذا التفريق ـ كما تقدم ـ إنما هو الذي يصير الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا
قال بعض العلماء : صاروا فرقا لاتباع أهوائهم وبمفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا وهو قوله تعالى : { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } ثم برأه الله منهم بقوله :
{ لست منهم في شيء } وهم أصحاب البدع وأصحاب الضلالات والكلام فيما لم يأذن الله فيه ولا رسوله
قال : ووجدنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من بعده قد اختلفوا في أحكام الدين ولم يتفرقوا ولا صاروا شيعا لأنهم لم يفارقوا الدين وإنما اختلفوا فيما أذن لهم من اجتهاد إلى الرأي والإستنباط من الكتاب والسنة فيما لم يجدوا فيه نصا واختلف في ذلك أقوالهم فصاروا محمودين لأنهم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلاف أبي بكر وعمر وعلي وزيد في الجد مع الأم وقول عمر وعلي في أمهات الأولاد وخلافهم في الفريضة المشتركة وخلافهم في الطلاق قبل النكاح وفي البيوع وغير ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح وأخوة الإسلام فيما بينهم قائمة فلما حدثت الأهواء المردية التي حذر منها رسول الله صلى الله عليه و سلم وظهرت العداوات وتحزب أهلها فصاروا شيعا دل على أنه إنما حدث ذلك من المسائل المحدثة التي ألقاها الشيطان على أفواه أوليائه
قال : كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة والبغضاء والتدابر والقطيعة علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه و سلم بتفسير الآية
وذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عائشة { إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا } من هم ؟ ـ قلت : الله ورسوله أعلم قال : هم أصحاب الأهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضلالة من هذه الأمة ] الحديث الذي تقدم ذكره
قال : فيجب على كل ذي عقل ودين أن يجتنبها ودليل ذلك قوله تعالى : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك كان لحدث أحدثوه من اتباع الهوى
هذا ما قاله وهو ظاهر في أن الإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين وهذه الخاصية قد دل عليها الحديث المتكلم عليه وهي موجودة في كل فرقة من الفرق المتضمنة في الحديث
ألا ترى كيف كانت ظاهرة في الخوارج الذين أخبر بهم النبي صلى الله عليه و سلم في قوله : [ يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ] : وأي فرقة توازي هذه الفرقة التي بين أهل الإسلام وأهل الكفر ؟ وهي موجودة في سائر من عرف من الفرق أو ادعي ذلك فيهم إلا أن الفرقة لا تعتبر على أي وجه كانت لأنها تختلف بالقوة والضعيف
وحيث ثبت أن مخالفة هذه الفرق من الفروع الجزئية باب الفرقة فلا بد يجب النظر في هذا كله
الخاصية الثانية هي التي نبه عليها قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ الآية
هي التي نبه عليها قوله تعالة : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه } الآية فبينت الآية أن أهل الزيغ يتبعون متشابهات القرآن وجعلوا ممن شأنه أن يتبع المتشابه لا المحكم ومعنى المتشابه : ما أشكل معناه ولم يبين مغزاه سواء كان من المتشابه الحقيقي ـ كالمجمل من الألفاظ وما يظهر من التشبيه ـ أو من المتشابه الإضافي وهو ما يحتاج في بيان معناه الحقيقي إلى دليل خارجي وإن كان في نفسه ظاهر المعنى لبادي الرأي كاستشهاد الخوارج على إبطال التحكيم بقوله : { إن الحكم إلا لله } فإنظاهر الآية صحيح على الجملة وأما على التفصيل فمحتاج إلى البيان وهو ما تقدم ذكره لابن عباس رضي الله عنهما لأنه بين أن الحكم لله تارة بغير تحكيم لأنه إذا أمرنا بالتحكيم فالحكم به حكم الله
وكذلك قولهم : قاتل ولم يسب فإنهم حصروا التحكيم في القسمين وتركوا قسما ثالثا وهو الذي نبه قوله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي } الآية فهذا قتال من غير سبي لكن ابن عباس نبههم على وجه أظهر وهو أن السباء إذا حصل فلا بد من وقوع بعض المقاتلين على أم المؤمنين وعند ذلك يكون حكمها حكم السبايا في الانتفاع بها كالسبايا فيخالفون القرآن الذي ادعوا التمسك به
وكذلك في محو الإسم من إمارة المؤمنين اقتضى عندهم أنه إثبات لإمارة الكافرين وذلك غير صحيح لأن نفي الإسم منها لا يقتضي نفي المسمى
وأيضا : فإن فرضنا أنه يقتضي نفي المسمى لم يقتض إثبات إمارة أخرى فعارضهم ابن عباس بمحو النبي صلى الله عليه و سلم إسم الرسالة من الصحيفة معارضة لا قبل لهم بها ولذلك رجع منهم ألفان ـ أو من رجع منهم ـ
فتأملوا وجه اتباع المتشابهات وكيف أدى إلى الضلال والخروج عن الجماعة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ فإذا رأيتم الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم ]
الخاصية الثالثة إتباع الهوى إتباع الهوى الذي نبه عليه قوله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } والزيغ هو الميل عن الحق اتباعا للهوى وكذلك قوله تعالى : { ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله } وقوله : { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم }
وليس في حديث الفرق ما يدل على هذه الخاصية ولا على التي قبلها إلا ان هذه الخاصية راجعة في المعرفة بها إلى كل أحد في خاصة نفسه لأن اتباع الهوى أمر باطني فلا يعرفه غير صاحبه إذا لم يغالط نفسه إلا أن يكون عليها دليل خارجي
وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنما هو الجهل بمواقع السنة وهو الذي نبه عليه الحديث بقوله :
[ اتخذ الناس رؤساء جهالا ] فكل أحد عالم بنفسه هل بلغ في العلم مبلغ المفتين أم لا ؟ وعالم إذا راجع النظر فيما سئل عنه : هل هو قائل بعلم واضح من غير إشكال أم بغير علم ؟ أم هو على شك فيه ؟ والعالم إذا لم يشهد له العلماء فهو في الحكم باق على الأصل من عدم العلم حتى يشهد فيه غيره ويعلم هو من نفسه ما شهد له به وإلا فهو على يقين من عدم العلم أو على شك فاختيار الإقدام في هاتين الحالتين على الإحجام لا يكون إلا باتباع الهوى إذ كان ينبغي له أن يستفتي في نفسه غيره ولم يفعل وكل من حقه أن لا يقدم إلا أن يقدمه غيره ولم يفعل هذا
قال العقلاء : رأي المستشار أنفع لأنه بريء من الهوى بخلاف من لم يستشر فإنه غير بريء ولا سيما في الدخول في المناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم
فهذا أنموذج ينبه صاحب الهوى في هواه ويضبطه إلى أصل يعرف به هل هو في تصدره إلى فتوى الناس متبع للهوى أم هو متبع للشرع ؟
الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم وأما الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم يعرفونها ويعرفون أهلها فهم المرجوع إليهم في بيان من هم متبع للمحكم فيقلد في الدين ومن هو المتبع للمتشابه فلا يقلد أصلا
ولكن له علامة ظاهرة أيضا نبه عليها الحديث الذي فسرت الآية به قال فيه :
فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم خرجه القاضي إسماعيل بن إسحاق وقد تقدم أول الكتاب فجعل من شأن المتبع للمتشابه أنه يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك إذ المتشابه لا يعطى بيانا شافيا ولا يقف منه متبعه على حقيقة فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به والنظر فيه لا يتخلص له فهو على شك أبدا وبذلك يفارق الراسخ في العلم لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبا لإزالته فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر
وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله
ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلى الله عليه و سلم في عيسى ابن مريم عليهما السلام وأنه الله أو أنه ثالث ثلاثة مستدلين بأمور متشابهات من قوله : فعلنا وخلقنا وهذا كلام جماعة ومن أنه يبرىء الأكمة والأبرص ويحيي الموتى وهو كلام طائفة أخرى ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض والخبر مذكور في السير
والحاصل : انهم إنما أتوا لمناظرة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومجادلته لا يقصدون اتباع الحق
والجدال على هذا الوجه لا ينقطع ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا عنه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه وهو المباهلة وهو قوله تعالى : { فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم } الآية وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله وعن الصلاة كالنرد والشطرنج وغيرهما
وقد نقل عن حماد بن زيد أنه قال : جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمون إلى طلوع الفجر
قال : فلما صلوا جعل عمرو يقول : هيه أبا معمر ! هيه أبا معمر ! فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الجدال في المسائل مع كل أحد من أهل العلم ثم لا يرجع ولا يرعوي فاعلموا أنه زيغ القلب متبع للمتشابه فاحذروه
وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام وأما ما يرجع للأول فعامة لجميع العقلاء من الإسلام لأن التواصل والتقاطع معروف عند الناس كلهم وبمعرفته يعرف أهله وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إلى الافتراق شيعا بقوله :
[ وستفترق هذه الأمة على كذا ] ولكن هذا الافتراق إنما يعرف بعد الملابسة والمداخلة وأما قبل ذلك فلا يعرفه كل أحد فله علامات تتضمن الدلالة على التفرق أولها : مفاتحة الكلام وذلك إلقاء المخالف لمن لقيه ذم المتقدمين ممن اشتهر علمهم وصلاحهم واقتداء الخلف بهم ويختص بالمدح من لم يثبت له ذلك من شاذ مخالف لهم وما أشبه ذلك
وأصل هذه العلامة في الاعتبار تكفير الخوارج ـ لعنهم الله ـ الصحابة الكرام رضي الله عنهم فإنهم ذموا من مدحه الله ورسوله واتفق السلف الصالح على مدحهم والثناء عليهم ومدحوا من اتفق السلف الصالح على ذمه كعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي رضي الله عنه وصوبوا قتله إياه وقالوا : إن في شأنه نزل قوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } وأما التي قبلها وهي قوله : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا } فإنها نزلت في شأن علي رضي الله عنه وكذبوا ـ قاتلهم الله ـ وقال عمران بن حطان في مدحه لابن ملجم
( يا ضربة من تقي ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا )
( إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفي البرية عند الله ميزانا )
وكذب ـ لعنه الله ـ فإذا رأيت من يجري على هذا الطريق فهو من الفرق المخالفة وبالله التوفيق
وروي عن إسماعيل بن علية قال : حدثني اليسع قال : تكلم واصل بن عطاء يوما ـ يعني المعتزلي ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن و ابن سيرين ـ عندما تسمعون ـ إلا خرقة حيض ملقاة
روي أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلام على الفقه فكان يقول : إن علم الشافعي و أبي حنيفة جملته لا يخرج من سراويل امرأة
هذا كلام هؤلاء الزائغين قاتلهم الله
والعلامة التفصيلية وأما العلامة التفصيلية في كل فرقة فقد نبه عليها و أشير إلى جملة منها في الكتاب والسنة وفي ظني أن من تأملها في كتاب الله وجدها منبها عليها ومشارا إليها ولولا أنا فهمنا من الشرع الستر عليها لكان في الكلام في تعيينها مجال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي وقد كنا هممنا بذلك في ماضي الزمان فغلبنا عليه ما دلنا على أن الأولى خلاف ذلك
فأنت ترى أن الحديث الذي تعرضنا لشرحه لم يعين في الرواية الصحيحة واحدة منها لهذا المعنى المذكور والله أعلم ـ وإنما نبه عليه في الجملة لتحذر مظانها وعين في الحديث المحتاج إليه منها وهي الفرقة الناجية ليتحراها المكلف وسكت عن ذلك في الرواية الصحيحة لأن ذكرها في الجملة يفيد الأمة الخوف من الوقوع فيها وذكر في الرواية الأخرى فرقة من الفرق الهالكة لأنها ـ كما قال ـ أشد الفرق على الأمة وبيان كونها أشد فتنة من غيرها سيأتي آخرا إن شاء الله
المسألة التاسعة التوفيق بين روايات حديث الفرق إن الرواية الصحيحة في الحديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعين وهي رواية ابي داود على الشك ! إحدى وسبعين ؟ أو ثنتين وسبعين ؟ وأثبت في الترمذي
في الرواية الغريبة لبني إسرائيل الثنتين والسبعين لأنه لم يذكر في الحديث افتراق النصارى وذلك ـ والله أعلم ـ لأجل أنه إنما أجرى في الحديث ذكر بني إسرائيل فقط لأنه ذكر فيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : [ قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى إن كان منهم من أتى أمة علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت على اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي ] الحديث وفي أبي داود اليهود والنصارى معا إثبات الثنتين والسبعين من غير شك
وخرج الطبري وغيره الحديث على أن بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين ملة وافترقت هذه الأمة على ثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة
فإن بنينا على إثبات إحدى الروايتين فلا إشكال لكن في رواية الإحدى والسبعين تزيد هذه الأمة فرقتين وعلى رواية الاثنتين والسبعين تزيد فرقة واحدة وثبت في بعض كتب الكلام في نقل الحديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعين وأن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة ووافقت سائر الروايات في افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ولم أر هذه الرواية هكذا فيما رأيته من كتب الحديث إلا ما قوع في جامع ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه ـ وسيأتي
وإن ينينا على إعمال الروايات فيمكن أن تكون رواية الإحدى والسبعين وقت أعلم بذلك ثم أعلم بزيادة فرقة أما أنها كانت فيهم ولم يعلم بها النبي صلى الله عليه و سلم في وقت آخر وإما أن تكون جملة الفرق في الملتين ذلك المقدار فأخبر به ثم حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخبر ذلك عليه الصلاة و السلام وعلى الجملة فيمكن أن يكون الاختلاف بحسب التعريف بها أو الحدوث والله أعلم بحقيقة الأمر
المسألة العاشرة الفرقة الناجية في هذه الأمة وفي غيرها هذه الأمة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الأخرى اليهود والنصارى فالثنتان والسبعون من الهالكين المتوعدين بالنار والواحدة في الجنة فإذا انقسمت هذه الأمة بحسب هذا الافتراق قسمين : قسم في النار وقسم في الجنة ولم يبين ذلك في فرق اليهود ولا في فرق النصارى إذ لم يبين الحديث أن لا تقسيم لهذه الأمة فيبقى النظر : هل في اليهود والنصارى فرقة ناجية أم لا ؟ وينبني على ذلك نظران : هل زادت هذه الأمة فرقة هالكة : أم لا ؟ وهذا النظر وإن كان لا ينبني عليه لكنه من تمام الكلام في الحديث
فظاهر النقل في مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى لا بد أن يوجد فيها من آمن بكتابه وعمل بسنته كقوله تعالى : { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون } ففيه إشارة إلى أن منهم من لم يفسق وقال تعالى : { فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } وقال تعالى : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } وقال تعالى : { منهم أمة مقتصدة } وهذا كالنص
وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ أيما رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران ] فهذا يدل بإشارته على العمل بما جاء به نبيه وخرج عبد الله بن عمر [ عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : يا عبد الله بن مسعود : ـ قلت : لبيك رسول الله قال ـ أتدري أي عرى الإيمان أوثق ؟ ـ قال ـ قلت : الله ورسوله أعلم قال : الولاية في الله والحب في الله والبغض فيه ـ ثم قال : يا عبد الله بن مسعود ! ـ قلت : لبيك رسول الله ! ثلاث مرات قال ـ أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال ـ فإن أفضل الناس أفضلهم عملا إذا فقهوا في دينهم ـ ثم قال ـ يا عبد الله بن مسعود ! ـ قلت لبيك يا رسول الله ! ثلاث مرات قال ـ هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس وإن كان مقصرا في العمل وإن كان يزحف على استه واختلف من قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منهم ثلاث وهلك سائرها فرقة آذت الملوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مريم حتى قتلوا وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فأخذتهم الملوك وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم يكن لهم طاقة بمؤاذاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وهربوا فيها فهم الذين قال الله عز و جل فيهم : { ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون } ] فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا بي وجحدوا بي فأخبر أن فرقا ثلاثا نجت من تلك الفرق المعدودة والباقية هلكت
وخرج ابن وهب من حديث علي رضي الله عنه أنه دعا رأس الجالوت وأسقف النصارى فقال : إني سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فلا تكتما يا رأس جالوت ! أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى وأطعمكم المن والسلوى وضرب لكم في البحر طريقا يبسا وجعل لكم الحجر الطوري يخرج لكم منه اثنتي عشرة عينا لكل سبط من بني إسرائيل عين ! إلا ما أخبرتني على كم افترقت اليهود من فرقة بعد موسى ؟ فقال له : ولا فرقة واحدة فقال له علي : كذبت والذي لا إله إلا هو لقد افترقت على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة
ثم دعا الأسقف فقال : انشدك الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعل على رجله البركة واراكم العبرة فأبرأ الأكمة والأبرص وأحيا الموتى وصنع لكم من الطين طيورا وأنبأكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم فقال : دون هذا الصدق يا أمير المؤمنين فقال له علي رضي الله عنه كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مريم من فرقة ؟ قال : لا والله ولا فرقة فقال ثلاث مرات : كذبت والله الذي لا إله إلا الله لقد افترقت على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة فقال : أما أنت يا يهودي ! فإن الله يقول : { ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهي التي تنجو وأما نحن فيقول الله فينا : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون } فهذه التي تنجو من هذه الأمة ففي هذا أيضا دليل
وخرجه الآجري أيضا من طريق أنس بمعنى حديث علي رضي الله عنه : إن واحدة من فرق اليهود ومن فرق النصارى في الجنة
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره من حديث عبد الله : أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد فقست قلوبهم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتهم وكان الحق يحول بين كثير من شهواتهم حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون فقالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم وإن خالفوكم فاقتلوهم قالوا : لا ! بل أرسلوا إلى فلان ـ رجل من علمائهم ـ فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يخالفكم أحد بعده وإن خالفكم فاقتلوه فلن يختلف علقها في عنقه ثم لبس عليها الثياب ثم أتاهم فعرضوا عليه الكتاب فقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فأومأ إلى صدره فقال : آمنت بهذا وما لي لا أؤمن بهذا ؟ ( يعني الكتاب الذي في القرن ) فخلوا سبيله وكان له أصحاب يغشونه فلما مات نبشوه فوجدوا القرن ووجدوا الكتاب فقالوا : ألا ترون قوله : آمنت بهذا وما لي لا أؤمن بهذا ؟ وإنما عنى هذا الكتاب فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة وخير مللهم أصحاب ذلك القرن ـ قال عبد الله ـ : وإن من بقي منكم سيرى منكرا بحسب أمره يرى منكرا لا يستطيع أن يغيره إن يعلم الله من قلبه خيرا كاره
فهذا الخبر يدل على أن في بني إسرائيل فرقة كانت على الحق الصريح في زمانهم لكن لا أضمن عهدة صحته ولا صحة ما قبله
وإذا ثبت أن في اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون في هذه الأمة فرقة ناجية زائدة على رواية الثنتين والسبعين أو فرقتين بناء على رواية الإحدى والسبعين فيكون لها نوع من التفرق لم يكن لمن تقدم من أهل الكتاب لأن الحديث المتقدم أثبت أن هذه الأمة تبعث من قبلها من أهل الكتابين في أعيان مخالفتها فثبت أنها تبعتها في أمثال بدعتها وهذه هي :
===========================================================
====================ج4..............................................
.. ج3 وج4. الكتاب : الاعتصام المؤلف : الشاطبي
الكتاب : الاعتصام
المؤلف : الشاطبي
المسألة الحادية عشرة اتباع الأمة سنن من قبلها فإن الحديث الصحيح قال :
[ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذارع حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم ـ قلنا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ ـ قال فمن ؟ ] زيادة إلى حديث الترمذي الغريب فدل ضرب المثال في التعيين على أن الاتباع في أعيان أفعالهم
وفي الصحيح [ عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل خيبر ونحن حديثو عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون حولها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا : يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال لهم النبي صلى الله عليه و سلم : الله أكبر كما قالت بنو إسرائيل { إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون } لتركبن سنن من كان قبلكم ] وصار حديث الفرق بهذا التفسير صادقا على أمثال البدع التي تقدمت لليهود والنصارى وأن هذه الأمة تبتدع في دين الله مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة لم تتقدمها واحدة من الطائفتين ولكن هذه البدعة الزائدة إنما تعرف بعد معرفة البدع الأخر وقد مر أن ذلك لا يعرف أو لا يسوغ التعريف به وإن عرف فكذلك لا تتعين البدعة الزائدة والله أعلم
وفي الحديث أيضا عن أي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بما أخذ القرون من قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع فقال رجل : يا رسول الله ! كما فعلت فارس والروم ؟ قال : وهل الناس إلا أولئك ] وهو بمعنى الأول إلا أنه ليس فيه ضرب مثل فقوله : [ حتى تأخذ أمتي أخذ القرون من قبلها ] يدل على أنها تأخذ بمثل ما أخذوا به إلا أنه لا يتعين في الاتباع لهم أعيان بدعهم بل قد تتبعها في أعيانها وتتبعها في أشباهها فالذي يدل على الأول قوله : [ لتتبعن سنن من كان قبلكم ] الحديث فإنه قال فيه : [ حتى لو دخلوا في جحر ضب خرب لاتبعتموهم ]
والذي يدل على الثاني قوله : [ فقلنا يا رسول الله : اجعل لنا ذات أنواط فقال عليه السلام : هذا كما قالت بنو إسرائيل : { إسرائيل البحر فأتوا } ] الحديث فإن اتخاذ ذات أنواط يشبه اتخاذ الآلهة من دون الله لا أنه هو بنفسه فلذلك لا يلزم الاعتبار بالمنصوص عليه ما لم ينص عليه مثله من كل وجه والله أعلم
المسألة الثانية عشرة كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله في المشيئة أنه عليه الصلاة و السلام أخبر أنها كلها في النار وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت كل واحدة منها معصية كبيرة أو ذنبا عظيما إذ قدر تقرر في الأصول أن ما يتوعد الشر عليه فخصوصيته كبرة إذ لم يقل : [ كلها في النار ] إلا من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن السواد الأعظم وعن جماعته وليس ذلك إلا لبدعة مفرقة إلا أنه ينظر في هذا الوعيد هل هو أبدي أم لا ؟ وإذا قلنا : إنه غير أبدي : هل هو نافذ أم في المشيئة
أما المطلب الأول : فينبني على أن بعض البدع مخرجة من الإسلام أو ليست مخرجة والخلاف في الخوارج وغيرهم من المخالفين في العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول بالتكفير لزم منه تأبيد التحريم على القاعدة إن الكفر والشرك لا يغفره الله سبحانه
يحتمل عدم التكفير أمران أحدهما نفوذ الوعيد وإذا قلنا بعدم التكفير فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين :
أحدهما : نفوذ الوعيد من غير غفران ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث
وقوله هنا : [ كلها في النار ] أي مستقرة ثابتة فيها
والأمر الثاني من احتمال التكفير أن يكون مقيدا بالمشيئة فإن قيل : ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة قيل : بلى قد قال به طائفة منهم في بعض الكبائر في مشيئة الله تعالى لكن دلهم الدليل في خصوص كبائر على أنها خارجة عن ذلك الحكم ولا بد من ذلك فإن المتبع هو الدليل فكما دلهم على أن أهل الكبائر على الجملة في المشيئة كذلك دلهم على تخصيص ذلك العموم الذي في قوله تعالى : { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فإن الله تعالى قال : { ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم } فأخبر أولا أن جزاءه جهنم وبالغ في ذلك بقوله تعالى : { خالدا فيها } عبارة عن طول المكث فيها ثم عطف بالغضب ثم بلعنته ثم ختم ذلك بقوله تعالى : { وأعد له عذابا عظيما } والإعداد قبل البلوغ إلى المعد مما يدل على حصوله للمعد له ولأن القتل اجتمع فيه حق لله وحق المخلوق وهو المقتول
قال ابن رشد : ومن شرط صحة التوبة من مظالم العباد تحللهم أو رد التباعات إليهم وهذا مما لا سبيل إلى القاتل إليه إلا بأن يدرك المقتول حيا فيعفو عنه نفسه
وأولى من هذه العبارة أن نقول : ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على المجني عليه : إما ببذل القيمة له وهو أمر لا يمكن بعد فوت المقتول فكذلك لا يمكن في صاحب البدعة من جهة الأدلة فراجع ما تقدم في الباب الثاني تجد فيه كثيرا من التهديد والوعيد المخوف جدا
وانظر في قوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } فهذا وعيد ثم قال تعالى : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وتسويد الوجوه علامة الخزي ودخول النار ثم قال تعالى : { أكفرتم بعد إيمانكم } وهو تقريع وتوبيخ ثم قال تعالى : { فذوقوا العذاب } وهو تأكيد آخر
وكل هذا التقرير بناء على أن المراد بالآيات أهل القبلة من أهل البدع
لأن المبتدع إذا اتبع في بدعته لم يمكنه التلافي ـ غالباـ فيها ولم يزل أثرها في الأرض يستطيل إلى قيام الساعة وذلك كله بسببه فهي أدهى من قتل النفس
قال مالك رحمة الله عليه : إن العبد لو ارتكب جميع الكبائر بعد أن لا يشرك بالله شيئا وجبت له ارفع المنازل لأن كل ذنب بين العبد وربه هو منه على رجاء وصاحب البدعة ليس هو منها على رجاء إنما يهوى به في نار جهنم فهذا منه نص في إنفاذ الوعيد
والثاني : أن يكون مقيدا بأن يشاء الله تعالى إصلاءهم في النار وإنما حمل قوله : [ كلها في النار ] أي هي ممن يستحق النار كما قالت الطائفة الأخرى في قوله تعالى : { فجزاؤه جهنم خالدا فيها } أي ذلك جزاؤه إن لم يعف الله عنه فإن عفا عنه فله العفو إن شاء الله لقوله تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إلى أن القاتل في المشيئة وإن لم يكن الاستدراك كذلك يصح أن يقال هنا بمثله
المسألة الثالثة عشرة إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلاة و السلام : إلا واحدة قد أعطى بنصه قوله أن الحق واحد لا يختلف
إن قوله عليه الصلاة و السلام : [ إلا واحدة ] قد أعطى بنصه أن الحق واحد لا يختلف إذ لو كان للحق فرق أيضا لم يقل [ إلا واحدة ] ولأن الاختلاف منفي عن الشريعة بإطلاق لأنها الحاكمة بين المختلفين لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } إذ رد التنازع إلى الشريعة فلو كانت الشريعة تقتضي الخلاف لم يكن في الرد إليها فائدة وقوله : { في شيء } نكرة في سياق الشرط فهي صيغة من صيغ العموم فتنتظم كل تنازع على العموم فالرد فيها لا يكون إلا لأمر واحد فلا يسع أن يكون أهل الحق فرقا وقال تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل } وهو نص فيما نحن فيه فإن السبيل الواحد لا يقتضي الافتراق بخلاف السبل المختلفة
فإن قيل : فقد تقدم في المسألة العاشرة في حديث ابن مسعود :
[ واختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها ] إلى آخر الحديث فلو لزم ما قلت لم يجعل أولئك الفرق ثلاثا وكانوا فرقة واحدة وحين بينوا ظهر كلهم على الحق والصواب فكذلك يجوز أن تكون الفرق في هذه الأمة لولا أن الحديث أخبر أن الناجية واحدة
فالجواب أولا : أن ذلك الحديث لم نشترط الصحة في نقله إذ لم نجده في الكتب التي لدينا المشترط فيها الصحة
وثانيا : أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلاثا فإنما عدت هناك واحدة لعدم الاختلاف بينهم في أصل الاتباع وإنما الاختلاف في القدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو عدمها وفي كيفية الأمر والنهي خاصة
فهذه الفرق لا تنافي صحة الجمع بينهما فنحن نعلم أن المخاطبين في ملتنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على مراتب : فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم الملوك والحكام ومن أشبههم ومنهم من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ومنهم من لا يقدر إلا بالقلب ـ إما مع البقاء بين ظهرانيهم إذ لم يقدر على الهجرة أو مع الهجرة إن قدر عليها ـ وجميع ذلك خطة واحدة من خصال الإيمان ولذلك جاء في الحديث قوله عليه الصلاة و السلام : [ ليس بعد ذلك من الإيمان حبة خردل ]
فإذا كان كذلك فلا يضرنا عد الناجية في بعض الأحاديث ثلاثا باعتبار وعدها واحدة باعتبار آخر وإنما يبقى النظر في عدها اثنتين وسبعين فتصير بهذا الاعتبار سبعين وهو معارض لما تقدم من جهة الجمع بين فرق هذه الأمة وفرق غيرها مع قوله : [ لتركبن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع ]
ويمكن أن يكون في الجواب أحد أمرين : إما أن يترك الكلام في هذا رأسا إذا خالف الحديث الصحيح لأنه ثبت فيه [ إحدى وسبعين ] وفي حديث ابن مسعود : [ ثنتين وسبعين ]
وإما أن يتأول أن الثلاثة التي نجت ليست فرقا ثلاثا وإنما هي فرقة واحدة انقمست إلى المراتب الثلاث لأن الرواية الواقعة في تفسير عبد بن حميد هي قوله [ نجا منها ثلاث ] ولم يفسرها بثلاث فرق وإن كان هو ظاهر المساق ولكن قصد الجمع بين الروايات ومعاني الحديث ألجأ إلى ذلك والله أعلم بما أراد رسوله من ذلك
وقوله عليه الصلاة و السلام : [ كلها في النار إلا واحدة ] ظاهر في العموم لأن كلا من صيغ العموم وفسره الحديث الآخر : [ ثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة ] وهذا نص لا يحتمل التأويل
المسألة الرابعة عشرة أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة
أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يعين من الفرق إلا فرقة واحدة وإنما تعرض لعدها خاصة وأشار إلى الفرق الناجية حين سئل عنها وإنما وقع ذلك كذلك ولم يكن الأمر بالعكس لأمور :
أحدها : أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان بالنسبة إلى تعبد المكلف والأحق بالذكر إذ لا يلزم تعيين الفرق الباقية إذا عينت الواحدة وأيضا لو عينت الفرق كلها إلا هذه الأمة لم يكن بد من بيانها لأن الكلام فيها يقتضي ترك أمور وهي البدع والترك للشيء لا يقتضي فعل شيء آخر لا ضدا ولا خلافا فذكر الواحدة هو المفيد على الإطلاق
أسباب تعيين النبي صلى الله عليه و سلم الفرقة الناجية فقط وهي ثلاثة أحدها أن تعيين الفرقة الناجية هو الآكد في البيان والثاني أن ذلك أوجز
والثاني : أن ذلك أوجز لأنه إذا ذكرت نحلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها مما يخالفها ليس بناج وحصل التعيين بالاجتهاد بخلاف ما إذا ذكرت الفرق إلا الناجية فإنه يقتضي شرحا كثيرا ولا يقتضي في الفرقة الناجية اجتهاد لأن إثبات العبادات التي تكون مخالفتها بدعا لا حظ للعقل في الاجتهاد فيها
السبب الثاني أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه والثالث : أن ذلك أحرى بالستر كما تقدم بيانه في مسألة الفرق ولو فسرت لناقض ذلك قصد الستر ففسر ما يحتاج إليه وترك ما لا يحتاج إليه إلا من جهة المخالفة فللعقل وراء ذلك مرمى تحت أذيال الستر والحمد لله فبين النبي صلى الله عليه و سلم ذلك بقوله [ ما أنا عليه وأصحابي ] ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ [ قالوا : من هي يا رسول الله ؟ ] فأجاب بأن الفرقة الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلاة و السلام وأوصاف أصحابه وكان ذلك معلوما عندهم غير خفي فاكتفوا به وربما يحتاج إلى تفسير بالنسبة إلى من بعد تلك الأزمان
حال الصحابة وكون الإمام المتبع القرآن وحاصل الأمر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بهديه وقد جاء مدحهم في القرآن الكريم وأثنى على متبوعهم محمد صلى الله عله وسلم وإنما خلقه صلى الله عليه و سلم القرآن فقال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } فالقرآن إنما هو المتبوع على الحقيقة وجاءت السنة مبينة له فالمتبع للسنة متبع للقرآن والصحابة كانوا أولى الناس بذلك فكل من اقتدى بهم فهو من الفرقة الناجية الداخلية للجنة بفضل الله وهو معنى قوله عليه الصلاة و السلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ]
الكتاب والسنة هما الصراط المستقيم وغيرهما تابع لهما فالكتاب والسنة هو الطريق المستقيم وما سواهما من الإجماع وغيره فناشىء عنهما هذا هو الوصف الذي كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه وهو معنى ما جاء في الرواية الأخرى من قوله : [ وهي الجماعة ] لأن الجماعة في وقت الإخبار كانوا على ذلك الوصف إلا أن في لفظ الجماعة معنى تراه بعد إن شاء الله
إدعاء كل من رضي بلقب الإسلام أنه من الفرقة الناجية ثم إن في هذا التعريف نظرا لا بد الكلام عليه فيه ( ؟ ) وذلك أن كل داخل تحت راية الإسلام من سني أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل في غمار تلك الفرقة إذ لا يدعي خلاف ذلك إلا من خلع ربقة الإسلام وانحاز إلى فئة الكفر كاليهود والنصارى وفي معناهم من دخل بظاهره وهو معتقد غيره كالمنافقين وأما من لم يرض لنفسه إلا بوصف الإسلام وقاتل سائر الملل على هذه الملة فلا يمكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها ـ وهو مدع أحسنها ـ وهو المعلم ( ؟ ) فلو علم المبتدع أنه مبتدع لم يبق على تلك الحالة ولم يصاحب أهلها فضلا عن أن يتخذها دينا يدين به لله وهو أمر مركوز في الفطرة لا يخالف فيه عاقل
تنازع الفرق وتعبير كل منها عن نفسها فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها في فرقة النجاة ألا ترى أن المبتدع آخذ أبدا في تحسين حاليته شرعا وتقبيح حالة غيره ؟ فالظاهر يدعي أنه المبتع للسنة
والغاش ( ؟ ) يدعي أنه الذي فهم الشريعة وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الموحد
والقائل باستقلال العبد يدعي أنه صاحب العدل وكذلك سمى المعتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد
والمشبه يدعي أنه المثبت لذات الباري وصفاته لأن نفي التشبيه عنده نفي محض وهو العدم
وكذلك كل طائفة من الطوائف التي ثبت لها اتباع الشريعة أو لم يثبت لها
وإذا رجعنا إلى الاستدلالات القرآنية أو الشنية على الخصوص فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا
فالخوارج تحتج بقوله عليه الصلاة و السلام : [ لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله ] وفي رواية :
[ لا يضرهم خلاف من خالفهم ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد ]
والقاعدة يحتج بقوله :
[ عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة ومن فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ] وقوله : [ كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ]
والمرجئي يتحج بقوله : [ من قال لا إله إلا الله مخلصا من قلبه فهو في الجنة وإن زنى وإن سرق ]
والمخالف له محتج بقوله : [ لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ]
والقدري يحتج بقوله تعالى : { فطرة الله التي فطر الناس عليها } وبحديث : [ كل مولود يولد على الفطرة ] الحديث
والمفوض يحتج بقوله تعالى : { ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها } وبحديث : [ اعملوا فكل ميسر لما خلق له ]
والرافضة تحتج قوله عليه الصلاة و السلام : [ ليردن الحوض أقوام ثم ليتخلفن دوني فأقول : يا رب أصحابي ! فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ثم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ] ويحتجون في تقديم علي رضي الله عنه ك بـ : [ أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي ] و : [ من كنت مولاه فعلي مولاه ] ومخالفوهم يحتجون في تقديم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بقوله : [ اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ويأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر ] إلى أشباه ذلك مما يرجع إلى معناه
والجمع محومون ـ في زعمهم ـ على الانتظام في سلك الفرقة الناجية وإذا كان كذلك أشكل على المبتدع في النظر ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه ولا يمكن أن يكون مذهبهم مقتضى هذه الظواهر فإنها متدافعة متناقضة وإنما يمكن الجمع فيها إذا جعل بعضها أصلا فيرد الآخر إلى ذلك الأصل بالتأويل
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الأدلة وترد ما سواها إليها أو تهمل اعتبارها بالترجيح إن كان الموضع من الظنيات التي يسوغ فيها الترجيح أو تدعي أن أصلها الذي ترجع إليه قطعي والمعارض له ظني فلا يتعارضان
وإنما كانت طريقة الصحابة ظاهرة في الأزمنة المتقدمة أما وقد استقرت مآخذ الخلاف فمحال وهذا الموضع مما يتضمنه قول الله تعالى : { ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم }
فتأملوا ـ رحمكم الله ـ كيف صار الاتفاق محالا في العادة ليصدق العقل بصحة ما أخبر الله به
والحاصل أن تعيين هذه الفرقة الناجية في مثل زماننا صعب ومع ذلك فلا بد من النظر فيه وهو نكتة هذا الكتاب فليقع به فضل اعتناء ما هيأه الله وبالله التوفيق
ولما كان ذلك يقتضي كلاما كثيرا أرجأنا القول فيه إلى باب آخر وذكره فيه على حدته إذ ليس هذا موضع ذكره والله المستعان
المسألة الخامسة عشرة أنه قال عليه الصلاة و السلام : كلها في النار إلا واحدة فهل يدخل في الهالكة المبتدع في الجزيئات كالمبتدع في الكليات ؟
أنه قال عليه الصلاة و السلام : [ كلها في النار إلا واحدة ] وحتم ذلك وقد تقدم أنه لا يعد من الفرق إلا المخالف في أمر كلي وقاعدة عامة ولم ينتظم الحديث ـ على الخصوص ـ إلا أهل البدع المخالفين للقواعد وأما من ابتدع في الدين لكنه لم يبتدع ما ينقض أمرا كليا أو يخرم أصلا من الشرع عاما فلا دخول له في النص المذكور فينظر في حكمه : هل يلحق بمن ذكر أو لا ؟
والذي يظهر في المسألة أحد أمرين : إما أن نقول : إن الحديث لم يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ولا معنى إلا أن ذلك يؤخذ من عموم الأدلة المتقدمة كقوله :
[ كل بدعة ضلالة ] وما أشبه ذلك وإما أن نقول : إن الحديث وإن لم يكن في لفظه دلالة ففي معناه ما يدل على قصده في الجملة وبيانه تعرض لذكر الطرفين الواضحين
أحدهما : طرف السلامة والنجدة من غير داخلة شبهة ولا إلمام بدعة وهو قوله :
[ ما أنا عليه وأصحابي ]
والثاني : طرف الإغراق في البدعة وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو تخرم أصلا كليا جريا على عادة الله في كتابه العزيز لأنه تعالى لما ذكر أهل الخير وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأهلي ما يحمل من خير أو شر ليبقى المؤمن فيها بين الطرفين خائفا راجيا إذ جعل التنبيه بالطرفين الواضحين فإن الخير على مراتب بعضها أعلى من بعض والشر على مراتب بعضها أشد من بعض فإذا ذكر أهل الخير الذين في أعلى الدرجات خاف أهل الخير الذين دونهم أن لا يلحقوا بهم أو رجوا أن يلحقوا بهم وإذا ذكر أهل الشر الذين في أسفل المراتب خاف أهل الشر الذين دونهم أن يلحقوا بهم أو رجوا أن لا يلحقوا بهم
وهذا المعنى معلوم بالاستقراء وذلك الاستقراء ـ إذ تم ـ يدل على قصد الشارع إلى ذلك المعنى ويقويه ما روى سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الرحمن بن ساباط قال : لما بلغ الناس أن أبا بكر يريد أن يستخلف عمرا قالوا : ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا ـ ةهة لا يقدر على شيء ـ فكيف لو قدر فبلغ ذلك أبا بكر فقال : أبربي تخوفوني ؟ أقول : استخلفت خير خلقك ثم أرسل إلى عمر فقال إن لله عملا بالليل لا يقبله بالنهار وعملا بالنهار لا يقبله بالليل واعلم أنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة ألم تر أن الله ذكر أهل الجنة بأحسن اعمالهم ! وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حتى يقول القائل : عملي خير من هذا ألم تر أن الله أنزل الرغبة والرهبة لكي يرغب المؤمن فيعمل ويرهب فلا يلقي بيده إلى التهلكة ؟ ألم تر أنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يثقل ألم تر إنما خفت موزاين من خفت موازينه بابتاعهم الباطل وتركهم الحق ؟ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف ـ ثم قال ـ : أما إن حفظت وصيتي لم يكن غائب أحب إليك من الموت وأنت لا بد لاقيه وإن ضيعت وصيتي لم يكن غائب أبغض غليك من الموت ولا تعجزه
وهذا الحديث وإن لم يكن هنالك ولكن معناه صحيح يشهد له الاستقراء لمن تتبع آيات القرآن الكريم ويشهد لما تقدم من أن هذا المعنى مقصود استشهاد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمثله إذ رأى بعض أصحابه وقد اشترى لحما بدرهم : أين تذهب بكم هذه الآية : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } والآية إنما نزلت في الكفار لقوله تعالى : { ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم } الآية إلى أن قال تعالى : { فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون } ولم يمنعه رضي الله عنه إنزالها في الكفار من الاستشهاد بها في مواضع اعتبارا بما تقدم وهو أصل شرعي تبين في كتاب الموافقات
فالحاصل أن من عد الفرق من المبتدعة الابتداع الجزئي لا يبلغ مبلغ أهل البدع في الكليات في الذم والتصريح بالوعيد بالنار ولكنهم اشتركوا في المعنى المقتضي للذم والوعيد كما اشترك في اللفظ صاحب اللحم ـ حين تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما في اجتهاد عمر ـ مع من أذهب طيباته في حياته الدنيا من الكفار وإن كان ما بينهما من البون البعيد والقرب والبعد من العارف المذموم بحسب ما يظهر من الأدلة للمجتهد وقد تقدم بسط ذلك في بابه والحمد لله
المسألة السادسة عشرة أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية هي الجماعة محتاجة إلى التفسير
أن رواية من روى في تفسير الفرق الناجية وهي الجماعة محتاجة إلى التفسير لأنه إن كان معناه بينا من جهة تفسير الرواية الأخرى ـ وهي قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ] ـ فمعنى لفظ : الجماعة من حيث المراد به في إطلاق الشرع محتاج إلى التفسير
فقد جاء في أحاديث كثيرة منها الحديث الذي نحن في تفسيره ومنها ما صح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شيئا فمات مات ميتة جاهليلة ]
وصح من حديث [ حذيفة قال : قلت يا رسول الله ! إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ـ قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ ـ قال : نعم وفيه دخن ـ قلت : وما دخنه ؟ قال ـ قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر ـ قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال ـ نعم : دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها ـ قلت : يا رسول الله ! صفهم لنا قال : هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ـ قلت : فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين وإمامهم ـ قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك ]
وخرج الترمذي و الطبري [ عن ابن عمر قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالجابية فقال : إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا فقال : أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف ويشهد ولا يستشهد عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة لا يخلون رجل بامرأة فإنه لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان الشيطان مع الواحد وهو من الأثنين أبعد ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو المؤمن ]
وفي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة ويد الله مع الجماعة ومن شذ شذ إلى النار ] وخرج أبو داود عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ]
وعن عرفجة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ سيكون في أمتي هنيات وهنيات فمن أراد أن يفرق أمر المسلمين وهم جميع فاضربوه بالسيف كائنا من كان ]
فاختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال :
إختلف الناس في معنى الجماعة المرادة في هذه الأحاديث على خمسة أقوال أحدها : أنها السواد الأعظم
أحدها : إنها السواد الأعظم من أهل الإسلام وهو الذي يدل عليه كلام أبي غالب : إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق ومن خالفهم مات ميتة جاهلية سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم فهو مخالف للحق
وممن قال بهذا أبو مسعود الأنصاري وابن مسعود فروى أنه لما قتل عثمان سئل أبو مسعود الأنصاري عن الفتنة فقال : عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه و سلم على ضلالة واصبر حتى تستريح أو يستراح من فاجر وقال : إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضلالة وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنها حبل الله الذي أمر به ثم قبض يده وقال : إن الذي تكرهون في الجماعة خير من الذين تحبون في الفرقة
وعن الحسين قيل له : أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ فقال : أي والذي لا إله إلا هو ما كان الله ليجمع أمة محمد على ضلالة
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم فكل من خرج عن جماعتهم فهم الذين شذوا وهم نهبة الشيطان ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة لم يدخلوا في سوادهم بحال
الثاني أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين والثاني : إنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين فمن خرج مما عليه علماء الأمة مات ميته جاهلية لأن جماعة الله العلماء جعلهم الله حجة على العالمين وهم المعنيون بقوله عليه الصلاة و السلام : [ إن الله لن يجمع أمتي على ضلالة ] وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها وإليها تفزع من النوازل وهي تبع لها فمعنى قوله : [ لن تجتمع أمتي ] لن يجتمع علماء أمتي على ضلالة
وممن قال بهذا عبد الله بن المبارك و إسحاق بن راهوية وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين فقيل ل عبد الله بن المبارك : من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدي بهم ؟ قال : أبو بكر وعمر ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد ـ فقيل : هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ قال ابو حمزة السكري
وعن المسيب بن رافع قال : كانوا إذ جاءهم شيء من القضاء ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله سموه صوافي الأمراء فجمعوا له أهل العلم فما أجمع رأيهم عليه فهو الحق وعن إسحاق بن راهوية نحو مما قال ابن المبارك
فعلى هذا القول لا مدخل في السؤال لمن ليس بعالم مجتهد لأنه داخل في أهل التقليد فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية ولا يدخل أيضا أحد من المبتدعين لأن العالم أولا لا يبتدع وإنما يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ولأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله وهذا بناء على القول بأن المبتدع لا يعتد به في الإجماع وإن قيل بالاعتداد به فيه ففي غير مسألة التي ابتدع فيها لأنهم في نفس البدعة مخالفون للاجماع : فعلى كل تقدير لا يدخلون في السواد الأعظم رأسا
الثالث أن الجماعة هي الصحابة رضي الله عنهم على الخصوص والثالث : إن الجماعة هي الصحابة على الخصوص فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلا وقد يمكن فيمن سواهم ذلك ألا ترى قوله عليه لاصلاة والسلام : [ ولا تقوم الساعة على أحد يقول : الله الله ] وقوله : [ لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس ] فقد أخبر عليه الصلاة و السلام أن من الأزمان أزمانا يجتمعون فيها على ضلالة وكفر قالوا وممن قال بهذا القول عمر بن عبد العزيز فروى ابن وهب عن مالك قال : كان عمر بن عبد العزيز يقول : سن رسول الله صلى الله عليه و سلم وولاه الأمر من بعده سننا الأخذ بها تصديق لكتاب الله واستكمال لطاعة الله وقوة على دين الله ليس لأحد تبديلها ولا تغييرها ولا النظر فيها ! من اهتدى بها مهتد ومن استنصر بها منصور ومن خافها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيرا فقال مالك : فأعجبني عزم عمر على ذلك
فعلى هذا القول فلفظ الجماعة مطابق للرواية الأخرى في قوله عليه الصلاة و السلام : [ ما أنا عليه وأصحابي ] فكأنه راجع إلى ما قالوه وما سنوه وما اجتهدوا فيه حجة على الإطلاق وبشهادة رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم بذلك خصوصا في قوله : [ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ] واشباهه أو لأنهم المتقلدون لكلام النبوة المهتدون للشريعة الذين فهموا أمر دين الله بالتلقي من نبيه مشافهة على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيرهم : فإذا كل ما سنوه فهو سنة من غير نظير فيه بخلاف غيرهم فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالا للنظر ردا وقبولا فأهل البدع إذا غير داخلين في الجماعة قطعا على هذا القول
الرابع أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام والرابع : إن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من أهل الملل اتباعهم وهم الذين ضمن لنبيه عليه الصلاة و السلام أن لا يجمعهم على ضلالة فإن وقع بينهم اختلاف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه
قال الشافعي : الجماعة لا تكون فيها غفلة عن معنى كتاب الله ولا سنة ولا قياس وإنما تكون الغفلة في الفرقة
وكأن هذا القول يرجع إلى الثاني وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لا بد من كون المجتهدين فيهم وعند ذلك لا يكون مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلا فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية
الخامس ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير
والخامس : ما اختاره الطبري الإمام من أن الجماعة جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير فأمر عليه الصلاة و السلام بلزومه ونهى عن فراق الأمة فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم لأن فراقهم لا يعدو إحدى حالتين إما للنكير عليهم في طاعة أميرهم والطعن عليه في سيرته المرضية لغير موجب بل بالتأويل في إحداث بدعة في
الدين كالحرورية التي أمرت الأمة بقتالها وسماها النبي صلى الله عليه و سلم مارقة من الدين وإما لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه
وقد قال صلى الله عليه و سلم : [ من جاء إلى أمتي ليفرق جماعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان ] قال الطبري : فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة
قال : وأما الجماعة التي إذا اجتمعت على الرضى بتقديم أمير كان المفارق لها ميتا ميتة جاهلية فهي الجماعة التي وصفها أبو مسعود الأنصاري وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين وغيرهم وهم السواد الأعظم
قال : وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فروي عن عمر بن ميمون الأودي قال : قال عمر حين طعن لصهيب : صل بالناس ثلاثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد راسه بالسيف وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رأسيهما حتى يستوثقوا على رجل
قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقا لها نظير الجماعة الي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه وأمر صهيبا بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف فهم في معنى كثرة العدد المجتمع على بيعته وقلة العدد المنفرد عنهم
قال : وأما الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحق فيما نابهم من أمر دينهم حتى يضل جميعهم عن العلم ويخطئوه وذلك لا يكون في الأمة
هذا تمام كلامه وهو منقول بالمعنى و تحر في أكثر اللفظ
وحاصله : أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة المذكور في الأحاديث المذكورة كالخوارج ومن جرى مجراهم
فهذه خمسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والاتباع وأنهم المرادون بالأحاديث فلنأخذ ذلك أصلا ويبني عليه معنى آخر وهي :
المسألة السابعة عشرة أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا
وذلك أن الجميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والاجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم لا فإن لم يضموا إليهم فلا إشكال أن الاعتبار إنما هو بالسواد الأعظم من العلماء المعتبر اجتهادهم فمن شذ عنهم فمات فميتته جاهلية وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لأنهم غير عارفين بالشريعة فلا بد من رجوعهم في دينهم إلى العلماء فإنهم لو تمالأوا على مخالفة العلماء فيما حدوا لهم لكانوا هو الغالب والسواد الأعظم في ظاهر الأمر لقلة العلماء وكثرة الجهال فلا يقول أحد : إن اتباع جماعة العوام هو المطلوب وإن العلماء هم المفارقون للجماعة والمذمومون في الحديث بل الأمر بالعكس وأن العلماء هم السواد الأعظم وإن قلوا والعوام هو المفارقون للجماعة إن خالفوا فإن وافقوا فهو الواجب عليهم
ومن هنا لما سئل ابن المبارك عن الجماعة الذين يقتدى بهم أجاب بأن قال : ابو بكر وعمر ـ قال ـ فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد قيل : فهؤلاء ماتوا ! فمن الأحياء ؟ قال : أبو حمزة السكري وهو محمد بن ميمون المروزي فلا يمكن أن يعتبر العوام في هذه المعاني بإطلاق وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن مجتهد لم يمكن اتباع العوام لأمثالهم ولا عد سوادهم أنه السواد الأعظم المنبه عليه في الحديث الذي من خالفه فميتته جاهلية بل يتنزل النقل عن المجتهدين منزلة وجود المجتهدين فالذي يلزم العوام مع وجود المجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان المفروض الخالي عن المجتهد
وأيضا فاتباع نظر من لا نظر له واجتهاد من لا اجتهاد له محض ضلالة ورمي في عماية وهو مقتضى الحديث الصحيح :
[ إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ] الحديث
روى أبو نعيم عن محمد بن القاسم الطوسي قال : سمعت إسحاق بن راهوية وذكر في حديث رفعه إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال :
[ إن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة فإذا رأيتم الإختلاف فعليكم بالسواد الأعظم ] فقال رجل يا ابا يعقوب ! من السواد الأعظم ؟ فقال محمد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ثم قال : سأل رجل ابن المبارك : من السواد الأعظم ؟ قال : أبو حمزة السكري ثم قال إسحاق : في ذلك الزمان ( يعني أبا حمزة ) وفي زماننا محمد بن أسلم ومن تبعه ثم قال إسحاق : لو سألت الجهال عن السواد الأعظم لقالوا : جماعة الناس ولا يعلمون أن الجماعة عالم متمسك بأثر النبي صلى الله عليه و سلم وطريقه فمن كان معه وتبعه فهو الجماعة ثم قال إسحاق : لم أسمع عالما منذ خمسين سنة كان أشد تمسكا بأثر النبي صلى الله عليه و سلم من محمد بن أسلم
فانظر في حكايته تتبين غلط من ظن أن الجماعة هي جماعة الناس وإن لم يكن فيهم عالم وهو وهم العوام لا فهم العلماء فليثبت الموفق في هذه المزلة قدمه لئلا يضل عن سواء السبيل ولا توفيق إلا بالله
المسألة الثامنة عشرة في بيان معنى قوله صلى الله عليه و سلم : وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء ما يتجارى الكلب بصاحبه
في بيان معنى رواية أبي داود وهي قوله عليه الصلاة و السلام : [ وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله ]
وذلك أن معنى هذه الرواية أنه عليه الصلاة و السلام أخبر بما سيكون في أمته من هذه الأهواء التي افترقوا فيها إلى تلك الفرق وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الأهواء قلوبهم حتى لا يمكن في العادة انفصالها عنها وتوبتهم منها على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فلا يبقى من ذلك الجسم جزء من أجزائه ولا مفصل ولا غيرهما إلا دخله ذلك الداء وهو جريان لا يقبل العلاج ولا ينفع فيه الدواء فكذلك صاحب الهوى إذا دخل قلبه وأشرب حبه لا تعمل فيه الموعظة ولا يقبل البرهان ولا يكترث بمن خالفه واعتبر ذلك بالمتقدمين من أهل الأهواء كمعبد الجهني وعمرو بن عبيد وسواهما فإنهم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة محجوبين عن كل لسان مبعدين عند كل مسلم ثم مع ذلك لم يزدادوا إلا تماديا على ضلالهم ومداومة على ما هم عليه { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا }
وحاصل ما عولوا عليه تحكيم العقول مجردة فشركوها مع الشرع في التحسين والتقبيح ثم قصروا أفعال الله على ما ظهر لهم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا : يجب على الله كذا ولا يجوز أن يفعل كذا فجعلوه محكوما عليه كسائر المكلفين ومنهم من لم يبلغ هذا المقدار بل استحسن شيئا يفعله واستقبح آخر وألحقها بالمشروعات ولكن الجميع بقوا على تحكيم العقول ولو وقفوا هنالك لكانت الداهية على عظمتها أيسر ولكنهم تجاوزوا هذه الحدود كلها إلى أن نصبوا المحاربة لله ورسوله باعتراضهم على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وادعائهم عليهما من التناقض والاختلاف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل
قال العتبي : وقد اعترض على كتاب الله تعالى بالطعن ملحدون ولغوا وهجروا واتبعوا ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله بأفهام كليلة وأبصار عليلة ونظر مدخول فحرفوا الكلم عن مواضعه وعدلوا به عن سبيله ثم قضوا عليه بالتناقض والاستحالة واللحن وفساد النظم والاختلاف وادلوا بذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر والحديث الغر واعترضت بالشبهة في القلوب وقدحت بالشكوك في الصدور قال : ولو كان ما لحنوا إليه على تقريرهم وتأويلهم لسبق إلى الطعن فيه من لم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتج بالقرآن عليهم ويجعله علم نبوته والدليل على صدقه ويتحداهم في مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله وهم الفصحاء والبلغاء والخطباء والشعراء والمخصوصون من بين جميع الأنام وبالألسنة الحداد واللدد في الخصام مع اللب والنهى وأصالة الرأي فقد وصفهم الله بذلك في غير موضع من الكتاب وكانوا يقولون مرة : هو سحر ومرة : هو شعر ومرة : هو قول الكهنة ومرة : اساطير الأولين ولم يحك الله عنهم الاعتراض على الأحاديث ودعوى التناقض والاختلاف فيها وحكى عنهم لأجل ذلك القدح في خير أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي الله عنهم واتبعوهم بالحدس قالوا ما شان أو جروا في الطعن على الحديث جري من لا يرى عليه محتسبا في الدنيا ولا محاسبا في الآخرة
وقد بسط الكلام في الرد عليهم والجواب عما اعترضوا فيه أبو محمد بن قتيبة في كتابين صنفهما لهذا المعنى وهما من محاسن كتبه رحمه الله ولم أرو قط تلك الاعتراضات تعزيزا للمعترض فيه لم أعن بردها لأن غيري ـ والحمد لله ـ قد تجرد له ولكن أردت بالحكاية عنهم على الجملة بيان معنى قوله : [ تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ] وقبل وبعد فأهل الأهواء إذا استحكمت فيهم أهواؤهم لم يبالوا بشيء ولم يعدوا خلاف أنظارهم شيئا ولا راجعوا عقولهم مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف في موارد الإشكال ( وهو شأن المعتبرين من أهل العقول ) وهؤلاء صنف من أصناف من اتبع هواه ولم يعبأ بعذل العاذل فيه ثم أصناف أخر تجمعهم مع هؤلاء إشراب الهوى في قلوبهم حتى لا يبالوا بغير ما هو عليه
فإذا تقرر معنى الرواية بالتمثيل صرنا منه إلى معنى آخر وهي :
المسألة التاسعة عشرة أن قوله : تتجارى بهم تلك الأهواء فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محال بها
إن قوله : [ تتجارى بهم تلك الأهواء ] فيه الإشارة بـ تلك فلا تكون إشارة إلى غير مذكور ولا محالا بها على غير معلوم بل لا بد لها من متقدم ترجع إليه وليس إلا الأحوال التي كانت السبب في الافتراق فجاءت الزيادة في الحديث مبينة أنها الأهواء وذلك قوله : [ تتجارى بهم تلك الأهواء ] فدل على أن كل خارج عما هو عليه واصحابه إنما خرج باتباع الهوى عن الشرع وقد مر بيان هذا قبل فلا نعيده
المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة و السلام : أنه سيخرج من أمتي أقوام على وصف كذا يحتمل أمرين أحدهما : من يجري فيه هواه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع عنه والثاني : من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها
إن قوله عليه الصلاة و السلام : [ وأنه سيخرج في أمتي أقوام على وصف كذا ] يحتمل أمرين :
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها فإن هواه يجري فيه مجرى الكلب بصاحبه فلا يرجع أبدا عن هواه ولا يتوب من بدعته
والثاني : أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله في البدعة مشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة ومنهم من لا يكون كذلك فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم كقوله عليه الصلاة و السلام :
[ يمرقون من الدين ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه ] وقوله : [ إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة ] وما أشبه ذلك ويشهد له الواقع فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها بل هو يزداد بضلالتها بصيرة
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء فأعقل ما يكون قد هاج
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلا لأن العقل يجوز ذلك والشرع إن يشاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عاديا والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية لا نحتاج الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق وهذا مبين في الأصول
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملا ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم ابن عباس رضي الله عنهما وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهم ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها وإذا جعل تخصيص بفرد لم يبق الفظ عاما وحصل الانقسام
وهذا الثاني هو الظاهر لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراف أو عدمه ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء فدل أن فيهم من لا يشربها وإن كان من أهلها ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه فإذا بين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى استقام الكلام واتسق وعند ذلك يتصور الانقسام وذلك بأن يكون في الفرقة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ومن لا يتجارى به ذلك المقدار لأنه يصح أن يختلف التجاري فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ومنه ما لا يكون كذلك
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
فمن القسم الأول الخوارج بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ] ومنه هؤلاء الذين أعرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك وذلك أنه يقول : من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له لكن على قدرها وبذلك أيضا تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له لكن التجاري المشبه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعة من البدع ذلك الإشراب وبين من لم يبلغ ممن هو معدود في الفرق فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أمران : إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته فيظهر بسببها المعاداة والذي لم يشربها لا يدعو إليها ولا ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بحيث يطرح ما سواها في جنبها حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها وقد أعمت بصره وأصمت سمعه واستولت على كليته وهي غاية المحبة ومن أحب شيئا من هذا النوع من المحبة وإلى بسببه وعادى ولم يبال بما لقي في طريقه بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ونكته اهتدى إليها فهي مدخرة في خزانة حفظه يحكم بها على من وافق وخالف لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة النكال والقيام عليه بأنواع الإضرار ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم
ومثل ما حكى ابن العربي في العواصم قال : أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ ابو القاسم عبد الكريم بن هوران القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلسا للذكر وحضر فيه كافة الخلق وقرأ القارىء : { الرحمن على العرش استوى } قال لي أخصهم : من أنت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون قاعد ! بأرفع صوت وأبعده مدى وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة وتثاور الفئتان وغلبت العامة فاحجروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب فمات منهم قوم وركب زعيم الكفاة وبعض الدادية فسكنوا ثورانهم
فهذا أيضا ممن أشرب قلبه حب البدعة حتى أداه ذلك إلى القتل فكل من بلغ هذا المبلغ حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصف به رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن بلغ من ذلك الحرب
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك فأدلوا إليهم بالحجة الواهية وصغروا في أنفسهم حملة السنة وحماة الملة حتى وقفوهم مواقف البلوى وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء وانتهى بأقوام إلى القتل حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه كالمثال في الحديث وكم من أهل بدعة لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم بل استتروا بها جدا ولم يتعرضوا للدعاء إلبها جهارا كما فعل غيرهم ومنهم من يعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتهم بما انتحلوه
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب وبالله التوفيق
المسألة الحادية والعشرون إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟
إن هذا الإشراب المشار إليه هل يختص ببعض البدع دون بعض أم لا يختص ؟ وذلك أنه يمكن أن بعض البدع من شأنها أن تشرب قلب صاحبها جدا ومنها ما لا يكون كذلك فالبدعة الفلانية مثلا من شأنها أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلانية ليست كذلك فبدعة الخوارج مثلا في طرف الإشراب كبدعة المنكرين للقياس في الفروع الملتزمين الظاهر في الطرف الآخر ويمكن أن يتجارى ذلك في كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تجارت به كما يتجارى الكلب بصاحبه كعمرو بن عبيد حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة { تبت يدا أبي لهب } وقوله تعالى : { ذرني ومن خلقت وحيدا } ومنهم من لم يبلغ به الحال إلى هذا النحو كجملة من علماء المسلمين كالفارسي النحوي وابن جني
والثاني : بدعة الظاهرية فإنها تجارت بقوم حتى قالوا عند ذكر قوله تعالى : { على العرش استوى } قاعد ! قاعد ! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ولم يبلغ بقوم آخرين ذلك المقدار كداود بن علي في الفروع وأشباهه
والثالث : بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على الهيئة الاجتماعية فإنها بلغت بأصحابها إلى أن كان الترك لها موجبا للقتل عنده فحكى القاضي أبو الخطاب بن خليل حكاية عن أبي عبد الله بن مجاهد العابد : أن رجلا من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطو وبسط اليد ـ نزل في جوار ابن مجاهد وصلى في مسجده الذي كان يؤم فيه وكان لا يدعو في أخريات الصلوات تصميما في ذلك على المذهب ( يعني مذهب مالك ) لأنه مكروه في مذهبه وكان ابن مجاهد محافظا عليه فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء وأمره أن يدعو فأبى وبقي على عادته في تركه في أعقاب الصلوات فلما كان في بعض الليالي صلى ذلك الرجل العتمة في المسجد فلما انقضت وخرج ذلك الرجل إلى داره قال لمن حضره من أهل المسجد : قد قلنا لهذا الرجل يدعو إثر الصلوات فأبى فإذا كان في غدوة غد أضرب رقبته بهذا السيف وأشار في يده فخافوا على ابن مجاهد من قوله لما علموا منه فرجعت الجماعة بجملتها إلى دار ابن مجاهد فخرج إليهم وقال : ما شأنكم ؟ فقال لهم : والله لقد خفنا من هذا الرجل وقد اشتد الآن غضبه عليك في تركك الدعاء فقال لهم : لا أخرج عن عادتي فأخبروه بالقصة فقال لهم ـ وهو مبتسم ـ : انصرفوا ولا تخافوا فهو الذي تضرب رقبته في غدوة غد بذلك السيف بحول الله ودخل داره وانصرفت الجماعة على ذعر من قول ذلك الرجل فلما كان مع الصبح وصل إلى دار الرجل قوم من أهل المسجد ومن علم حال البارحة حتى وصلوا إليه إلى دار الإمامة بباب جوهر من أشبيلية وهناك أمر بضرب رقبته بسيفه فكان ذلك تحقيقا للإجابة وإثباتا للكرامة
وقد روى بعض الأشبيليين الحكاية بمعنى هذه لكن على نحو آخر
ولما رد ولد ابن الصقر على الخطيب في خطبته وذلك حين فاه باسم المهدي وعصمته اراد المرتضى من ذرية عبد المؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله فابى الأشياخ والوزراء من فرقة الموحدين إلا قتله فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيره فتختل عليهم القاعدة التي بنوا دينهم عليها
وقد لا تبلغ البدعة في الإشراب ذلك المقدار فلا يتفق الخلاف فيها بما يؤدي إلى مثل ذلك
فهذه الأمثلة بينت بالواقع مراد الحديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النبي صلى الله عليه و سلم إنما تكون ابتناء على وفق مخبره من غير تخلف البتة
ويشهد لهذا التفسير استقراء أحوال الخلق من انقسامها إلى الأعلى والأدنى والأوسط كالعلم والجهل والشجاعة والجبن والعدل والجور والجود والبخل والغنى والفقر والعز والذل غير ذلك من الأحوال والأوصاف فإنها تتردد ما بين الطرفين : فعالم في أعلى درجات العلم وآخر في أدنى درجاته وجاهل كذلك وشجاع كذلك إلى سائرها
فكذلك سقوط البدع بالنفوس إلا أن في ذكر النبي صلى الله عليه و سلم لها فائدة أخرى وهي التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابها وهي :
المسألة الثانية والعشرون أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى فإن أصل الكلب واقع بالكلب ثم إذا عض ذلك الكلب أحدا صار مثله ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب إلا بالهلكة فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته بل إما أن يقع معه في مذهبه ويصير من شيعته وإما أن يثبت في قلبه شكا يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر
هذا بخلاف سائر المعاصي فإن صاحبها لا يضاره ولا يدخله فيها غالبا إلا مع طول الصحبة والأنس به والاعتياد لحضور معصيته وقد أتى في الآثار ما يدل على هذا المعنى فإن السلف الصالح نهوا عن مجالستهم ومكالتهم وكلام مكالمهم وأغلظوا في ذلك وقد تقدم منه في الباب الثاني آثار جمة
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مخالطة الشيطان ومجالسة أصحاب الأهواء فإن مجالستهم ألصق من الجرب
وعن حميد الأعرج قال : قدم غيلان مكة يجاور بها فأتى غيلان مجاهدا فقال : يا أبا الحجاج بلغني أنك تنهى الناس عني وتذكرني وأنه بلغك عني شيء لا أقوله ؟ إنما أقول كذا فجاء بشيء لا ينكر فلما قام قال مجاهد : لا تجالسوه فإنه قدري قال حميد : فإني لما كنت ذات يوم في الطواف لحقني غيلان من خلفي يجذب ردائي فالتفت فقال : كيف يقول مجاهد خرفا كذا وكذا فأخبرته فمشى معي فبصر بي مجاهد معه فأتيته فجعلت أكلمه فلا يرد علي وأسأله فلا يجيبني ـ فقال ـ فغدوت إليه فوجدته على تلك الحال فقلت : يا أبا الحجاج ! أبلغك عني شيء ؟ ما أحدثت حدثا ما لي ! قال : ألم أرك مع غيلان وقد نهيتكم أن تكلموه أو تجالسوه ؟ قال قلت : يا با الحجاج ما أنكرت قولك وما بدأته وهو بدأني قال : والله يا حميد لولا أنك عندي مصدق ما نظرت لي في وجه منبسط ما عشت ولئن عدت لا تنظر لي في وجه منبسط ما عشت
وعن أيوب قال : كنت يوما عند محمد بن سيرين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع محمد يده في بطنه وقام فقلت لعمرو : انطلق بنا ـ قال ـ فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت فقلت : يا أبا بكر ؟ قد فطنت إلى ما صنعت قال : أقد فطنت ؟ قلت : نعم ! قال : أما إنه لم يكن ليضمني معه سقف بيت
وعن بعضهم قال : كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآني ابن عون فأعرض عني وقيل : دخل ابن عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لما رآه وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ـ فمكثت هنيهة ثم قال ابن عون : بم استحل أن دخل داري بغير إذني ؟ ـ مرارا يرددها ـ أما إنه لو تكلم
وعن مؤمل بن إسماعيل أنه قال : قال بعض أصحابنا ل حماد بن زيد : ما لك لم ترو عن عبد الكريم إلا حديثا واحدا ؟ قال : ما أتيته إلا مرة واحدة لمساقة في هذا الحديث وما أحب أن أيوب علم بإتياني إليه وأن لي كذا وكذا وإني لأظنه لو علم لكانت الفصيلة بيني وبينه
وعن إبراهيم أنه قال ل محمد بن السائب : لا تقربنا ما دمت على رأيك هذا وكان مرجئا
وعن حماد بن زيد قال : لقيني سعيد بن جبير فقال : ألم أرك مع طلق ؟ قلت : بلى ! فما له ؟ قال : لا تجالسه فإنه مرجىء
وعن محمد بن واسع قال : رأيت صفوان بن محرز وقريب منه شيبة فرآهما يتجادلان فرأيته قائما ينفض ثيابه ويقول : إنما أنتم جرب
وعن أيوب قال : دخل رجل على ابن سيرين فقال : يا أبا بكر ! اقرأ عليك آية من كتاب الله لا أزيد أن أقرأها ثم أخرج ؟ فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال : أعزم عليك إن كنت مسلما إلا خرجت من بيتي ـ قال ـ فقال ـ يا أبا بكر ! لا أزيد على أن أقرأ ( آية ) ثم أخرج فقام لإزاره يشده وتهيأ للقيام فأقبلنا على الرجل فقلنا : قد عزم عليك إلا خرجت أفيحل لك أن تخرج رجلا من بيته ؟ قال : فخرج فقلنا : يا أبا بكر ! ما عليك لو قرأ آية ثم خرج ؟ قال : إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ولكن خفت أن يلقى في قلبي شيئا أجهد في إخراجه من قلبي فلا أستطيع
وعن الأوزاعي قال : لا تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الحديث إليه إن كان مقصودا والله أعلم تأثير كلام صاحب البدعة في القلوب معلوم وثم معنى آخر قد يكون من فوائد تنبيه الحديث بمثال داء الكلب وهي :
المسألة الثالثة والعشرون التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة
وهو التنبيه على السبب في بعد صاحب البدعة عن التوبة إذ كان مثل المعاصي الواقعة بأعمال العباد قولا أو فعلا أو اعتقادا كمثل الأمراض النازلة بجسمه أو روحه فأدوية الأمراض البدنية معلومة وأدوية الأمراض العملية التوبة والأعمال الصالحة وكما أن من الأمراض البدنية ما يمكن فيه التداوي ومنه ما لا يمكن فيه التداوي أو يعسر كذلك الكلب الذي في أمراض الأعمال فمنها ما يمكن فيه التوبة عادة ومنها ما لا يمكن
فالمعاصي كلها ـ غير البدع ـ يمكن فيه التوبة من أعلاها وهي الكبائر ـ إلى أدناها ـ وهي اللمم ـ والبدع أخبرنا فيها إخبارين كلاهما يفيد أن لا توبة منها
الإخبار الأول : ما تقدم في ذم البدع من أن المبتدع لا توبة له من غير تخصيص
والآخر : ما نحن في تفسيره وهو تشبيه البدع بما لا نجح فيه من الأمراض كالكلب فأفاد أن لا نجح من ذنب البدع في الجملة من غير اقتضاء عموم بل اقتضى أن عدم التوبة مخصوص بمن تجارى به الهوى كما يتجارى الكلب بصاحبه وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الهوى على ذلك الوجه وتبين الشاهد عليه ونشأ من ذلك معنى زائد هو من فوائد الحديث وهي :
المسألة الرابعة والعشرون أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب
وهو أن من تلك الفرق من لا يشرب هوى البدعة ذلك الإشراب فإذا يمكن فيه التوبة وإذا أمكن في أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم وهم أهل البدع الجزئية
فإما أن يرجح ما تقدم من الأخبار على هذا الحديث لأن هذه الرواية في إسنادها شيء وأعلى ما يجرى في الحسان وفي الأحاديث الأخر ما هو صحيح كقوله :
[ يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون كما يعود السهم على فوقه ] وما أشبه
وأما أن يجمع بينهما فتجعل النقل الأول عمدة في عموم قبول التوبة ويكون هذا الإخبار أمرا زائدا على ذلك إذ لا يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الهوى وغلبة الهوى للإنسان في الشيء المفعول أو المتروك له أبدا أثر فيه والبدع كلها تصاحب الهوى ولذلك سمي أصحابها أهل الأهواء فوقعت التسمية بها وهو الغالب عليهم إذ يصاحبه دليل شرعي إنما نشأ عن الهوى مع شبهة دليل لا عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي في الظاهر فكان أجرى في البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبه ثم إنه يتفاوت إذ ليس في رتبة واحدة ولكنه تشريع كله واستحق صاحبه أن لا توبة له عافانا الله من النار بفضله ومنه
وإما أن يعمل هذا الحديث مع الأحاديث الأول ـ على فرض العمل به ـ ونقول : إن ما تقدم من الأخبار عامة وهذا يفيد الخصوص كما تفيده أو يفيد معنى يفهم منه الخصوص وهو الإشراب في أعلى المراتب مسوقا مساق التبغيض لقوله :
[ وإنه سيخرج في أمتي أقوام ] إلى آخره فدل أن ثم أقواما أخر لا تتجارى بهم تلك الأهواء على ما قال بل هي أدنى من ذلك وقد لا تتجارى بهم ذلك
وهذا التفسير بحسب ما أعطاه الموضع وتمام المسألة قد مر في الباب الثاني والحمد لله لكن على وجه لا يكون في الأحاديث كلها تخصيص وبالله التوفيق
المسألة الخامسة والعشرون أنه جاء في بعض روايات الحديث : أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم
أنه جاء في بعض روايات الحديث :
[ أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال ] فجعل أعظم تلك الفرق فتنة على الأمة أهل القياس ولا كل قياس بل القياس على غير أصل فإن أهل القياس متفقون على أنه على غير أصل يصح وإنما يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع معتبر فإذا لم يكن للقياس أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي لا يصح أن يوضع في الدين ـ فإنه يؤدي إلى مخالفة الشرع وأن يصير الحلال بالشرع حراما بذلك القياس والحرام حلالا فإن الرأي من حيث هو رأي لا ينضبط إلى قانون شرعي إذا لم يكن له أصل شرعي فإن العقول تستحسن ما لا يستحسن شرعا وتستقبح ما لا يستقبح شرعا وإذا كان كذلك صار القياس على غير أصل فتنة على الناس
ثم أخبر في الحديث أن المعلمين لهذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق واشد فتنة وبيانه أن مذاهب أهل الأهواء قد اشتهرت الأحاديث التي تردها واستفاضت وأهل الأهواء مقموعون في الأمر الغالب عند الخاصة والعامة بخلاف الفتيا فإن أدلتها من الكتاب والسنة لا يعرفها إلا الأفراد ولا يميز ضعيفها من قويها إلا الخاصة وقد ينتصب للفتيا والقضاء ممن يخالفها كثير
حديث ليس عام إلا والذي بعد شر منه وما معناه
وقد جاء مثل معناه محفوظا من حديث ابن مسعود أنه قال : [ ليس عام إلا والذي بعده شر منه ] لا أقول : عام أمطر من عام ولاعام أخصب من عام ولا أمير خير من أمير ولكن : ذهاب خياركم وعلمائكم ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام ويثلم
ذهاب العلماء وقيام الجهال مقامهم في الإفتاء وهذا الذي في حديث ابن مسعود موجود في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة و السلام : [ ولكن ينزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم فيضلون ويضلون ]
وقد تقدم في ذم الرأي آثار مشهورة عن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين تبين فيها أن الأخذ بالرأي يحل الحرام ويحرم الحرام
القياس الهادم للإسلام ما عارض الكتاب والسنة وبيان ما عليه سلف الأمة ومعلوم أن هذه الآثار الذامة للرأي لا يمكن أن يكون المقصود بها ذم الاجتهاد على الأصول في نازلة لم توجد في كتاب ولا سنة ولا إجماع ممن يعرف الأشباه والنظائر ويفهم معاني الأحكام فيقيس قياس تشبيه وتعليل قياسا لم يعارضه ما هو أولى منه فإن هذا ليس فيه تحليل وتحريم ولا العكس وإنما القياس الهادم ما عارض الكتاب والسنة أو ما عليه سلف الأمة أو معانيها المعتبرة
مخالفة الأصول في الإفتاء قسمان أحدهما مخالفة أصل من غير استمساك بأصل آخر
ثم إن مخالفة هذه الأصول على قسمين :
أحدهما : أن يخالف أصلا مخالفة ظاهرة من غير استمساك بأصل آخر فهذا لا يقع من مفت مشهور إلا إذا كان الأصل لم يبلغه كما وقع لكثير من الأئمة حيث لم يبلغهم بعض السنن فخالفوها خطأ وأما الأصول المشهورة فلا يخالفها مسلم خلافا ظاهرا من غير معارضة بأصل آخر فضلا عن أن يخالفها بعض المشهورين بالفتيا
الثاني أن يخالف الأصل بنوع من التأويل والثاني : أن يخالف الأصل بنوع من التأويل هو فيه مخطىء بأن يضع الإسم على غير موضعه أو على بعض مواضعه أو يراعي فيه مجرد اللفظ دون اعتبار المقصودة أو غير ذلك من أنواع التأويل
والدليل على أن هذا هو المراد بالحديث وما في معناه أن تحليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغير تأويل أو التحريم مشهورا فحلله بغير تأويل كان كفرا وعنادا ومثل هذا لا تتخذه الأمة رأسا قط إلا أن تكون الأمة قد كفرت والأمة لا تكفر أبدا
وإذا بعث الله ريحا تقبض أرواح المؤمنين لم يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلال وإذا كان التحليل أو التحريم غير مشهور فخالفه مخالف لم يبلغه دليله فمثل هذا لم يزل موجودا من لدن زمان أصحاب رسول الله صلى ا لله عليه وسلم هذا إنما يكون في آحاد المسائل فلا تضل الأمة ولا ينهدم الإسلام ولا يقال لهذا : إنه محدث عند قبض العلماء
فظهر أن المراد إنما هو استحلال المحرمات الظاهرة أو المعلومة عنده بنوع تأويل وهذا بين في المبتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته وتواطأت على معناه شواهده وأخذوا في اتباع بعض المتشابهات وترك أم الكتاب
فإذا هذا ـ كما قا ل الله تعالى ـ زيغ وميل عن الصراط المستقيم فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى بهم بأقوالهم وأعمالهم سكنت إليهم الدهماء ظنا أنهم بالغوا لهم في الاحتياط على الدين وهم يضلون بغير علم ولا شيء أعظم على الإنسان من داهية تقع به من حيث لا يحتسب فإنه لو علم طريقها لتوقاها ما استطاع فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به وهو ظاهر فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا لأنه يستند في دينه إلى من ظهر في رتبة أهل العلم فيضل من حيث يطلب الهداية : اللهم { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم }
المسألة السادسة والعشرون أن ههنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه الإخبار بالمعنى عن الجثة وبالصفة عن الموصوف
إن ها هنا نظرا لفظيا في الحديث هو من تمام الكلام فيه وذلك أنه لما أخبر عليه الصلاة و السلام أن جميع الفرق في النار إلا فرقة واحدة وهي الجماعة المفسرة في الحديث الآخر فجاء في الرواية الأخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيين ـ فقالوا : من هي يا رسول الله ؟ فأصل الجواب أن يقال : أنا وأصحابي ومن عمل مثل عملنا أو ما اشبه ذلك مما يعطي تعيين الفرقة إما بالإشارة أو بوصف من أوصافها إلا أن ذلك لم يقع وإنما وقع في الجواب تعيين الوصف لا تعيين الموصوف فلذلك أتى بما أتى فظاهرها الوقوع على غير العاقل من الأوصاف وغيرها والمراد هنا الأوصاف التي هو عليها صلى الله عليه و سلم وأصحابه رضي الله عنهم فلم يطابق السؤال الجواب في اللفظ والعذر عن هذا أن العرب لا تلتزم ذلك النوع إذا فهم المعنى لأنهم لما سألوا عن تعيين الفرقة الناجية بين لهم الوصف الذي به صارت ناجية فقال : [ ما أنا عليه واصحابي ]
ومما جاء غير مطابق في الظاهر وهو في المعنى مطابق قول الله تعالى : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } ؟ فإن هذا الكلام معناه : هل أخبركم بما هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل : نعم ! أخبرنا فقال الله تعالى : { للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية أي للذين اتقوا استقر لهم { عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } الآية فأعطى مضمون الكلام معنى الجواب على غير لفظه وهذا التقرير على قول جماعة من المفسرين
وقال تعالى : { مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار } الآية فقوله : مثل الجنة يقتضي المثل لا الممثل كما قال تعالى : { مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } ولأنه كلما كان المقصود الممثل جاء به بعينه
ويمكن أن يقال : أن النبي صلى الله عليه و سلم لما ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية كان الأولى السؤال عن أعمال الفرقة الناجية لا عن نفس الفرقة لأن التعريف فيها من حيث هي لا فائدة فيه إلا من جهة أعمالها التي نجت بها فالمتقدم في الاعتبار هو العمل لا العامل فلو سألوا : ما وصفها ؟ أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة في اللفظ والمعنى فلما فهم عليه الصلاة و السلام منهم ما قصدوا أجابهم على ذلك
ونقول : لما تركوا السؤال عما كان الأولى في حقهم أتى به جوابا عن سؤالهم حرصا منه عليه الصلاة و السلام على تعليمهم ما ينبغي لهم تعلمه والسؤال عنه
ويمكن أن يقال : إن ما سألوا عنه لا يتعين إذ لا تختص النجاة بمن تقدم دون من تأخر إذ كانوا قد اتصفوا بوصف التأخير
ومن شأن هذا السؤال التعيين وعدم انحصارهم بزمان أو مكان لا يقتضي التعيين وانصرف القصد إلى تعيين الوصف الضابط للجميع وهو ما كان عليه هو وأصحابه
وهذا الجواب بالنسبة إلينا كالمبهم وهو بالنسبة إلى السائل معين لأن أعمالهم كانت للحاضرين معهم رأي عين فلم يحتج إلى أكثر من ذلك لأنه غاية التعيين اللائق بمن حضر فأما غيرهم ممن لم يشاهد أحوالهم ولم ينظر أعمالهم فليس مثلهم ولا يخرج الجواب بذلك عن التعيين المقصود والله أعلم انتهى
الباب العاشر في بيان معنى الصراط المستقيم الذي انحرفت عنه سبل أهل الإبتداع فضلت عن الهدى بعد البيان هذا وجه أول
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنها على الصراط المستقيم وأن ما سواها منحرف عن الجادة وراكب بنيات الطريق فوقع بينهم الاختلاف إذا في تعيينه وبيانه حتى أشكلت المسألة على كل من نظر فيها حتى قال من قال : كل مجتهد في العقليات أو النقليات مصيب فعدد الأقوال في تعيين هذا المطلب على عدد الفرق وذلك من أعظم الإختلاف إذ لا تكاد تجد في الشريعة مسألة يختلف العلماء فيها على بضع وسبعين قولا إلا هذه المسألة فتحرير النظر حتى تتضح الفرقة الناجية التي كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم واصحابه من أغمض المسائل
ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين لمن بعد الصحابة لم يقع خلاف ووجه ثان : أن الصراط المستقيم لو تعين بالنسبة إلى من بعد الصحابة لم يقع اختلاف أصلا لأن الاختلاف مع تعيين محله محال والفرض أن الخلاف ليس بقصد العناد لأنه على ذلك الوجه مخرج عن الإسلام وكلامنا في الفرق
ووجه ثالث أن البدع لا تقع من راسخ في العلم ووجه ثالث : أنه قد تقدم أن البدع لا تقع من راسخ في العلم وإنما تقع ممن لم يبلغ مبلغ أهل الشريعة المتصرفين في أدلتها والشهادة بأن فلانا راسخ في العلم وفلانا غير راسخ في غاية الصعوبة فإن كل من خالف وانحاز إلى فرقة يزعم أنه الراسخ وغير قاصر النظر فإن فرض على ذلك المطلب علامة وقع النزاع إما في العلامة وإما في مناطها
ومثال ذلك أن علامة الخروج من الجماعة الفرقة المنبه عليها بقوله تعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } والفرقة ـ بشهادة الجميع ـ إضافية فكل طائفة تزعم أنها هي الجماعة ومن سواها مفارق للجماعة
ومن العلامات اتباع ما تشابه من الأدلة وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك وأنها هي التي اتبعت أم الكتاب دون الأخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر المواضع بالتأويل على عكس الأخرى
ومنها اتباع الهوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها وتبرىء نفسها منه فلا يمكن في الظاهر مع هذا أن يتفقوا على مناط هذه العلامات وإذا لم يتفقوا عليها لم يمكن ضبطهم بها بحيث يشير إليهم بتلك العلامات وأنهم في التحصيل متفقون عليها وبذلك صارت علامات : فكيف يمكن مع اختلافهم في المناط الضبط بالعلامات
ووجه رابع فهمنا من مقاصد الشرع الستر على هذه الأمة وكون تعيين الصراط المستقيم بالإجتهاد لا يقتضي الإتفاق
ووجه رابع : وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع في الستر على هذه الأمة وإن حصل التعيين بالاجتهاد فالاجتهاد لا يقتضي الاتفاق على محله
ألا ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين لا يمكن الاتفاق عليهما عادة ؟ فلو تعينوا بالنص لم يبق إشكال بل أمر الخوارج على ما كانوا عليه وإن كان النبي صلى الله عليه و سلم قد عينهم وعين علامتهم في المخدج حيث قال : [ آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة ومثل البضعة تدردر ] الحديث وهم الذين قاتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لم يرجعوا عما كانوا عليه ولم ينتهوا فما الظن بمن ليس له في القتل تعيين ؟
ووجه خامس في قول الله تعالى ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة
ووجه خامس : وهو ما تقدم تقريره في قوله سبحانه وتعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } الآية ـ يشعر في هذا المطلوب أن الخلاف لا يرتفع مع ما يعضده من الحديث الذي فرغنا من بيانه وهو حديث الفرق إذ الآية لا تشعر بخصوص مواضع الخلاف لإمكان أن يبقى الخلاف في الأديان دون دين الإسلام لكن الحديث بين أنه واقع في الأمة أيضا فانتظمته الآية بلا إشكال
فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيين للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي لا ينقطع الخلاف فيه وإن ادعي فيه القطع دون الظن فهو نظري لا ضروري ولكنا مع ذلك نسلك في المسألة ـ بحول الله ـ مسلكا وسطا يذعن إلى قبوله عقل الموفق ويقر بصحنه العالم بكليات الشريعة وجزئياتها والله الموفق للصواب فنقول :
لا بد من تقديم مقدمة قبل الشروع في المطلوب وذلك أن الإحداث في الشريعة إنما يقع من جهة الجهل وإما من جهة تحسين الظن بالعقل وإما من جهة اتباع الهوى في طلب الحق وهذا الحصر بحسب الاستقراء من الكتاب والسنة وقد مر في ذلك ما يؤخذ منه شواهد المسألة إلا أن الجهات الثلاث قد تنفرد وقد تجتمع فإذا اجتمعت فتارة تجتمع منها اثنتان وتارة تجتمع الثلاث فأما جهة الجهل فتارة تتعلق بالأدوات التي بها تفهم المقاصد وتارة تتعلق بالمقاصد وأما جهة تحسين الظن فتارة يشرك في التشريع مع الشرع وتارة يقدم عليه وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد وأما جهة اتباع الهوى فمن شأنه أن يغلب الفهم حتى يغلب صاحبه الأدلة أو يستند إلى غير دليل وهذان النوعان يرجعان إلى نوع واحد فالجميع أربعة أنواع : وهي الجهل بأدوات الفهم والجهل بالمقاصد وتحسيم الظن بالعقل واتباع الهوى فلنتكلم على كل واحد منها وبالله التوفيق
النوع الأول الجهل بأدوات المقاصد ن الله عز و جل أنزل القرآن عربيا لا يفهم إلا من ألفاظ لغة العرب وأساليبها
إن الله عز و جل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه بمعنى أنه جاء في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب قال الله تعالى : { إنا جعلناه قرآنا عربيا } وقال تعالى : { قرآنا عربيا غير ذي عوج } وقال تعالى : { نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين * بلسان عربي مبين } وكان المنزل عليه القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلىالله عليه وسلم وكان الذين بعث فيهم عربا أيضا فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه ولم يداخله شيء بل نفي عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى : { ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين }
وقال تعالى في موضع آخر : { ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته }
هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها
أساليب العربية في العام والخاص وما يراد ظاهرا وما لا يراد أما ألفاظها فظاهرة للعيان وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها وأن تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به الظاهر ويستغنى بأوله عن آخره وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ويستدل إلى هذا ببعض الكلام وعاما ظاهرا يراد به الخاص وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره
وتبتدىء الشيء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره أو بين آخره عن أوله ويتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة وهذا عندها من أفصح كلامها لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة
فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفها من زوال كلامهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه في علم ذلك
فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل وقال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه وكل دابة على الله رزقها { ويعلم مستقرها ومستودعها }
وقال الله تعالى : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } فقوله : { ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله } إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى وقوله : { ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه } عام فيمن أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى
وقوله تعالى : { حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } فهذا من العام المراد به الخاص لأنهما لم ستطعما جميع أهل القرية
وقال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا } فهذا عام لم يخرج عنه أحد من الناس وقال إثر هذا : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فهذا خاص لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين
وقال تعالى : { الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم } فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم وعلى جميع الناس وعلى ما بين ذلك فيصح أن يقال : إن الناس قد جمعوا لكم والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر
وقال تعالى : { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له } فالمراد بالناس هنا الذين اتخذوا من دون الله إلها دون الإطفال والمجانين والمؤمنين
وقال تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } فظاهرا السؤال عن القرية نفسها وسياق قوله تعالى : { إذ يعدون في السبت } إلى آخر الاية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق
وكذلك قوله تعلى : { وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة } الآية فإنه لما قال كانت ظالمة دل على أن المراد أهلها
وقال تعالى : { واسأل القرية التي كنا فيها } الآية فالمعنى بين أن المراد أهل القرية ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك لأن القرية والعير لا يخبران بصدقهم
هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها وهم أهل النحو والتصريف وأهل المعاني والبيان وأهل الاشتقاق وشرح مفردات اللغة وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال فجميعه نزل به القرآن ولذلك أطلق عليه عبارة العربي
أحدهما أن يكون عربيا أو كالعربي في لسانه فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران
أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب بالغا فيه مبالغ العرب أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم وإنما المراد أن تصير فهمه عربيا في الجملة وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به
قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها يعني لسان العرب ـ وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به ـ فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث لا يعرفه غير محمودة وكان في تخطئته غير معذور إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطأ فيه
وما قاله حق فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف ـ وقد نهينا عن التكلف ـ ودخول تحت معنى الحديث حيث قال عليه الصلاة و السلام :
[ حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا ] الحديث لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة
وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويصلح بها منطقه ؟ قال : نعم ! فليتعلمها فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك
وعن الحسن قا ل : أهلكتهم العجمة يتأولون على غير تأويله
الأمر الثاني أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره من علماء العربية
والأمر الثاني : أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أ ن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية فقد يكون إماما فيها ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات فالأولى في حقه الاحتياط إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها وقد نقل شيء من هذا عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيرهم
نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السموات وألارض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي أنا ابتدأتها
وفيما يروى عن عمر رضي الله عنه أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : { أو يأخذهم على تخوف } فأخبره رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة
كلام الشافعي في فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب قا ل الشافعي : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا وأكثرها ألفاظا
قال : ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي ولكنه لا يذهب منه شيء على عامته حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتى على السنن وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال : وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ولا يعلمه إلا من نقله عنها ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ومن قبله منها فهو من أهل لسانها وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله
هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أديت وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء لله ـ موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأصحابه الكرام
روي [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قلنا يا رسول الله من خير الناس ؟ قال : ذو القلب المخموم واللسان الصادق قلنا : قد عرفنا اللسان الصادق فما ذو القلب المخموم ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا حسد قلنا فمن على أثره ؟ قال : الذي ينسى الدنيا ويحب الآخرة قلنا : ما نعرف هذا فينا إلا رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه و سلم قلنا : فمن على أثره ؟ قال : مؤمن في خلق حسن قلنا : أما هذا فإنه فينا ]
ويروي : [ أن رسول الله صلى الله عليه و سلم جاءه رجل فقال : يا رسول الله ! أيدالك الرجل امرأته ؟ قال : نعم إذا كان مفلجا فقال له أبو بكر رضي الله عنه : ما قلت وما قال لك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ؟ فقال : قال : أيماطل الرجل امرأته ؟ قلت : نعم إذا كان فقيرا فقال أبو بكر : ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال : كيف لا وأنا من قريش وأرضعت في بني سعد ؟ ]
أمثلة لوقوع الخطأ في العربية في كلام الله وسنة نبيه أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي
فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه وإلا زل فقال في الشريعة برأيه لا بلسانها
ولنذكر لذلك ستة أمثلة :
أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } أن تأويل هذه الآية لم يجىء بعد وكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة فإنها تقول إن عليا في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي علي من السماء : اخرجوا مع فلان فهذا معنى قوله تعالى : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي } الآية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله : لم يجىء بعد
بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان وأن ما قاله جابر لا ينساق
الثاني قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع والثاني : قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستلا بقوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع } لأن أربعا إلى ثلاث إلى اثنتين تسع ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب وأن معنى الآية فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا على التفصيل لا على ما قالوا
الثالث قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم والثالث : قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على اللحم لم يقل ما قال
الرابع قول من قال : أن كل شيء فان حتى ذات الباري ما عدا الوجه والرابع : قول من قال : إن كل فان حتى ذات الله ـ تعالى عما يقولون علوا كبيرا ـ ما عدا الوجه بدليل { كل شيء هالك إلا وجهه } وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال فإن للمفسرين فيه تأويلات وقصد هذا القائل ما لا يتجه لغة ولا معنى وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول : فعلت هذا لوجه فلان : أي لفلان فكان معنى الآية : كل شيء هالك إلا هو وقوله تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله } ومثله قوله تعالى : { كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام }
الخامس قول من زعم أن لله جنبا والخامس : قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى جنبا مستدلا بقوله : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله } وهذا لا معنى للجنب فيه لا حقيقة ولا مجازا لأن العرب تقول : هذا الأمر يصغر في جنب هذا أي يصغر بالإضافة إلى آخر فكذلك الآية معناها : يا حسرتا على مافرطت في جنب الله أي فيما بيني وبين الله إذ أضفت تفريطي إلى أمره ونهيه إياي
السادس قول من قال في قوله صلى الله عليه و سلم لا تسبوا الدهر أن فيه مذهب الدهرية
والسادس : قول من قال في قول النبي صلى الله عليه و سلم : [ لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر ] إن هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ولم يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ولا تنسبوها إليه فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ونابته قوارع الدهر ومصائبه فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر فيقولون : لعن الله الدهر ومحا الله الدهر واشباه ذلك وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه فكأنهم إنما سبوا الفاعل والفاعل هو الله وحده فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى
فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه و سلم وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية ـ إن أراد أن يكون من أهل الاجتهاد فهو ـ إن شاء الله ـ داخل في سوادهم الأعظم كائن على ما كانوا عليه فانتظم في سلك الناجية
النوع الثاني الجهل بالمقاصدأن الله تعالى أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء
أن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله صلى الله عليه و سلم فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم ولم يمت رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى بذلك حيث قال تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فكل من زعم أنه بقي في الدين شيء لم يكمل فقد كذب بقوله : اليوم أكملت لكم دينكم
فلا يقال : قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه وأن مسائل الجد في الفرائض والحرام في الطلاق ومسألة الساقط على جريح محفوف بجرحى وسائر المسائل الاجتهادية التي لا نص فيها من كتاب ولا سنة فأين الكلام فيها ؟
فيقال في الجواب : أولا أن قوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } إن اعتبرت فيها الجزئيات من المسائل والنوازل فهو كما أوردتم ولكن المراد كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان نعم يبقى تنزيل الجزئيات على تلك الكليات موكولا إلى نظر المجتهد فإن قاعدة الاجتهاد أيضا ثابتة في الكتاب والسنة فلا بد من إعمالها ولا يسع الناس تركها وإذا ثبت في الشريعة أشعرت بأن ثم مجالا للإجتهاد ولايوجد ذلك إلا فيما لا نص فيه ولو كان المراد بالآية الكمال بحسب تحصيل الجزئيات بالفعل فالجزئيات لا نهاية لها فلا تنحصر بمرسوم وقد نص العلماء على هذا المعنى فإنما المراد الكمال بحسب ما يحتاج إليه من القواعد التي يجري عليها ما لا نهاية له من النوازل
ثم نقول ثانيا : إن النظر في كمالها بحسب خصوص الجزئيات يؤدي إلى الإشكال والالتباس وإلا فهو الذي أدى إلى إيراد هذا السؤال إذ لو نظر السائل إلى الحالة التي وضعت عليها الشريعة وهي حالة الكلية لم يورد سؤاله لأنها موضوعة على الأبدية وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية
وأما الجزئية فموضوعة على النهاية المؤدية إلى الحصر في التفصيل وإذ ذاك قد يتوهم أنها لم تكمل فيكون خلافا لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } وقوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل } الآية ولا شك أن كلام الله هو الصادق وما خالفه فهو المخالف فظاهر إذ ذاك أن الآية على عمومها وإطلاقها وأن النوازل التي لا عهد بها لا تؤثر في صحة هذا الكمال لأنها إما محتاج إليها وإما غير محتاج إليها فإن كانت محتاجا إليها فهي مسائل الاجتهاد الجارية على الأصول الشرعية فأحكامها قد تقدمت ولم يبق إلا منظر المجتهد إلى أي دليل يستند خاصة وإن كانت غير محتاج إليها فهي البدع المحدثات إذ لو كانت محتاجا إليها لما سكت عنها في الشرع لكنها مسكوت عنها بالفرض ولا دليل عليها فيه كما تقدم فليست بمحتاج إليها فعلى كل تقدير قد كمل الدين والحمد لله
ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال ولا قال أحد منهم : لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة ؟ وعلى حكم من قال لزوجته : أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصا بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد واعتبروا بمعان شرعية ترجع في التحصيل إلى الكتاب والسنة وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أتم الوجوه
وننتقل منه إلى معنى آخر وهو أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن مبرأ عن الإختلاف والتضاد ليحصل فيه كمال التدبر والاعتبار فقال سبحانه وتعالى : { أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فدل معنى الآية على أنه بريء من الاختلاف فهو يصدق بعضه بعضا ويعضد بعضه بعضا من جهة اللفظ ومن جهة المعنى
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بخلاف كلام المخلوق
فإنك تراه إلى الاختلاف ما هو فيأتي بالفصل من الكلام الجزل الفصيح فلا يكاد يختمه إلا وقد عرض له في أثنائه ما نقص من منصب فصاحته وهكذا تجد القصيدة الواحدة منها ما يكون على نسق الفصاحة اللائقة ومنها ما لا يكون كذلك
وأما جهة المعنى فإن معاني القرآن على كثرتها أو على تكرارها بحسب مقتضيات الأحوال على حفظ وبلوغ غاية في إيصالها إلى غايتها من غير إخلال بشيء منها ولا تضاد ولا تعارض على وجه لا سبيل إلى البشر أن يدانوه ولذلك لما سمعته أهل البلاغة الأولى والفصاحة الأصلية ـ وهم العرب ـ لم يعارضوه ولم يغيروا في وجه إعجازه بشيء مما نفي الله تعالى عنه وهم أحرص ما كانوا على الإعتراض فيه والغض من جانبه ثم لما أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا في غرائبه لم يزدهم البحث إلا بصيرة في أنه لا اختلاف فيه ولا تعارض والذي نقل من ذلك يسير توقفوا فيه توقف المسترشد حتى يرشدوا إلى وجه الصواب أو توقف المتثبت في الطريق
وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفين وحكم الحكمين : يا أيها الناس اتهموا رأيكم فلقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره لرددناه وإيم الله ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لأمر يفظعنا إلا أسهلن بنا أمر نعرفه الحديث
فوجد الشاهد منه أمران : قوله اتهموا الرأي فإن معارضة الظواهر في غالب الأمر رأي غير مبني على أصل يرجع إليه وقوله في الحديث ـ وهو النكتة في الباب ـ : والله ما وضعنا سيوفنا إلى آخره فإن معناه : أن كل ما ورد عليهم في شرع الله مما يصادم الرأي فإنه حق يتبين على التدريج حتى يظهر فساد ذلك الرأي وأنه كان شبهة عرضت وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه بل يتهم أولا ويعتمد على ما جاء في الشرع فإنه إن لم يتبين اليوم تبين غدا ولو فرض أنه لا يتبين أبدا فلا حرج فإنه متمسك بالعروة الوثقى
وفي الصحيح [ عن عمر رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم فاستمعت لقراءته فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فكدت أساوره في الصلاة فصبرت حتى سلم فلببته بردائه فقلت : من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ ؟ فقال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : كذبت فإن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقلت : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : أرسله اقرأ يا هشام فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : كذلك أنزلت ـ ثم قال ـ اقرأ يا عمر ! القراءة التي أقرأني فقال ـ كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرؤوا ما تيسر منه ]
وهذه المسألة إنما هي إشكال وقع لبعض الصحابة في نقل الشرع بين لهم جوابه النبي صلى الله عليه و سلم ولم يكن ذلك دليلا على أن فيه اختلافا فإن الاختلاف بين المكلفين في بعض معانيه أو مسائله لا يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلاف فقد اختلفت الأمم في النبوات ولم يكن ذلك دليلا على وقوع الاختلاف في نفس النبوات واختلفت في مسائل كثيرة من علوم التوحيد ولم يكن اختلافهم دليلا على وقوع الاختلاف فيما اختلفوا فيه فكذلك ما نحن فيه
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن في نفسه لا اختلاف فيه ثم نبني على هذا معنى آخر وهو أنه لما تبين تنزهه عن الاختلاف صح أن يكون حكما بين جميع المختلفين لأنه إنما يقرر معنى هو الحق والحق لا يختلف في نفسه فكل اختلاف صدر من مكلف فالقرآن هو المهيمن عليه قال الله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } فهذه الآية وما أشبهها صريحة في الرد إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة نبيه لأن السنة بيان الكتاب وهو دليل على أن الحق فيه واضح وأن البيان فيه شاف لا شيء بعده يقوم مقامه وهكذا فعل الصحابة رضي الله عنهم لأنهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة ردوها إلى الكتاب والسنة وقضاياهم شاهدة بهذا المعنى لا يجهلها من زوال الفقه فلا فائدة في جلبها إلى هذا الموضع لشهرتها فهو إذا مما كان عليه الصحابة
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران :
أحدهما : أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقصان ويعتبرها اعتبارا كليا في العبادات والعادات ولا يخرج عنها البتة لأن الخروج عنها تيه وضلال ورمي في عماية كيف وقد ثبت كمالها وتمامها ؟ فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطرق
و الثاني أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن والثاني : أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن ولا بين الأخبار النبوية ولا بين أحدهما مع الآخر بل الجميع جار على مهيع واحد ومنتظم إلى معنى واحد فإذا أداه بادىء الرأي إلى ظاهر اختلاف فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الإختلاف لأن الله قد شهد له أن لا إختلاف فيه فليقف وقوف المضطر السائل عن وجه الجمع أو المسلم من غير اعتراق فإن كان الموضع مما يتعلق به حكم عملي فليلتمس المخرج حتى يقف على الحق اليقين أو ليبق باحثا إلى الموت ولا عليه من ذلك فإذا اتضح له المغزى وتبينت له الواضحة فلا بد له من أن يجعلها حاكمة في كل ما يعرض له من النظر فيها ويضعها نصب عينيه في كل مطلب ديني كما فعل من تقدمنا ممن أثنى الله عليهم
فأما الأمر الأول : فهو الذي أغفله المبتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الاستدراك على الشرع وإليه مال كل من كان يكذب على النبي صلى الله عليه و سلم فيقال له ذلك ويحذر ما في الكذب عليه من الوعيد فيقول : لم أكذب عليه وإنما كذبت له
وحكي عن محمد بن سعيد المعروف بالأردني أنه قال : إذا كان الكلام حسنا لم أر بأسا أن أجعل له إسنادا فلذلك كان يحدث بالموضوعات وقد قتل في الزندقة وصلب
وقد تقدم لهذا القسم أمثلة كثيرة
وأما الأمر الثاني : فإن قوما أغفلوه أيضا ولم يمعنوا النظر حتى اختلف عليهم الفهم في القرآن والسنة فأحالوا بالأختلاف عليها تحسينا للظن بالنظر الأول وهذا هو الذي عاب رسول الله صلى الله عليه و سلم من حال الخوارج حيث قال : [ يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ] فوصفهم بعدم الفهم للقرآن وعند ذلك خرجوا على أهل الإسلام إذ قالوا : لا حكم إلا لله وقد حكم الرجال في دين الله حتى بين لهم حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما معنى قوله تعالى : { إن الحكم إلا لله } على وجه أذعن بسببه منهم ألفان أو من رجع منهم إلى الحق وتمادى الباقون على ما كانوا عليه اعتقادا ـ والله أعلم ـ على قول من قال منهم : لا تناظروه ولا تخاصموه فإنه من الذين قال الله فيهم : { بل هم قوم خصمون }
فتأملوا رحمكم الله كيف كان فهمهم في القرآن ثم لم يزل هذا الإشكال يعتري أقواما حتى اختلفت عليهم الآيات والأحاديث وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر
عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم الآيات والأحاديث فظنوا أن في الشريعة تناقضا أحدها تناقض آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ في الصور
ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة :
أحدها : قول من قال : إن قوله تعالى : { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } يتناقض مع قوله تعالى : { فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون }
و الثاني تناقض آية فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا
والثاني : قول من قال في قوله تعالى : { فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان } مضاد لقوله : { وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون } وقوله تعالى : { ولتسألن عما كنتم تعملون }
و الثالث تناقض الآيات في مدة خلق السموات والأرض والثالث : قول من قال في قوله تعالى : { قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين } إلى قوله تعالى : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين } إن هذا صريح في أن الأرض مخلوقة قبل السماء وفي الآية الأخرى : { أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والأرض بعد ذلك دحاها } فصرح بأن الأرض مخلوقة بعد السماء
ومن هذه الأسئلة ما أورده نافع بن الأزرق ـ أوغيره على ابن عباس رضي الله عنهما فخرج البخاري في المعلقات عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي وهي قوله تعالى : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } { وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون } { ولا يكتمون الله حديثا } { والله ربنا ما كنا مشركين } فقد كتموا في هذه الآية : { أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها } إلى قوله تعالى : { والأرض بعد ذلك دحاها } فذكر خلق السماء قبل الأرض ثم قال : { أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين } إلى قوله : { ثم استوى إلى السماء وهي دخان } إلى قوله { طائعين } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء وقال : { وكان الله غفورا رحيما } { عزيزا حكيما } { سميعا بصيرا } فكأنه كان ثم مضى فقال ـ يعني ابن عباس : { فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون } في النفخة الأولى { ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله } فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون
وأما قوله : { ما كنا مشركين } { ولا يكتمون الله حديثا } فإن الله عز و جل يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم وقال المشركون تعالوا نقول : لم نكن مشركين فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثا وعنده { يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض }
وقوله عز و جل : { خلق الأرض في يومين } { ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات } في يومين آخرين ثم دحا الأرض ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والآكام وما بينهما في يومين آخرين فذلك قوله : دحاها وقوله تعالى : { خلق الأرض في يومين } فخلقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلقت السموات في يومين { وكان الله غفورا رحيما } سمى نفسه بذلك وذلك ( قوله ) أي لم يزل كذلك فإن الله عز و جل لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد فلا يختلف عليك القرآن فإن كلا من عند الله
و الرابع مخالفة آية وإذ أخذ ربك من بني آدم الحديث أن الله خلق آدم
والرابع : قول من قال : إن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : [ إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة { وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ] الحديث كما وقع مخالف لقول الله تعالى : { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى } ! فالحديث أنه أخذهم من ظهر آدم والكتاب يخبر أنه أخذ من ظهور آدم وهذا إذا تؤمل لا خلاف فيع لأن هيمكن الجمع بينهما بأن يخرجوا من صلب آدم عليه الصلاة و السلام دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إلى الدنيا ولا محال في هذا بأن يتفطر في تلك الآخذة الأبناء عن الأبناء من غير ترتيب زمان وتكون النسبتان معا صحيحتين في الحقيقة لا على المجاز
مخالفة القضاء لحكم القرآن بالجلد والخامس : قول من قال فيما جاء في الحديث : [ أن رجلا قال : يا رسول الله نشدتك الله ! إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله فقال خصمه ـ وكان أفقه منه ـ : صدق اقض بيننا بكتاب الله وائذن لي في أن أتكلم ] ثم أتى بالحديث فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : [ والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة والغنم فرد عليك وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام وعلى امرأة هذا الرجم ] إلى آخر الحديث هو مخالف لكتاب الله لأنه قد قال : [ لأقضين بينكما بكتاب الله ] حسبما سأله السائل ثم قضى بالرجم والتغريب وليس لهما ذكر في كتاب الله
الجواب : إن الذي أوجب الإشكال في المسألة اللفظ المشترك في كتاب الله فكما يطلق على القرآن يطلق على ما كتب الله تعالى عنده مما هو حكمه وفرضه على العباد كان مسطورا في القرآن أو لا كما قال تعالى : { كتاب الله عليكم } أي حكم الله فرضه وكل ما جاء في القرآن من قوله : { كتاب الله عليكم } فمعناه فرضه وحكم به ولا يلزم أن يوجد هذا الحكم في القرآن
و السادس لزوم تجزئة حد الرجم بحق الإماء والسادس : قول من زعم أن قوله تعالى في الإماء { أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من } لا يعقل مع ما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه و سلم رجم ورجمت الأئمة بعده لأنه يقتضي أن الرجم ينتصف وهذا غير معقول فكيف يكون نصفه على الإماء ؟ ذهابا منهم إلى أن المحصنات هن ذوات الأزواج وليس كذلك بل المحصنات هنا المراد بهن الحرائر بدليل قوله أول الآية : { ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات } وليس المراد هنا إلا الحرائر لأن ذوات الأزواج لا تنكح
منع نكاح المرأة على عمتها وخالتها وكون ما يحرم بالرضاع يحرم بالنسب مع عدم ذكره في القرآن في محرمات النكاح
والسابع : قولهم : إن الحديث :
[ جاء بأن المرأة لا تنكح على عمتها ولا على خالتها وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ] والله تعالى لما ذكر المحرمات لم يذكر من الرضاع إلا الأم والأخت ومن الجمع إلا الجمع بين الأختين وقال بعد ذلك : { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فاقتضى أن المرأة تنكح على عمتها وعلى خالتها وإن كان رضاع سوى الأم والأخت حلالا
وهذه الأشياء من باب تخصيص العموم لا تعارض فيه على حال
و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون
والثامن : قول من قال : إن قوله عليه الصلاة و السلام :
[ غسل الجمعة واجب على كل محتلم ] مخالف
لقوله : [ من توضأ يوم الجمعة فبها نعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل ]
والمراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة بحيث لا يكون تركا للفرض وبه يتفق معنى الحديثين فلا اختلاف
والتاسع : قولهم جاء في الحديث :
[ صلة الرحم تزيد العمر ] والله تعالى يقول : { إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة
وأجيب عنه بأجوبة ( منها ) : أن يكون في علم الله أن هذا الرجل إن وصل رحمه عاش مائة سنة وإلا عاش ثمانين سنة مع أن في علمه أنه يفعل بلا بد أو أنه لا يفعل أصلا
وعلى كلا الوجهين إذا جاء أجله لا يستأخر ساعة ولا يستقدم قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القرافي
و العاشر تدافع حديث توضئته صلى الله عليه و سلم وهو جنب لأجل النوم وحديث نومه وهو جنب
والعاشر : قال في الحديث :
[ إنه عليه الصلاة و السلام كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة ] ثم فيه :
[ كان عليه الصلاة و السلام ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ] وهذا تدافع والحديثان معا لعائشة رضي الله عنها
والجواب سهل فالحديثان يدلان على أن الأمرين موسع فيهما لأنه إذا فعل أحد الأمرين وأكثر منه وفعل الآخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك وهذا شأن المستحب فلا تعارض بينهما
فهذه عشرة أمثلة تبين لك مواقع الإشكال وإني رتبتها مع ثلج اليقين فإن الذي عليه كل موقن بالشريعة أنه لا تناقض فيها ولا اختلاف فمن توهم ذلك فيها فهو لم ينعم النظر ولا أعطى وحي الله حقه ولذلك قال الله تعالى : { أفلا يتدبرون القرآن } ؟ فحضهم على التدبر أولا ثم أعقبه : { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } فبين أنه لا اختلاف فيه وأن التدبر يعين على تصديق ما أخبر به
فصل النوع الثالث أي من مناشئ الإبتداع وهو تحسين الظن بالعقل أن الله جعل للعقول في إدراكها حدا
النوع الثالث :
أن الله جعل للعقول في إداركها حدا تنتهي إليه لا تتعداه ولم يجعل لها سبيلا إلى الإدراك في كل مطلوب ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري تعالى في إدراك جميع ما كان وما يكون وما لا يكون إذ لو كان كيف كان يكون ؟ فمعلومات الله لا تتناهى ومعلومات العبد متناهية والمتناهي لا يساوي ما لا يتناهى
وقد دخل في هذه الكلية ذوات الأشياء جملة وتفصيلا وصفاتها وأحوالها وأفعالها وأحكامها جملة وتفصيلا فالشيء الواحد من جملة الأشياء يعلمه الباري تعالى على التمام والكمال بحيث لا يعزب عن علمه مثقال ذرة لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أحواله ولا في أحكامه بخلاف العبد فإن علمه بذلك الشيء قاصر ناقص سواء كان في تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه وهو في الإنسان أمر مشاهد محسوس لا يرتاب فيه عاقل تخرجه التجربة إذا اعتبرها الإنسان في نفسه
انقسام المعلومات إلى ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على الأخبار
وأيضا : فأنت ترى المعلومات عند العلماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
قسم ضروري لا يمكن التشكيك فيه كعلم الإنسان بوجوده وعلمه بأن الاثنين أكثر من الواحد وأن الضدين لا يجتمعان
وقسم لا يعلمه البتة إلا أن يعلم به أو يجعل له طريق إلى العلم به وذلك كعلم المغيبات عنه كانت من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو لا كعلمه بما تحت رجليه إلا أن مغيبه عنه تحت الأرض بمقدار شبر وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي لم يتقدم له به عهد فضلا عم علمه بما في السموات وما في البحار وما في الجنة أو النار على التفصيل فعلمه لما لم يجعل له عليه دليل غير ممكن
وقسم نظري يمكن العلم به ويمكن أن لا يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو الممكنات التي تعلم بواسطة لا بأنفسها إلا أن يعلم بها إخبارا
وقد زعم أهل العقول أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة لاختلاف القرائح والأنظار فإذا وقع الاختلاف فيها لم يكن بد من مخبر بحقيقتها في أنفسها إن احتيج إليها لأته لو لم تفتقر إلى الإخبار لم يصح العلم بها لأن المعلومات لا تختلف باختلاف الأنظار لأتها حقائق في أنفسها فلا يمكن أن يكون كل مجتهد فيها مصيبا ـ كما هو معلوم في الأصول ـ وإنما المصيب فيها واحد وهو لا يتعين إلا بالدليل
وقد تعارضت الأدلة في نظر الناظر فنحن نقطع بأن أحد الدليلين دليل حقيقة والآخر شبهة ولا يعين فلا بد من إخبار بالتعيين
ولا يقال : إن هذا قول الإمامية : لأنا نقول : بل هو يلزم الجميع فإن القول بالمعصوم غير النبي صلى الله عليه و سلم يفتقر إلى دليل لأنه لم ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر
فالقول بإثباته نظري فهو مما وقع الخلاف فيه فكيف يخرج عن الخلاف بأمر فيه خلاف ؟ هذا لا يمكن
فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا فنقول : الأحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال المكلفين من قبيل الضروريات في الجملة وإن اختلفوا في بعض التفاصيل فلتماسها ( ؟ )
ونرجع إلى ما بقي من الأقسام فإنهم قد أقروا في الجملة ـ أعني القائلين بالتشريع العقلي ـ أن منه نظريا ومنه ما لا يعلم بضرورة ولا نظر وهما القسمان الباقيان مما لا يعلم له أصل إلا من جهة الإخبار فلا بد فيه من الإخبار لأن العقل غير مستقل فيه وهذا إذا راعينا قولهم وساعدناهم عليه فإنا إن لم نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن لا نحكم العقل أصلا فضلا عن أن يكون له قسم لا حكم له وعندهم أنه لا بد من حكم فلأجل ذلك نقول : لا بد من الافتقار إلى الخبر وحينئذ يكون العقل غير مستقل بالتفريع فإن قالوا : بل هو مستقل لأن ما لم يقض فيه فإما أن يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الحظر أو الإباحة ـ كما ذهب إليه آخرون
فإن قالوا : بالثاني فهو مستقل وإن قالوا بالأول فكذلك أيضا لأنه قد ثبت استقلاله بالبعض فافتقاره في بعض الأشياء لا يدل على افتقاره مطلقا قلنا : بل هو مفتقر على الإطلاق لأن القائلين بالوقف اعترفوا بعدم استقلاله في البعض وإذا ثبت الافتقار في صورة ثبت مطلقا إذ وقف فيه العقل قد ثبت فيه ذلك وما لم يقف فيه فإنه نظري : فيرجع إلى ما تقدم في النظر وقد مر أنه لا بد من حكم ولا يمكن إلا من جهة الإخبار
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالهم أيضا إلية أن المسألة نظرية فلا بد من الإخبار وذلك معنى كون العقل لا يستقل بإدراك الأحكام حتى يأتي المصدق للعقل أو المكذب له
فإن قالوا : فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الإستقلال قلنا : إن ساعدناكم على ذلك فلا يضرنا في دعوى الافتقار لأن الأخبار قد تأتي بما يدركه الإنسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر أو إيقاظا لمغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا فهو إذا محتاج إليه ولا بد للعقل من التنبيه من خارج وهي فائدة بعث الرسل فإنكم تقولون : إن حسن الصدق النافع والإيمان وقبح الكذب أيضا والكفران معلوم ضرورة وقد جاء الشرع بمدح هذا وذم ذلك وأمر بهذا ونهى عن ذلك
فلو كان العقل غير مفتقر إلى التنبيه لزم المحال وهو الإخبار بما لا فا ئدة فيه لكنه أتى بذلك فدلنا على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إلى التنبيه عليه هذا وجه
ووجه آخر : هو أن العقل لما ثبت أنه قاصر ووجه آخر : وهو أن العقل لما ثبت أنه قاصر الإدراك في علمه فما ادعى علمه لم يخرج عن تلك الأحكام الشرعية التي زعم أنه أدركها لإمكان أن يدركها من وجه دون وجه وعلى حال دون حال والبرهان على ذلك أحوال أهل الفترات فإنهم وضعوا أحكاما على العباد يمقتضى السياسات لا تجد فيها أصلا منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء بل استحسنوا أمورا تجد العقول بعد تنويرهابالشعر تنكرها وترميها بالجهل والضلال والبهتان والحمق مع الاعتراف بأنهم أدركوا بعقولهم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ومع أنهم كانوا أهل عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيرات لدنياهم غامضة لكنها بالنسبة إلى ما يصيبوا فيه قليلة فلأجل هذا كله وقع الإعذار والإنذار وبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ولله الحجة البالغة والنعمة السابغة
فالإنسان وإن زعم في الأمر أنه أدركه وقتله علما ـ لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه ما لم يكن عقل وأدرك من علمه ما لم يكن أدرك قبل ذلك كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ولا يختص ذلك عنده بمعلوم دون معلوم ولا بذات دون ذات ولا بصفة دون صفة ولا فعل دون حكم فكيف يصح دعوى الاستقلال في الأحكام الشرعية وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم العبد ؟ لا سبيل له إلى دعوى الاستقلال البتة حتى يستظهر في مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية ـ لأن أوصاف الشارع لا تختلف فيها البتة ولا قصور ولا نقص بل مبادئها موضوعة على وفق الغايات وهي من الحكمة
ووجه ثالث إنقسام العلم إلى البديهي والضروري وغيره ووجه ثالث : وهو أن ما ندعي علمه في الحياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إلى البديهي الضروري وغيره إلا من طريق ضروري إما بواسطة أو بغير واسطة إذ قد اعترف الجميع أن العلوم المكتسبة لا بد في تحصيلها من توسيط مقدمتين معترف بهما فإن كانتا ضروريتين فذاك وإن كانت مكتسبتين فلا بد في اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتين وينظر فيهما كما تقدم وكذلك إن كانت واحدة ضرورية وأخرى مكتسبة فلا بد للمكتسبة من مقدمتين فإن انتهينا إلى ضروريتين فهو المطلوب وإلا لزم التسلسل أو الدور وكلاهما محال فإذا لا يمكن أن نعرف غير الضروري إلا بالضروري
وحاصل الأمر أنه لا بد من معرفتها بمقدمتين حصلت لنا كل واحدة منهما مما عقلناه وعلمناه من مشاهد باطنة كالألم واللذة أو بدعي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الاثنين أكثر من الواحد وبأن الضدين لا يمكن اجتماعهما وما أشبه ذلك مما هو لنا معتاد في هذه الدار فإنا لم يتقدم لنا علم إلا بما هو معتاد في هذا الدار وأما ما ليس بمعتاد فقبل النبوات لم يتقدم لنا به معرفة فلو بقينا على ذلك لم نحل ما لم نعرف إلا على ما عرفنا وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا والحيوان حجرا وما أشبه ذلك لأن الذي نعرفه من المعتادات المتقدمة خلاف هذه الدعوى
بحث خوارق العادات وإنكار المصرين على العادات لها فلما جاءت النبوات بخوارق العادات أنكرها من أصر على الأمور العادية واعتقادها سحرا أو غير ذلك كقلب العصا ثعبانا وفرق البحر وإحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص ونبع الماء من بين أصابع اليد وتكليم الحجر والشجر وانشقاق القمر إلى غير ذلك مما تبين به أن تلك العوائد اللازمة في العادات ليست بعقلية بحيث لا يمكن تخلفها بل يمكن أن تتخلف كما يجوز على كل مخلوق أن يصير من الوجود إلى العدم كما خرج من العدم إلى الوجود
فمبادىء العادات إذا يمكن عقلا تخلفها إذ لو كان عدم التخلف لها عقليا لم يمكن أن تتخلف لا لنبي ولا لغيره ولذلك لم يدع أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الجمع بين النقيضين ولا تحدى أحد بكون الاثنين أكثر من الواحد مع أن الجميع فعل الله تعالى وهو متفق عليه بين أهل الإسلام وإذا أمكن في العصا والبحر والأكمة والأبرص والأصابع والشجر وغير ذلك أمكن في جميع الممكنات لأن ما وجب للشيء وجب لمثله
وأيضا فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل الجنة وأهل النار خارجة عن المعتاد الذي عندنا فإن كون الإنسان في الجنة يأكل ويشرب ثم لا يغوط ولا يبول غير معتاد وكون عرقه كرائحة المسك غير معتاد وكون الأزواج مطهرة من الحيض مع كونهن في حالة الصبا وسن من يحيض غير معتاد وكون الإنسان فيها لا ينام ولا يصيبه جوع ولا عطش وإن فرض لا يأكل ولايشرب أبد الدهر غير معتاد وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف في الحال ويتدانى إلى يد القاطف إذا اشتهاه غير معتاد وكون اللبن والخمر والعسل فيها أنهارا من غير حلاب ولا عصر ولا نحل وكون الخمر لا تسكر غير معتاد وكون ذلك كله بحيث لو استعمله الإنسان دائما لا يمتلىء ولا يصيبه كظة ولا تخمة ولا يخرج من جسده لا من أذنه ولا أنفه ولا ارفاغه ولا سائر جسده أوساخ ولا أقذار غير معتاد وكون أحد من أهل الجنة لا يهرم ولا يشيخ ولا يموت ولا يمرض غير معتاد
وكذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذا بالله ـ وجدت من ذلك كثيرا ككون النار لا تأتي عليه حتى يموت كما قال تعالى : { لا يموت فيها ولا يحيا } وسائر أنواع الأحوال التي هم عليها كلها خارق للعادة
فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنها ليست بعقلية وإنما هي وضعية يمكن تخلفها وإنما لم نحتج بالكرامات لأن أكثر المعتزلة ينكرونها رأسا وقد أقر بها بعضهم وإن ملنا إلى التعريف فلو اعتبر الناظر في هذا العالم لوجد لذلك نظائر جارية على غير معتاد
مناظرة شعيب بن أبي سعيد لراهب في الشام واسمع في ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط :
قال : سمعت شعيب بن أبي سعيد يحدث : أن راهبا كان بالشام من علمائهم وكان ينزل مرة في السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن جاءه فقال له الراهب : أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني قال الراهب : أليس تقولون : إنكم تأكلون في الجنة وتشربون ثم لا يخرج منكم أذى ؟ قال خالد : بلى ! قال الراهب : افلهذا مثل تعرفونه في الدنيا ؟ قال : نعم ! الصبي يأكل في بطن أمه من طعامها ويشرب من شرابها ثم لا يخرج منه أذى قال الراهب لخالد : أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني : قال : افليس تقولون : إن في الجنة فواكه تأكلون منها لا ينقص منها شيء ؟ قال خالد : بلى ! أفلهذا مثل في الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد : نعم ! الكتاب يكتب منه كل شيء أحد ثم لا ينقص منه شيء قال الراهب : أليس تقول : إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد : إن فيهم لمن هو أعلم مني قال خالد : فتمعر وجهه ثم قال : إن هذا من أمة بسط لها في الحسنات ما لم يبسط لأحد انتهى المقصود من الخبر
وهو ينبه على أن ذلك الأصل الذي يظهر من أول الأمر أنه غير معتاد له أصل في المعتاد و هو تنزل للمنكر غير لازم ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك الحقائق الواضحات
فعلى هذا يصح قضاء العقل في عادي بانخرافه مع أن كون العادي عاديا مطردا غير صحيح أيضا فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار إذ قد ثبت في بعض الأنواع التي اختص الباري باختراعها والعقل لا يفرق بين خلق وخلق فلا يمكن إلا الحكم بذلك الإمكان على كل مخلوق ولذلك قال بعض المحققين من أهل الاعتبار : سبحان من ربط الأسباب بمسبباتها وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا المعنى المقرر
حكمة ربط الأسباب بالمسببات وحكمة خرق العوائد فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين :
أحدهما : أن لا يجعل العقل حاكما بإطلاق وقد ثبت عليه حاكم بإطلاق وهو الشرع بل الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقديم ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخير ـ وهو نظر العقل ـ لأنه لا يصح تقديم الناقص حاكما على الكامل لأنه خلاف المعقول والمنقول بل ضد القضية هو الموافق للأدلة فلا معدل عنه ولذلك قال : اجعل الشرع في يمينك والعقل في يسارك تنبيها على تقدم الشرع على العقل
العقل غير حاكم بإطلاق والشرع حاكم عليه بإطلاق خرق العوائد لا ينبغي للعقل إنكاره بإطلاق
والثاني : أنه إذا وجد في الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق لعادة الجارية المعتادة فلا ينبغي له أن يقدم بين يديه الإنكار يإطلاق بل له سعة في أحد أمرين : إما أن يصدق به على حسب ما جاء ويكل علمه إلى عالمه وهو ظاهر قوله تعالى : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } يعني الواضح المحكم والمتشابه المجمل إذ لا يلزمه العلم به ولو لزم العلم به لجعل له طريق إلى معرفته وإلا كان تكليفا بما لا يطاق وإما أن يتأوله على ما يمكن حمله عليه مع الإقرار بمقتضى الظاهر لأن إنكاره إنكار لخرق العادة فيه
وعلى هذا السبيل يجري حكم الصفات التي وصفت الباري بها نفسه لأن من نفاها نفى شبه صفات المخلوقين وهذا منفي عند الجمهور فبقي الخلاف في نفي عين الصفة أو إثباتها فالمثبت أثبتها على شرط نفي التشبيه والمنكر لأن يكون ثم صفة غير شبيهة بصفات المخلوقين منكر لأن يثبت أمر إلا على وفق المعتاد
فإن قالوا : هذا لازم فيما تنكره العقول بديهة كقوله :
[ رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ] فإن الجميع أنكروا ظاهره إذ العقل والحس يشهدان بأنها غير مرفوعة وأنت تقول : اعتقدوا أنها مرفوعة وتأولوا الكلام
إيضاح مطلب تحكيم العقل في الشرع بعشرة أمثلة قيل : لم نعن ما هو منكر ببداهة العقول وإنما عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب كما نقول : إن الصراط ثابت والجواز عليه قد أخبر الشارع به فنحن نصدق به لأنه إن كان كحد السيف وشبهه لا يمكن استقرار الإنسان فوقه عادة فكيف يمشي عليه ؟ فالعادة قد تخرق حتى يمكن المشي والاستقرار والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ولا يلتفتون إلى إمكان انخراق العوائد فإن فرقوا صار ذلك تحكما لأنه ترجيح في أحد المثلين دون الآخر من غير مرجح عقلي وقد صادفهم النقل فالحق الإقرار دون الإنكار
ولنشرح هذا المطلب بأمثلة عشرة :
الأول والثاني مسألتا الصراط والميزان أحدها : مسألة الصراط وقد تقدمت :
والثاني : مسألة الميزان إذ يمكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الآخرة وتوزن فيه الأعمال على وجه غيرعادي نعم يقر العقل بأن أنفس الأعراض ـ وهي الأعمال ـ لا توزن الموزونات عندنا في العادات ـ وهي الأجسام ولم يأت في النقل ما يعين أنه كميزاننا من كل وجه أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس الأعمال توزن بعينها فالأخلق الحمل إما على التسليم وهذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يثبت عنهم إلا مجرد التصديق من غير بحث عن نفس الميزان أو كيفية الوزن كما أنه لم يثبت عنهم في الصراط إلا ما ثبت عنهم في الميزان فعليك به فهو مذهب الصحابة رضي الله عنهم
فإن قيل : فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الخارجة
قيل : لا لأن الأصل في ذلك التصديق بما جاء التسليم محضا أو مع التأويل نظر ( ؟ ) لا يبعد : إذ قد يحتاج إليه في بعض المواضع بخلاف من جعل أصله في تلك الأمور التكذيب بها فإنه مخالف لهم للسلك في الأحاديث مسلك التأويل أو عدمه لا أثر له لأنه تابع على كلتا الطريقتين لكن التسليم أسلم
والثالث مسألة عذاب القبر والثالث : مسألة عذاب القبر وهي أسهل ولا بعد ولا نكير في كون الميت يعذب برد الروح إليه عارية ثم تعذيبه على وجه لا يقدر البشر على رؤيته لذلك ولا سماعه فنحن نرى الميت يعالج سكرات الموت ويخبر بآلام لا مزيد عليها ولا نرى عليه من ذلك أثرا وكذلك أهل الأمراض المؤلفة وأشباه ذلك مما نحن فيه مثلها فلماذا يجعل استبعاد العقل صادا في وجه التصديق بأقوال الرسول الله صلى الله عليه و سلم ؟
والرابع مسألة سؤال الملكين للميت والرابع : مسألة سؤال الملكين للميت وإقعاده في قبره فإنه إنما يشكل إذا حكمنا المعتاد في الدنيا وقد تقدم أن تحكيمه بإطلاق غير صحيح لقصوره وإمكان خرق العوائد إما بفتح القبر حتى يمكن إقعاده أو بغير ذلك من الأمور التي لا تحيط بمعرفتها العقول
والخامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الجوارح و السابع رؤية الله في الآخرة
والخامس : مسألة تطاير الصحف وقراءة من لم يقرأ قط وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك يمكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها
والسادس : مسألة إنطاق الجوارح شاهدة على صاحبها لا فرق بينها وبين الأحجار والشجار التي شهدت لرسول الله صلى الله عليه و سلم بالرسالة
والسابع : رؤية الله في الآخرة جائزة إذ لا دليل في العقل يدل على أنه لا رؤية إلا على الوجه المعتاد عندنا إذ يمكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ولا مقابلة ولا تصور جهة ولا فضل جسم شفاف ولا غير ذلك والعقل لا يجزم بامتناع ذلك بديهة وهو إلى القصور في النظر أميل والشرع قد جاء بإثباتها فلا معدل عن التصديق
والثامن كلام الباري والتاسع إثبات الصفات والثامن : كلام الباري تعالى إنما نفاه من نفاه وقوفا مع الكلام الملازم للصوت والحرف وهو في حق الباري محال ولم يقف مع إمكان أن يكون كلامه تعالى خارجا عن مشابهة المعتاد على وجه صحيح لائق بالرب إذ لا ينحصر الكلام فيه عقلا ولا يجزم العقل بأن الكلام إذا كان على غير الوجه المعتاد محال فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الأخبار مجردا
والتاسع : إثبات الصفات كالكلام إنما نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده في ذات الباري تعالى ـ على القول بإثباتها ـ فلا يمكن أن يكون واحدا مع إثباتها وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور إدراكه في المخلوقات فكيف لا يثبت قصوره في إدراكه إذا دعي التركيب بالنسبة إلى صفات الباري ؟ فكان من الصواب في حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته الله لنفسه ويقر مع ذلك بالوحدانية له على الإطلاق والعموم
والعاشر تحكيم العقل على الله تعالى وبيان فساد ذلك وكون الله تعالى له الحجة البالغة والمشيئة المطلقة
والعاشر : تحكيم العقل على الله تعالى بحيث يقول : يجب عليه بعثة الرسل ويجب عليه الصلاح والأصلح ويجب عليه اللطف ويجب عليه كذا ـ إلى آخر ما ينطق به في تلك الأشياء ـ وهذا إنما نشأ من ذلك الأصل المتقدم وهو الاعتياد في الإيجاب على العباد ومن أجل الباري وعظمه لم يجترىء على إطلاق هذه العبارة ولا ألم بمعناها في حقه لأن ذلك المعتاد إنما حسن في المخلوق من حيث هو عبد محصور ممنوع والله تعالى ما يمنعه شيء ولا يعارض أحكامه حكم فالواجب الوقوف مع قوله : { قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين } وقوله تعالى : { يفعل ما يشاء } وقوله تعالى : { إن الله يحكم ما يريد } { والله يحكم لا معقب لحكمه } { ذو العرش المجيد * فعال لما يريد }
السلف ـ آثارهم في عدم تحكيم عقولهم في صفات الله وعقائد دينه فالحاصل من هذه القصة أنه لا ينبغي للعقل أن يتقدم بين يدي الشرع فإنه من التقدم بين يدي الله ورسوله بل يكون ملبيا من وراء وراء
ثم نقول : إن هذا هو المذهب للصحابة رضي الله عنهم وعليه دأبوا وإياه اتخذوا طريقا إلى الجنة فوصلوا ودل على ذلك من سيرهم أشياء :
منها : أنه لم ينكر أحد مهنم ما جاء من ذلك بل أقروا وأذعنوا لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه و سلم ولم يصادموه ولا عارضوه بإشكال ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا سائر سيرهم وما جرى بينهم من القضايا والمناظرات في الأحكام الشرعية فلما لم ينقل إلينا شيء من ذلك دل على أنهم آمنوا به وأقروه كما جاء من غير بحث ولا نظر
كان مالك بن أنس يقول : الكلام في الدين أكرهه ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه نحو الكلام في رأي جهم والقدر وكل ما أشبه ذلك ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل فأما الكلام في الدين وفي الله عز و جل فالسكوت أحب إلي لأني رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلام في الدين إلا فيما تحته عمل
قال ابن عبد البر : قد بين مالك رحمه الله أن الكلام فيما تحته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ يعني العلماء منهم وأخبر أن الكلام في الدين نحو القول في صفات الله وأسمائه وضرب مثلا نحو رأي جهم والقدر ـ قال ـ والذي قاله مالك عليه جماعة الفقهاء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى وإنما خالف في ذلك أهل البدع ـ وأما الجماعة فعلى ما قال مالك رحمه الله إلا أن يضطر أحد إلى الكلام فلا يسعه السكوت إذا طمع في درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه وخشي ضلالة عامة أو نحو هذا
وقال يونس بن عبد الأعلى : سمعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال لي : يا أبا موسى ! لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك خير من أن يلقاه بشيء من الكلام لقد سمعت من حفص كلاما لا أقدر أن أحكيه
وقال أحمد بن حنبل : لا يفلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في المسائل إلا وفي قلبه دغل
( وقال ) عن الحسن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل في زفر بن الهذيل ـ أكان ينظر في الكلام ؟ فقال : سبحان الله ما أحمقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا عنهم ـ همهم غير الفقه والاقتداء بمن تقدمهم
وقال ابن عبد البر : أجمع أهل الفقه والآثار في جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في الأمصار في جميع طبقات العلماء وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالاتفاق والميز والفهم
وعن أبي الزناد أنه قال : وايم الله إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ونتعلمها شبيها بتعلمنا آي القرآن وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدل والتنقيب والأخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومجالستهم ويحذروننا مقاربتهم أشد التحذير ويخبرون أنهم أهل ضلال وتحريف لتأويل كتاب الله وسنن رسوله وما توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كره المسائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك وحذره المسلمين في غير موطن حتى كان من قوله كراهية لذلك
[ ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم ]
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : اتقوا الله في دينكم قال سحنون : يعني الانتهاء عن الجدل فيه وخرج ابن وهب عن عمر أيضا : إن أصحاب الرأي أعداء السنن أعيتهم أن يحفظوها وتفلتت منهم أن يعوها واستحيوا حين سئلوا أن يقولوا لا نعلم فعارضوا السنن برأيهم فإياكم وإياهم قال أبو بكر بن أبي داود : أهل الرأي هم أهل البدع وهو القائل في قصيدته في السنة :
( ودع عنك آراء الرجال وقولهم ... فقول رسول الله أزكى وأشرح )
وعن الحسن قال : إنما هلك من كان قبلكم حين تشعبت بهم السبل وحادوا عن الطريق فتركوا الآثار وقالوا في الدين برأيهم فضلوا وأضلوا
وعن مسروق قال : من رغب برأيه عن أمر الله يضل وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول : السنن السنن إن السنن قوام الدين وعن هشام بن عروة قال : إن بني إسرائيل لم يزل أمرهم معتدلا حتى نشأ فيهم مولدون سبايا الأمم فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا
فهذه الآثار وأشباهها تشير إلى ذم إيثار نظر العقل على آثار النبي صلى الله عليه و سلم
وذهب جماعة من العلماء إلى أن المراد بالرأي المذموم في هذه الأخبار البدع المحدثة في الاعتقاد كرأي جهم وغيره من أهل الكلام لأنهم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم في رد الأحاديث فقالوا : لا يجوز أن يرى الله في الآخرة أنه تعالى يقول : { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف } الآية
فردوا قوله عليه الصلاة و السلام : [ إنكم ترون ربكم يوم القيامة ] وتأولوا قول اله تعالى : { وجوه يومئذ ناضرة * إلى ربها ناظرة } وقالوا : لا يجوز أن يسأل الميت في قبره لقول الله تعالى : { أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين } فردوا الأحاديث المتواترة في عذاب القبر وفتنته وردوا الأحاديث في الشفاعة على تواترها وقالوا : لن يخرج من النار من دخل فيها : وقالوا : لا نعرف حوضا ولا ميزانا ولا نعقل ما هذا وردوا السنن في ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إلى أشياء يطول ذكرها من كلامهم في صفة الباري وقالوا : العلم محدث في حال حدوث المعلوم لأنه لا يقع علم إلا على معلوم فرارا من قدم العالم ـ في زعمهم ـ
وقال جماعة : الرأي المذموم المراد به الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع وهذا القول أعم من الأول لأن الأول خاص بالاعتقاد وهذا عام في العمليات وغيرها
وقال آخرون ـ قال ابن عبد البر : وهم الجمهور ـ إن المراد به القول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات ورد الفروع بعضها إلى بعض دون ردها إلى أصولها فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل قالوا : وفي الاشتغال بهذا تعطيل السنن والتذرع إلى جهلها
وهذا القول غير خارج عما تقدم وإنما الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إلى الرأي المذموم وهو معارضة المنصوص لأنه إذا لم يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إلى الرأي فلحق بالأولين الذين عارضوا السنن حقيقة فجميع ذلك راجع إلى معنى واحد وهو إعمال النظر العقلي مع طرح السنن إما قصدا أو غلطا وجهلا والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة
فالحاصل من مجموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم لم يعارضوا ما جاء في السنن بآرائهم علموا معناه أو جهلوه جرى لهم على معهودهم أو لا وهو المطلوب من نقله وليعتبر فيه من قدم الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم الله الربيع بن خثيم حيث يقول : يا عبد الله ! ما علمك الله في كتابه من علم فاحمد الله وما استأثر عليك به من علم فكله إلى عالمه لا تتكلف فإن الله يقول لنبيه : { قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين }
وعن معمر بن سليمان عن جعفر عن رجل من علماء أهل المدينة قال : إن الله علم علما علمه العباد وعلم علما لم يعلمه العباد فمن تكلف العلم الذي لم يعلمه العباد لم يزدد منه إلا بعدا قال : والقدر منه
وقال الأوزاعي : كان مكحول و الزهري يقولان : أمروا هذه الأحاديث كما جاءت ولا تتناظروا فيها : ومثله عن مالك و الأوزاعي و سفيان بن سعيد و سفيان بن عيينة و معمر بن راشد في الأحاديث في الصفات أنهم أمرواها كما جاءت نحو الحديث :
[ التنزل ]
[ وخلق آدم على صورته وشبههما ] وحديث مالك في السؤال عن الاستواء مشهور
وجميع ما قالوه مستمد من معنى قول الله تعالى : { فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة } الآية ثم قال : { والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا } فإنها صريحة في هذا الذي قررناه فإن كل ما لم يجر على المعتاد في الفهم متشابه فالوقف عنه هو الأحرى بما كان عليه الصحابة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه و سلم إذ لو كان من شأنهم اتباع الرأي لم يذموه ولم ينهوا عنه لأن أحدا لا يرتضي طريقا ثم ينهى عن سلوكه كيف وهم قدوة الأمة باتفاق المسلمين !
وروي عن الحسن كان في مجلس فذكر فيه أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فقال : إنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة تبيه صلى الله عليه و سلم فتشبهوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ـ ورب الكعبة ـ على الهدي المستقيم
وعن حذيفة أنه كان يقول : اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فلعمري لئن اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموه يمينا أو شمالا لقد ضللتم ضلالا بعيدا
وعن ابن مسعود : من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب محمد صلى الله عليه و سلم فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا وأقومها هديا وأحسنها خلالا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه و سلم وإقامة دينه فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم فإنهم كانوا على الهدي المستقيم
والآثار في هذا المعنى كثيرة جميعها يدل على الاقتداء بهم والاتباع لطريقهم على كل حال وهو طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق في قوله : [ ما أنا عليه وأصحابي ]
فصل النوع الرابع أي من مناشئ الإبتداع وهو إتباع الهوى النوع الرابع :
أن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات لكن على وجه كلي يليق بالأصول فمن أراد الإطلاع عليه فليطالعه من هنالك
ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يمكن أن يؤتى عليها بالاستيفاء فلنذكر منها شعبة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها
تشعب طرق الحق وبيان كون الشريعة حجة على الخلق فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم برهم وفاجرهم لم يختص بها أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها
فأنت ترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه و سلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته مما اختص بد دون أمته أو كان عاما له ولأمته كقوله تعالى : { يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك } إلى قوله تعالى : { خالصة لك من دون المؤمنين } إلى قوله تعالى : { لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج } وقوله تعالى : { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } وقوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم فالسريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع المكلفين وهي الطرق الموصل والهادي الأعظم
ألا ترى إلى قوله تعالى : { وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا } فهو عليه الصلاة و السلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان ثم من اتبعه فيه والكتاب هو الهادي والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي والخلق مهتدون بالجميع ولما استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلاة و السلام ـ وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا لا من جهة كونه بشرا عاقلا ـ مثلا ـ لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ولا لكونه من قريش ـ مثلا ـ دون غيرهم وإلا لزم ذلك في كل قرشي ولا لكونه من بني عبد المطلب ولا لكونه عربيا ولا لغير ذلك بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن حتى نزل فيه : { وإنك لعلى خلق عظيم } وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه حتى صار في علمه وعمله على وفقه فكان الوحي حاكما وافقا قائلا وكان هو عليه الصلاة و السلام مذعنا ملبيا نداءه واقفا عند حكمه وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر وبالنهي وهو منته وبالوعظ وهو متعظ وبالتخوف وهو أول الخائفين وبالترجية وهو سائق دابة الراجين
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه السلام ولذلك صار عبد الله حقا وهو أشرف اسم تسمى به العباد فقال الله تعالى : { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا } وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه بصحة العبودية
وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا لا بحسب عقولهم فقط ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط لأن الله تعالى إنما اثبت الشرف لا غيرها لقوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله أتقاكم } فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة
تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم ثم نقول بعد هذا : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم وعظم مقدارهم ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله وأنهم المستحقون شرف المنازل وهو مما لا ينازع فيه عاقل
واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة افضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم ـ أعني العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضليتها ـ أم لم نسامحهم بعد الاتفاق على الأفضلية وإثبات الحرية
وأيضا فإن علوم الشريعة منها ما يجري محرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية ومنها ما يجري مجرى المقاصد والذي يجري المقاصد أعلى مما ليس كذلك ـ بلا نزاع بين العقلاء أيضا ـ كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه فإنه كالوسيلة فعلم الفقه أعلى
وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ودل على ذلك وقوع الثناء عيهم مقيدا بالاتصاف به فهو إذا العلة في الثناء ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ومن ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق فليسوا بحكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك لاشتراك الجميع فيها وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب جملهم للعلم الحاكم فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاما على الخلق إلا من ذلك كما أنهم ممدحون من ذلك الوجه أيضا فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم إذ ليسوا حجة إلا من جهته فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا أحكاما ؟ هذا محال
وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية مهندس ولا في العالم بالهندسة عربي فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي حاكم بالشرع بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك فلا يصح أن يجعل حجة في العلم الحاكم لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه وهذا المعنى أيضا في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء
ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه وهو أن العالم بالشريعة إذ اتبع في قوله وانقاد إليه الناس في حكمه فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها لا من جهة أخرى فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم المبلغ عن الله عز و جل فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة وإنما هو ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه و سلم وثبت ذلك له عليه الصلاة و السلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث بمقتضاها حتى يساوي النبي صلى الله عليه و سلم في الانتصاب للحكم بإطلاق بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما إذا كان ـ بالفرقـ خارجا عن مقتضى الشريعة الحاكمة وهو أمر متفق عليه بين العلماء ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها لقوله تعالى : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول }
المكلف بأمور الشريعة لا يخلو من أحد أمور ثلاثة أحدها أن يكون مجتهدا فيها حكمه ما أداه إليه إجتهاده
فإذا المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :
أحدها : أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة دون ما ظهر لغيره من المجتهدين فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل دون ما أداه إليه اجتهاده ويعد ما ظهر له لغوا كالعدم لأنه على غير صوب الشريعة الحاكمة فإذا ليس قوله بشيء يعتد به في الحكم
الثاني أن يكون مقلدا صرفا والثاني : أن يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه وعالم يقتدي به ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا ان يكون فاقد العقل وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه لا من جهة كونه فلانا أيضا وهذه الجملة أيضا لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا
الثالث أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين والثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين لكنه يفهم الدليل وموقعه ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه فلا يخلو إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه متوجه شطره : فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلا بد من رجوعه إلى درجة العامي والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم فكذلك من نزل منزلته
ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة : أما النبي صلى الله عليه و سلم فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم فلا نطيل الاستدلال عليه
فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة قائم بحجتها حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكما ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة
فيجب إذا على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان عير مجتهد :
أحدهما : أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعا له ومأخوذا بأداء تلك الأمانة حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطىء فيما يلقى أو تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقا على الإطلاق لإمكان الزلل والخطأ وغلبة الظن في بعض الأمور وما اشبه ذلك
أما إذا كان هذا المتبع ناظرا في العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم في زماننا فإن توصله إلى الحق سهل لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة
اجتهاد العامي في اختيار من يقلد وأما إن كان عاميا صرفا فيظهر له الإشكال عند ما يرى الاختلاف بين الناقلين للشريعة فلا بد له ها هنا من الرجوع آخرا إلى تقليد بعضهم إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد لأنه محال وخرق للإجماع فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكته فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معا محالا وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما بل هو قول ثالث لا قائل به ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولا بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع
وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ولذلك خالفه وإلا لم يخالفه والعامي جاهل بمواقع الاجتهاد فلا بد له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما وذلك إنما يثبت للعامي بطريق جملي وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية ويظهر ذلك من جمهور العلماء والطالبين لا يخفى عليهم مثل ذلك لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى فإذا لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم
والأمر الثاني : أن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العامي ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء إما لكونه أرجح من غيره أو عند أهل قطره وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره
وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا ثم إلى مخالفة متبوعة أما خلافه للشرع فبالعرض وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده
أمر مالك و الشافعي بالإتباع دون تقليدهما ومن معنى كلام مالك رحمه الله : ما كان من كلامي موافقا للكتاب والسنة فخذوا به وما لم يوافق فاتركوه هذا معنى كلامه دون لفظه
ومن كلام الشافعي رحمه الله : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع ومعناه أنكل ما تتكلمون به على تحري أنه طابق الشريعة الحاكمة فإن كان كذلك فبها ونعمت وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها
لكن يتصور في هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهدا فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه وهو الشريعة وأن يكون مقلدا لبعض العلماء كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا أو خلاف ذلك لأن هذا القسم مقلدون بالعرض فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام إذ لم يبلغوا درجته فلا يصح تعرضهم للإجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته فإن فرض انتصابه للإجتهاد فهو مخطىء آثم أصاب أم لم يصب لأنه أتى الأمر من غيره وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث لا يدري وخطؤه هو المعتاد فلا يصح ابتاعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ولاخلاف أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر وأن مخالفة العامي كالعدم وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطىء فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده ؟
ولقد زل ـ بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال ـ اقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل
عشرة أمثلة لاتباع الهوى والتقليد أحدها : قول من جعل إتباع الآباء في أصل الدين هو الرجوع إليه
ولنذكر عشرة أمثلة :
أحدها : وهو أشدها قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوع إليه دون غيره حتى ردوا بذلك براهين الرسالة وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا : { إنا وجدنا آباءنا على أمة } فحين نبهوا على وجه الحجة بقوله تعالى : { قال أو لو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم } لم يكن لهم جواب إلا الإنكار اعتمادا على اتباع الآباء واطراحا لما سواه ولم يزل مثل هذا مذموما في الشرائع كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله : { ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين } وعن قوم إبراهيم عليه الصلاة و السلام بقوله تعالى : { قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } إلى آخر ذلك مما في معناه فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم
والثاني رأي الإمامية و الثالث مذهب الفرقة المهدوية و الرابع رأي بعض المقلدة لمذهب إمام
والثاني : رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم ـ في زعمهم ـ وإن خالف ما جاء يه النبي المعصوم حقا وهو محمد صلى الله عليه و سلم فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم
والثالث : لاحق بالثاني وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة وافقت حكم الشريعة أو خالفت بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة ( ؟ ) في عقد إيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي وقد تقدم من ذلك أمثلة
والرابع : رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير وفوقوا إليه سهام النقد وعدوه من الخارجين عن الجادة والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل بل بمجرد الاعتياد العامي
ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرين حتى أصاروه مهجور الفناء مهتضم الجانب لأنه من العلم بما لا يدي لهم به إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ولقي أيضا غيره حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك بحيث أنكروا ما عداه وهذا تحكيم الرجال على الحق والغلو في محبة المذهب وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره
والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان من المتصوفة والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان ممن يدعي التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين أو يروم الدخول فيهم يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم فيتخذونها دينا وشريعة لأهل الطريقة وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح لا يلتفتون إلى فتيا مفت ولا نظر عالم بل يقولون : إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته فكل ما يفعله أو يقلوه حق وإن كان مخالفا فهو أيضا ممن يقتدى به والفقه للعموم وهذه طريقة الخصوص !
فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى الله عليه و سلم وهو عين اتباع الرجال وترك الحق مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا وأيضا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق كل التأدب
وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار فيعدونها دينا وهي ضد الدين فتكون الزلة حجة في الدين
فكذلك أهل التصوف لا بد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها : هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا ؟ والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه كالجنيد وغيره رحمهم الله
ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري : مذهبنا مبني على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم في الأخلاق والأفعال والأكل من الحلال وإخلاص النية في جميع الأعمال ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف وحاشاهم من ذلك بل اتباع الرجال شأن أهل ا لضلال
والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطأ أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب كمسألة الباء الواقعة في هذه الأزمنة فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الأداء والنحويون ايضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن وإنما الباء التي يقرأ بها ـ وهي الموجودة في كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها بناء على أن التي قرؤوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء فلو كانت خطأ لردوها علينا وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا تحسين ظن الرجال وتهمة للعلم فصارت بدعة جارية ـ أعني القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا بأنها الحق الصريح فتعوذ بالله من المخالفة
ولقد لج بعضهم حين وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا فكان القرشي المقرىء أقرب مراما منهم حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما : { وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد } فرد عليه القرشي تحيد بالتنوين فراجعه القارىء ـ وكان يحسن النحو ـ فلج عليه المقرىء وثبت على التنوين فانتشر الخير إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد ـ وكان صديقا لهذا المقرىء ـ فنهض إليه فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرىء فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه فقال : أريد أن أبتدىء بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات فقال المقرىء : ما شئت فقرأ عليه من أول المفصل فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرىء بالتنوين فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ما هي إلا غير منونة بلا شك فلج المقرىء فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو فإن الأفعال لا يدخلها التنوين فتحير المقرىء إلا أنه لم يقنع بهذا فقال له ابن مجاهد : بين وبينك المصاحف فأحصر منه جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين فرجع المقرىء إلى الحق انتهت الحكاية ويا ليت مسألتنا مثل هذه ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب
والسابع رأي نابتة أن ما عليه الجمهور اليوم صحيح بإطلاق كإلزام الدعاء بالإجتماع عقب الصلوات
والسابع : رأي نابتة أيضا يرون أن عمل الجمهور اليوم ـ من التزام الدعاء بهيئة الإجتماع بإثر الصلوات والتزام المؤذنين التثويب بعد الآذان ـ صحيح بإطلاق من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة المسلمين بناء منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر فنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء
فلو كان خطأ لم يعملوا به
وهذا مما نحن فيه اليوم تتم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ويحسن الظن بمن تأخر وربما نوزع بأقوال من تقدم فيرميها الرامي بالظنون واحتمال الخطأ ولا يرمي بذلك المتأخرين الذين هم أولى به بإجماع المسلمين وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر : هل عليه دليل من الشريعة ؟ لم يأت بشيء أو يأتي بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها كقوله هذا خير أو حسن وقد قال تعالى : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } أو يقول : هذا بر وقال تعالى : { وتعاونوا على البر والتقوى } فإذا سئل عن أصل كونه خيرا أو برا وقف وميله إلى أنه ظهر له بعقله أنه خير وبر فجعل التحسين عقليا وهو مذهب أهل الزيغ وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات
ومنهم من طالع كلام القرافي و ابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام فنقول : هذا من المحدث المستحسن وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث :
[ ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ] وقد مر ما فيه وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند الله حسن لأنه جار على أصول الشريعة والدليل على ذلك الاتفاق على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعي لم يكن عند الله حسنا حتى يوافق الشريعة والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين بإتفاق منا ومنهم فلا اعتبار بالإحتجاج بالحديث على استحسان شيء واستقباحه بغير دليل شرعي
ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعي فيها الإجماع من أهل الأقطار وهو لم يبرح من قطره ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ولا عرف من أخبار الأقطار خبرا فهو ممن يسأل عن ذلك يوم القيامة
وهذا الإضطراب كله منشؤه تحسين الظن بأعمال المتأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك ـ والوقوف مع الرجال دون التحري للحق
والثامن رأي قوم ممن تقدم زمان المصنف ومن أهله اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم
والثامن : رأي قوم ممن تقدم زماننا هذا ـ فضلا عن زماننا ـ اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ومن رغب إليهم في ذلك فإذا عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبدا وغير ذلك بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسؤول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال : اختلاف العلماء رحمة ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول : كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز ـ شذ عن الجماعة أو لا ـ فالمسألة جائزة وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب الموافقات والحمد لله
والتاسع ما حكى الله عن الأحبار والرهبان في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا أي العمل بأقوالهم في الحلال والحرام
والتاسع : ما حكى الله عن الأحبار والرهبان قوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } فخرج الترمذي عن [ عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم ـ وفي عنقي صليب من ذهب ـ فقال : يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة : { ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم } قال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه ] حديث غريب
وفي تفسير سعيد ين منصور قيل لحذيفة أرأيت قول الله تعالى : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله } ؟ قال حذيفة : أما أنهم لم يصلوا لهم ولكنهم كانوا ما أحلوا لهم من حرام استحلوه وما حرموا عليهم من حلال حرموه فتلك ربوبيتهم
وحكى الطبري عن عدي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه و سلم وهو قول ابن عباس أيضا وأبي العالية
فتأملوا يا أولي الألباب ! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحر للدليل الشرعي بل لمجرد العرض العاجل عافانا الله من ذلك بفضله
العاشر رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين والعاشر : رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه وإلا ردوه
فالحاصل مما تقدم أن تحيكم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال
فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال وما توفيقي إلا بالله وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير
مذهب الصحابة في الإتباع وتحكيمه في النزاع وشواهد ذلك ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينا ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة حتى قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير فأتى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه و سلم بأن :
[ الأئمة من قريش ] أذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبؤوا برأي من رأى غير ذلك لعلمهم بأن الحق هو المتقدم على آارء الرجال
التنازع على الإمارة وقتال مانعي الزكاة ولما أراد أبو بكر رضي الله عنه قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله : [ إلا بحقها ] فقال : الزكاة حق المال ثم قال : والله منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه
فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :
أحداهما : أنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله صلى الله عليه و سلم وإن كان بتأويل لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا وفي القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالا إلى آخره مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحتي ظاهر تعضده مسائل شرعية وقواعد أصولية لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر فالتزمه ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق وهو الشرع
بعث أسامة والثانية : أن ابا بكر رضي الله عنه لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء من الفرقتين ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد ولكنه رضي الله عنه لم يعتبر إلا إقامة الملة على حسب ما كانت قبل فكان ذلك أصلا في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام نظير ما قال الله تعالى : { إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله } فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة فكذلك لم يعد أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي صلى الله عليه و سلم وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم مع أسامة بن زيد ـ ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة فأبى من ذلك وقال : ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره
وعن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليكم من زلة العالم ومن حكم جائر ومن هوى متبع ]
وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة على الشرع ؟ هذا مضاد لذلك
قول عمر في الثلاث الهادمات الدين ولقد كان كافيا من ذلك خطاب الله لنبيه وأصحابه : { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } الآية مع أنه قال تعالى : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } وقوله تعالى : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم وجدال منافق بالقرآن وأئمة مضلون وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة فقال : الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال
نصيحة علي لكميل بن زياد وعن كميل بن زياد أن عليا رضي الله عنه قال : يا كميل : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير والناس ثلاثة : فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق الحديث إلى أن قال فيه : أف لحامل حق لا بصيرة له ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر مشغوف بما لا يدري حقيقته فهو فتنة لمن فتن به وإن من الخير كله فاعرف الله دينه وكفى أن لا يعرف دينه
وعن ابن مسعود رضي الله عنه : ألا لا يقلدون أحدكم دينه رجلا إن آمن آمن وإن كفر كفر فإنه لا أسوة في الشر وهذا الكلام من ابن مسعود بين مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف وهو النهي عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك
وفي الصحيح عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا قال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت : ما أنت بفاعل قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك قال : هما المرءان أهتدي بهما يعني النبي صلى الله عليه و سلم وأبا بكر رضي الله عنه
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر قال فيه : فلما دخل قال : يابن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل وما تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين : إن الله قال لنبيه عليه الصلاة و السلام : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله
وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة و السلام : [ فأما المؤمن ـ أو المسلم ـ فيقول : محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا فيقال : نم صالحا قد علمنا أنك موقن وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلته ]
وحديث مخاصمة علي والعباس عمر في ميراث رسول الله صلى الله عليه و سلم وقوله لرهط الحاضرين : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال :
[ لا نورث ما تركناه صدقة ] فأقروا بذلك ـ إلى أن قال لعلي والعباس : [ أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة ] ـ إلى آخر الحديث
ترجمة البخاري لباب العمل بالشورى وترجم البخاري في هذا المعنى ترجمة تقتضي أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين فقال : باب قول الله تعالى : { وأمرهم شورى بينهم } { وشاورهم في الأمر } وأن المشاورة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } فإذا عزم الرسول لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله وشاور النبي صلى الله عليه و سلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج فرأوا له الخروج فلما لبس لأمته قالوا أقم فلم يمل إليهم بعد العزم وقال :
[ لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله ] وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها ( فسمع منهما ) حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ولكن حكم بما أمره الله
وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه و سلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها فإذا وقع في الكتاب والسنة لم يتعدوه إلى غيره اقتداء بالنبي صلى الله عليه و سلم ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
[ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوا : ( لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ] ؟ ثم تابعه بعد عمر فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه و سلم ثابتا في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى الله عليه و سلم : [ من بدل دينه فاقتلوه ] وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا وكتن وقافا عند كتاب الله
هذا جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع مما يدل على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله لا من حيث هم أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم
وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار عن ابن القاسم عن مالك أنه قال : ليس كل ما قال رجل قولا وإن كان له فضل يتبع عليه لقول الله عز و جل : { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه }
فصل إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقه
انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ولم يكمله المؤلف رحمه الله تعالى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق